التقليد المغربي في الحكم والوضع الدستوري قبل الحماية التنظيم الدستوري لمغرب ما قبل الحماية ، كان يقوم في معظمه على أسس الشريعة الاسلامية المبنية على البيعة والشورى، امتثالا لقوله تعالى «وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله» وقد بحث هذا الموضوع العلامة الماوردي في كتابه «الاحكام السلطانية». فمنذ ان انفصل المغرب عن الخلافة العباسية أخذ عبد المومن الموحدي يلقب بأمير المؤمنين، لأن السلاطين المغاربة كانوا دائما يتحاشون لقب «الخليفة» ويحبذون لقب إمام أو أمير المؤمنين، ويلاحظ أن المغرب منذ اعتلاء الدولة العلوية عرشه ، بقي البلد العربي الاسلامي الواحد الذي يحكمه إمام قرشي من سلالة النبي (ص). ان ثمانية قرون من التجربة السياسية جعلت المغرب يمتاز بأسلوب خاص في الحكم، والتقاليد الديمقراطية في البلاد، جعلت للملك في المغرب ميزات خاصة تظهر في الآتي: 1 - أهمية الموافقة الشعبية على اختيار الملك وبقائه في العرش. 2 - التحديد الضيق لسلطة الملك «في التشريع والتنفيذ والقضاء» 3 - مشاركة الأمة في ممارسة السلطة والحكم إلى جانب الملك. أهمية الموافقة الشعبية على اختيار الملك ان الشعب المغربي هو الذي يختار ملكه وحكامه وفقا لمبادئ الشريعة الإسلامية، ولاتؤخذ هذه الموافقة من طرف الجماعة الاسلامية نفسها بواسطة استفتاء عام، بل عن طريق ممثليها الطبيعيين، فهذا المبدأ تعمل به معظم الدول الديمقراطية التي يختار فيها رئيس الدولة بالاستفتاء الديمقراطي غير المباشر أو المباشر النسبي. اختيار الملك العادة في الحكم التقليدي المغربي ان جلالة الملك يختار من بين أبنائه من يخلفه في الحكم، وعادة يعين الابن البكر وليا للعهد ، وهكذا عين المرحوم محمد الخامس ابنه مولاي الحسن لخلافته في الملك، وفي 9 يوليوز 1957 خاطبه بقوله: « كن يابني ديمقراطيا بطبعك ، وشعبيا في ميولك، وعواطفك، لأنك تعلم جيدا أن أسلافك الكرام لم يصلوا إلى الملك عن طريق القوة، ولم يبقوا على العرش بواسطة القوة، وكان قبولهم للحكم تمليه المصلحة الوطنية العليا والاستجابة لرغبة الشعب». أهمية البيعة ان البيعة تفويض حقيقي محدود «للسلطة» تقوم به الأمة نحو ملكها، وكثيرا ما تكون البيعة مصحوبة بشروط وقيود وتحديدات، لاسيما في الأوقات الحرجة العصيبة، وقد تكون هناك تقييدات خاصة ناتجة من ظروف خاصة، وتتم البيعة باجتماع أعيان كل مدينة في المسجد الأعظم وتحريرهم دفترا يشبه دفتر شروط، أو عقدا اجتماعيا يكون الملك ملزما باحترامه، وهكذا حين اعتلاء المولى عبد الحفيظ للعرش المغربي سنة 1908 فرض الأعيان والعلماء على الملك في البيعة شروطا أهمها: 1 - عدم تطبيق عقد الجزيرة الخضراء. 2 - تحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي 3 - إلغاء نظام الأجانب داخل التراب المغربي. 4 - إلغاء الديون التي على المغرب للأجانب واعتبارها ديونا شخصية يسأل عنها مولاي عبد العزيز. 5 - إحداث مجلس الشورى وإصلاح التعليم. وقد جاء في نص مبايعته ما يلي: «ويسعى السلطان جهده في رفع ما أضر بهم من الشروط الحادثة في الجزيرة الخضراء حيث لم توافق الأمة عليها ولاسلمتها ولا رضيت بأمانة من كان يباشرها ولا علم لهم بتسليم شيء منها، وأن يعمل ما في وسعه لاسترجاع الجهات المأخوذة من الحدود المغربية وان يباشر اخراج الجيش الأجنبي من المدينتين (وجدة والدار البيضاء) اللتين احتلهما، ويزين صحيفته الطاهرة بحسنة استخلاصها، وان يستخير الله في تطهير رعيته من دنس الحمايات والتنزيه من اتباع اشارة الاجانب في أمور الأمة لمحاشاة همته الشريفة عن كل ما يخل بالحرمة، وإن دعت الضرورة إلى الاتحاد والتعاضد، فليكن مع إخواننا المسلمين كآل عثمان وأمثالهم من بقية الممالك الاسلامية المستقلة ، وإذا عرض ما يوجب مفاوضة مع الأجانب في أمور سلمية أوتجارية فلايبرم أمرا منها الا بعد الصدع به للأمة حتى يقع الرضى منها بما لايقدح في دينها ولا في عوائدها ولا في استقلال سلطانها، وان يوجه أيده الله وجهته الشريفة لاتخاذ وسائل الاستعداد للمدافعة على البلاد والعباد، وأن يقر العيون والنفوس برفع ضرر المكوس، ويحقق رجاء خدامه وكافة رعاياه بالذب عن حرماتهم ودمائهم وأموالهم وأعرافهم وصيانة دينهم وحياطة حقوقهم، وتجديد معالم الاسلام وشعائره بزيادة نشر العلم وتقويم الوظائف والمسجد وأجراء الاحباس على عملهم القديم، وانتخاب أهل الصلاح