"الديمقراطية اليوم فلسفة، طريقة للعيش، ديانة وأيضا طريقة للحكم"جورج بيردو الآن وقد وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في العالم العربي.. الآن وقد رحل مبارك بعد مقاومة دامت ثمانية عشرة يوما.. وقبله رحل بن علي بدون مقاومة.. تراجت كل الأعمدة والأهرامات التي خلقت مجد تلك الأنظمة، وتبخرت الزعامات التاريخية بعد أن طورت ديمقراطيات خاصة بها.. ليس بينها وبين الديمقراطية المسطرة في كتب القانون الدستوري وعلم السياسة وفلاسفته إلا الإسم؛ فانتدبوا لأنفسهم طريقة عيش وطريقة حكم جرتهم إلى الويلات التي لا قِبََل لهم بها، فكانت النتيجة حكم بلا مجد وثورة بلا زعامات شخصية، بل زعامات بصيغة الجمع وبصيغة الكل وبإسم الشعب! ما الذي جرى في التاريخ؟! ولماذا لم يجد هؤلاء الحكام قوة موازية تقوِّم الاعوجاجات كما في السابق؟! بعد أن عمد هؤلاء إلى مسح وطمس الأصوات المحتملة للمقاومة، والزعامات نفسها بعد تاريخ من الأمجاد أصابها الوهن بعد العياء، فاختارت إما مجاراة النظام والمشاركة في لعبة التدجين واقتسام الحكم بنية الإصلاح من الداخل، أو فضلت الخروج من عالم السياسة وربما حتى التحليق خارج أوطانها، وفي أنبل المواقف.. المقاومة حتى السجن أو الموت.. ورغم أن التضحية جسيمة وقاسية فقد ظلت معزولة، لم تستشعرها قوات الشعب ولم تنخرط فيها إلا بعد شيوع وسائل الاتصال الحديثة والبسيطة، فثارت الأمة.. ولو أتيحت لِنَفْسِ هذه الأمم، نفس الوسائل فيما سبق من زمان.. مع فظاعات زمان.. لكانت الثورة ثورتين وثلاث ولكانت ردة الفعل أشد وأقوى مما حصل اليوم.. اليوم لا تُفقأ أعين! ولا تحمى أجساد ولا غياهب سجون ولا تنكَّل أنساب، ومع ذلك انفجرت هذه البراكين الثائرة ضد الجوع والإقصاء وعدم تكافؤ الفرص والبطالة.. وغيره.. ودائما بدون الحاجة إلى زعماء يهيجون الجماهير! أسماء في التاريخ القريب الغوص في التاريخ البعيد غير مجد، في وضعنا الداخلي على الأقل في المغرب الحبيب.. والبحث عن زعمائنا بعد الاستقلال خصوصاً فيه رَوْحٌ وريحان.. صحيح الظروف دائما غير الظروف والسياق غير السياق.. لكن في ذلك الزمان القول بأن "لا تتركوا الملك وحيداً أو بعيداً خشية أن يحيط به المفسدون"، قول يحتاج إلى شجاعة وبُعد نظر وسمات شخصية الزعامة من الكاريزمية إلى العلم والمصداقية.. وصفاء الذمة. عندما خرج المغرب من سنوات الاستعمار، كانت أفول الأمة مُجْمعَةً حد الثورة، ولذلك كانت ثورة الملك والشعب، بالمُلْكِ نظاماً والاستقلال مذهبا ورجالاته زعماء! فما الذي تغير حقا.. لم يصبح الزعماء يطربون؟! في حديث مع صديق عزيز، وهو رجل غزير القلم محب للكتاب حتى الثمالة، يتضح أن زمن الحسن الثاني مثلا غير زمن محمد السادس.. على عهد الحسن الثاني عاشت أسماء من قبيل علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد والمكي الناصري وعبد الخالق الطريس، والفقيه البصري، وبلحسن الوزاني والمهدي بنبركة.. وكانت تحيط بالملك مباشرة بطانة من جيل رضى اكديرة وأحمد بنسودة وعبد الهادي بوطالب واللائحة تطول هنا وهناك.. فكان ذلك التجاذب الذي له معناه بين فكر يريد أن يدخل بالمغرب إلى عهد ونظام ومُلْكٍ غير ذلك الذي يريده الفكر المقابل، وفي نفس الوقت كلا الطرفين أعداء بدرجات لمفهوم الانقلاب العسكري بمنطق المذبوح واعبابو وقبطانات هرمومو وبمنطق أوفقير والدليمي.. في المجمل نظام الدولة مبني على حركات وسكنات محيط ملكي حاضر، ورجال أحزاب سياسية أقوياء وجيش أيضا بأفراد مرتبين في رقعة تسيير الشؤون العامة، وعندما توجه الانتقادات والملاحظات توجه كالصخر قوية تجد من يتلقفها بذكاء أو مكر فيرد عليها بمثلها أو أقوى منها.. في نفس الوقت والزمان، السياق العالمي كان يعج بأسماء أخرى في الصين ماو تسي تونغ، وفي الاتحاد السوفياتي غورباتشوف وقبله خروتشوف وفي الولاياتالمتحدة كنيدي وقبله روزفلت وفي إنجلترا مارغريت تاتشر وقبلها.. تشيرشل وفي فرنسا ميتران وجيسكارديستان وقبلهما.. دوغول، وفي "العالم" المصري السادات.. وقبله جمال عبد الناصر! وحافظ الأسد والملك حسين وعرفات. وفي الساحة الفكرية العالمية فلاسفة كبار.. هيدغر، توكفيل نظريات ماركس، ميشيل فوكو، نيتشه، سارتر.. وغيرهم ممن شكلوا أعمدة التدريس بكبريات الجامعات بأكسفور وهارفارد ثم السربون.. هذا هو السياق الذي أُوجدت فيه ملحمة الصراع السياسي داخل المغرب المتخذ نموذجا في هذا المقال، حتى الوزراء عندما يعْلَنُون تكون أسماؤهم ضاغطة وحاضرة بقوة.. عبد الله إبراهيم..عبد الرحيم بوعبيد في الاقتصاد والمالية! بوستة في الخارجية، الهاشمي الفيلالي في الأوقاف.. القادري في الشبيبة والرياضة.. وحتى عبد اللطيف الفيلالي والمعطي بوعبيد تبقى أسماء تجر وراءها ماضي يقدَّر!! إلى وقت قريب قيادات من قبيل عبد الرحمان اليوسفي وبنسعيد أيت يدر والمرحوم علي يعتة وأحمد بوستة، استطاعت، وإن لم تَقُد الدولة إلى ثورة الفوضى الخلاَّقة، أن تحدث ذلك الإنعراج في المسار السياسي عندما شهد المغرب سلسلة مذكرات المطالبة بالإصلاح السياسي والدستوري، فكانت مذكرة بوعبيد وبوستة إلى الملك في 9 أكتوبر 1991 ثم مذكرة 1 نونبر 1993 لبوستة واليازغي وآيت يدر، ثم بيان من أجل الديمقراطية في 11 يناير 1993، ثم بيان الأحزاب الديمقراطية في 23 شتنبر 1994.. تلك المواقف والبيانات كانت بمثابة ختام مشوار لهذه الأسماء، ولكن أيضا بمثابة إعلان آخر عن عهد جديد من أجل إقرار الديمقراطية، الشيء الذي مهد لما أصبح يعرف ببداية التناوب.. ليس القصد هو النظر إلى نتيجة هذا التقاطب والتجاوب وما إذا كان ذلك قد أخرج المغرب فعلا من بوثقة إلى أخرى.. ولكن القصد أنه لم يكن هناك موت للطبقة السياسية، ولم تكن الطبقة السياسية قد دخلت في سبات ما بعد التناوب. ففي خضم ثمان سنوات فقط، عشرات المذكرات وتعديلان للدستور 1992 و1996. وبعد ذلك استكان الجميع إلى انتظار نتائج تلك الفترة على قلتها.. وعلى أمل أن "يَنْعَدِلَ الحال".. لكن الموت غيب الحسن الثاني.. وحب بناء واستقرار وانتقال السلطة جعل عجلة البناء نفسه تدور بأقل سرعة، رغم كل خطوات المُلكِ المشهود لها بدون شك.. كان لابد من أن تسير الأمور على طبيعتها – وكان لابد على الأقل بعد عشر سنوات على دستور 1996 أن يأتي دستور آخر في 2006 قبل انتخابات 2007، وقد كان الظرف مواتيا لذلك، إلى أن أجُهضت المحاولة بسوء أو حسن نية.. تأخر مولد تأثيث جديد في ظل متغيرات أساسها علم التكنولوجيا الحديثة في التواصل.. مُلكنا اليوم، حقيقة مُلْكُ بلا زعماء.. في الصورة ملكٌ شاب يعلو وجهه حياء الملوك وينبض قلبه بحب الفقراء والمستضعفين، من مشارق الأرض إلى مغاربها يرحل جيئة وذهاباً.. فهو ملك الفقراء وملك تقرير الخمسينية وملك هيئة الإنصاف والمصالحة وملك المشاريع الكبرى من طينة المتوسط إلى بحيرة مارتشيكا، إلى مشروع أبي رقراق إلى طرامواي الرباط والدار البيضاء.. وكل مشروع ذو صيت ومبادرات ذات معنى ونبل دفين، التنمية البشرية والحكم الذاتي واللائحة تطول أيضا. والزعماء! لا وجود للزعماء بمعنى عهد السبعينيات والثمانينيات، هناك أسماء.. مع الأسف لا تطرب.. لا تهيِّج.. ببساطة لا تقنع الفئات العريضة.. حتى العدل والإحسان لم يعد لها ما تقدمه أكثر مما كان.. لم يعد الشيخ ياسين، خصوصا بعد رؤياه التي تحققت بعد سنوات..! ولكن في مصر وتونس!! لم يعد مرجعا. وبنكيران والعثماني لا خوف منهما، وعباس ليس إلا وزيراً أول قد خلت من قبله الوزراء.. واليازغي لم يفز بزعامة الاتحاد الاشتراكي الذي هزته حكومة اليوسفي بالأساس.. وآيت يدر طلق المنظمة وعمل على تجميع اليسار وذهب إلى سوس يقرأ التاريخ، وبوستة فوض الأمر لمن بعده في هدوء وذَبَّج مدونة الأسرة واقتصر ظهوره على مؤسسات زعيمه السابق علال الفاسي والنادي الدبلوماسي.. وعلي يعتة خلف وراءه إسماعيل، المنسحب أيضا في هدوء، ونبيل الذي مهما صنع سيكتب في التاريخ أنه رحل من سفارة إيطاليا بفعل "حركة نسائية" لم يعمر في منصبه أكثر من ستة أشهر، عاد بعدها ليقول إنه يعيش أزمة مالية، ولكي يقول أيضا إنه لابد من العودة إلى الكتلة.. مع العلم أن الكتلة لم تعد ذلك الجسم الملتحم كما فيما السابق! وغير ذلك من أجسام قائمة يمكنها أن تتفوه بأقوى العبارات وأقوى الشعارات، ومع ذلك لا تجد لها صدى ولا تأثيرا إن لم تعد على أصحابها بالويل والثبور كما حصل مع رجل إسمه مصطفى المنصوري، اعتقد أنه فعلا صنيعة مجد نفسه ونسي إنه يؤدي دورا داخل حزب من صنع الدولة، لا يصح له أن يقول إن البام سيعود بالبلاد إلى الوراء..! فعاد المنصوري بعد حين فعلا إلى الوراء حتى توارى عن الأنظار، هؤلاء هم العينة التي تأثثت بها ساحة مغرب بداية الألفية الثالثة، حيث الجميع، بمن في ذلك الأدباء والمفكرون ورجال الاقتصاد والنخبة وغير النخبة، ثم "زعماء" الأحزاب لا ينطقون إلا بكلام من قبيل.. "برنامجنا هو برنامج الملك"، ومذهبنا هو توصيات الإنصاف والمصالحة وتقرير الخمسينية، مع العلم أن توصيات الشيئين معا مِلْكٌ للمجتمع بأكمله، وهكذا مع وجود ألف مفكر وألف حزب، لا اختلاف في المعتقدات والبرامج إلى أبعد حدٍ.. وكي نهيم في البساطة، فإن في قمة اليسار فقهاء يُقيمون الليل وفي أقصى اليمين مُخمِرون يقيمون الليل أيضا، والقصد أنه مع تعداد الكهوف الحزبية، فإنها لم تعد تشكل إلا واحدة بفعل لغتها الواحدة.. صحيح أن البعض يقول إن صراعات الماضي مع أنها أنتجت زعماء إلا أنها فوَّتت على المغرب فرصة البناء.. فهل هُدنة الحاضر ساهمت في البناء المنشود؟! لا يطفو على الساحة الآن إلا منطق صديق الملك وصديق صديق الملك ومصطفى العلوي وأسماء أخرى يمكن أن تذكرها صباحاً وتنساها صباحاً.. وليس حتى مساء. انشغل الجميع في بداية العهد الجديد، بتثبيت الآليات، وتعويض البطانة السابقة ببطانة مواتية ومحاربة فكر الإرهاب ضمن السياق العالمي، ورفع نسبة النمو ومحاربة البطالة وابتداع سياسة القرب وخوصصة شركة الاتصالات وبيع أخرى.. وفي هذا الجو سطع نجم الصحافة بدون منازع فقد ملأت فراغاً بعد أن خرست الأحزاب. مُلْكٌ بلا خطباء أيضا! في الماضي عندما كانت تدعو الأحزاب إلى تجمعات، يحج إليها من كل صوب وحدب ومن كل فج عميق.. الفلاح والصانع والمعلم والأستاذ والمهندس والطبيب عن طواعية، لأنهم ببساطة سيكونون على موعد مع ساعات من التأطير والإخبار.. وعندما كان الحديث يدور عن البرلمان أيضا لا يمكن أن يخلف الموعد، المتتبعون على الأقل للإنصات إلى مرافعات أيت يدر وبوستة والخليفة وولعلو.. وحتى أقطاب الأغلبية السابقة كانت تجد من ينصت إليها.. أما اليوم فلا خطيب رغم وجود الرميد ولا صوتا حقيقيا للأغلبية رغم أنها أنتجت في السابق، أيام المعارضة، ألسنا بتارة.. لا طعم لأي شيء.. الفظاعات اللغوية حاضرة بقوة في كل ميدان بما في ذلك البرامج التلفزيونية، والوزراء أفظع حالا رغم حيازتهم لأعتى الشواهد العلمية من مدرسة القناطر بباريس، فهم لا يطربون وبلغة العامة "ما تايعمروش العين" وكأن الجميع أصيب بالمسخ، وزيرة تتحدث عن "البخوش" وآخر يتحدث عن الطرق "المهرسة" وغيره عن البيئة "الموسخة" أي لغة هاته وأي زعامات تلك.. زعماء من ورق، لا يمكن للمُلك أن يُبنى بالورق المبلل "كلشي مضُوبِّي" من الضوباج طبعا، ولذلك دخلوا السباق في الصفوف الأمامية.. ظلما! من يستطيع أن يكلم الملك بلسان صدق وثبات؟ من يستطيع أن يقول للملك قولة حق؟! بل من يستطيع أن يرافق الملك في إصلاحاته؟! ليس العيب في أن نقبل يد الملك، بل العيب أن نقول له "نعماس كلشي مزيان" والحقيقة أن "بزاف المسائل ما مزياناش"! وأولها الامتيازات مامزياناش، ونظام التعليم مامزيانش والقضاء مامزيانش والصحة ما مزياناش وإلياس العماري ما مزيانش والهمة أيضا ما مزيانش..! بكل بساطة لأنه ذات يوم حينما أعلن عن استقالته من منصب كاتب الدولة في الداخلية، قال إن استقالته لا تدخل في أي أجندة! وتبين بعد ذلك أنها أجندة مدققة، مسطرة ومضبوطة.. من يستطيع أن يصنع مُلكا تحيط به زعامات ذات مصداقية محلية ووطنية ودولية.. تساهم من جهتها في تأطير ما لا يمكن أن يقوم به الملك.. عيب أن ننتظر من الملك أن ينزل إلى أنفكو لتفقد أحوال الرعية من البرد، وعيب أن تغوص قدم الملك في الوحل لتفقد أحوال المداشر البعيدة، وعيب أن يقبع الوجهاء والوزراء والقيادات في الرباط، يديرون ملفات يمكن أن يتولاها الموظفون ولا ينزلون إلى المواطن، إلى ملامسة الواقع كما كان يفعل أسلافهم وغيرهم في السابق.. ويكتفون بالقول في سر أو بين بعضهم البعض، لا يمكن أن ننزل قبل الملك.. صحيح اليد الأولى.. يد الملك تشمل المتضررين وغير المتضررين.. لكن لا يجب أن يلتف كل مسؤول على مهمته وقتل روح المبادرة لديه ولدى نظرائه بالاختباء وراء مثل هذه الادعاءات، أَمَّنْ يركب الثور بعد الجواد.. يتنكر أظلافه والغباب؟! [email protected]