والمروءة للمناصب الدينية، وكفء العمال عن الدخول في الخطط الشرعية ، ومما يقتضيه حسن سيرته وكمال وفائه بجميل الصنع بشريف القرابة وتقريب الصالحين واعتبار مقادير الأشراف وأهل العلم والدين، واقرار ذوي الحرمة على عهد لهم من المبرات والاحترام وظهائر الملوك الكرام، وابعاد الطالحين واخساء المفترين والواشين، ومعاملة المؤمنين بما تعودوه منه ومن أسلافه المقدسين من إيثار العفو والحلم والرفق والاناة وتجديد مآثر الخير في حالة العز وإثبات، وحسن الظن بسيدنا أيده الله حمل أهل مملكته الشريفة المتيمنين بكرم بيعته الحنيفة على أن يصدعوا لجلالته بما أثارت فيهم مضرته عالمين أنهم لايكشفوا ما بهم الا عناية مولانا المنصور وهمته» (1) . وقد اهتم السلطان عبد الحفيظ قبل مبايعة أهل فاس له، بانذار بعض الدول الاجنبية والاسترعاء أمامها مما بلغ الى علمه من قرض فرنسا لأخيه مولاي عبد العزيز معلنا أنه لايعترف بهذا القرض وأنه يعتبره ديونا شخصية لأخيه عبد العزيز لاتتحملها الدولة بحالة من الاحوال (2) وهكذا فالبيعة تشمل إذن نوعا من عقد بين الملك وأفراد الشعب يشبه إلى حد كبير عقد (بل أن ريت) الذي قدم سنة 1689 من طرف مجلس العموم واللوردات إلى الملك (غيوم) حين اعتلائه عرش بريطانيا العظمى. وفي هذه الحالة لا يستغرب من خلع بعض الملوك خلال الحقب التي مرت من تاريخ المغرب نتيجة لانقطاع رابطة البيعة التي تربط الملك بشعبه ضمن شروط معينة، فقد خلع محمد بن عبد المومن لأنه كان مستهترا (وهو من ملوك الدولة الموحدية) وخلع أيضا مولاي احمد الذهبي السعدي الذي أبعدته ثورة شعبية كبرى عن الملك، وكذلك خلع مولاي عبد العزيز لأنه اضطر إلى التوقيع على مقررات الجزيرة الخضراء بسبب الضغط الدولي الجماعي فقرر الشعب خلعه ومبايعة أخيه المولى عبد الحفيظ. التحديد الضيق لسلطة الملك إن الملك لم يكن يملك السلطة التشريعية، إذ تبعا لقواعد الفقه الإسلامي والشريعة فإن الملك ليس له حق التدخل في المسائل الشرعية التي مصدرها القرآن والسنة وأن إصدار الظهائر من طرف الملك كان منحصرا في قراراته الخاصة جدا، حصل هذا قبل الحماية وأثناءها. وعليه فقد كان هذا التحديد يشمل التشريع القرآني والتشريع بمعناه الأصلي، والدليل على ذلك الاستشارات والفتاوى التي كان يطلبها السلاطين المغاربة حينما كانوا يريدون إصدار قرار عام، فقد طلب السلطان مولاي الحسن الأول من العلماء فتوى تسمح له بالبدء في تطبيق نزع الملكية للمنفعة العامة، لكن العلماء رفضوا إعطاء فتوى من هذا القبيل، حرصا منهم على مصالح بعض المواطنين الذين كان يشملهم قرار نزع الملكية. وحتى بالنسبة لممارسة الملك مهامه الخاصة فلم يكن حرا في هذا المجال فبما أنه مُبايع من طرف الأمة فهو يعمل لحسابها وملتزم باحترام مصالحها العليا. ولهذا فلم تكن سلطته شخصية مثل التي كانت للملوك في أوروبا، أن يتصرف فيها باختياره فلا يفوضها لغيره دون مراقبة ودون إمكانية ذوي السلطة المطلقة، كما أن السلطات المفوضة إليه من طرف الأمة لا يمكن استرجاعها، وبما أن ا لملك عاهل للأمة التي اختارته برضاها عن طريق البيعة، فإن الموظفين الذين يعينهم الملك ليسوا مرتبطين به شخصيا بل بالجماعة الإسلامية، فالقاضي يعينه الملك للفصل بين جماعة المسلمين وفقا لإحكام الشريعة والقانون المستمد من التشريع الإسلامي. أهمية مشاركة الشعب من ممارسة السلطة بما أن سلطة الملك كانت محدودة في نطاق مصالح الأمة وحماية الدين الإسلامي فإن ذلك أدى بالملوك المغاربة للبحث عن المجالس التي تسهر على شؤون الإدارة، وقد كانت لهذه المجالس مهام مختلفة حسب كل دولة من الدول التي تعاقبت على حكم المغرب منذ الفتح الإسلامي حتى الآن. ففي عهد الموحدين أسس المهدي بن تومرت مجلسين: المجلس الأول كان يتكون من عشرة أعضاء أغلبيتهم من قواد الجيش ومن تلاميذ مذهب الموحدين المخلصين للمهدي بن تومرت، وكان هذا المجلس يلعب دور مجلس الوزراء في العصر الحاضر، والمجلس الثاني هو مجلس الشورى الذي كان يتكون من خمسين عضوا يمثلون القبائل المغربية، ويؤخذ رأي هذا المجلس في جسام الأمور وأعظمها شأنا. وفي عهد الدولة العلوية وبالضبط أيام المولى عبد العزيز كان يوجد المجلس الأمي أو(مجلس الأمة) الذي كان يتكون من الأعيان ومن العلماء يستشيرهم الملك في الحالات العويصة والمشاكل التي يستعصى حلها. وهكذا فقد اضطر السلطان عبد العزيز إلى الاستعانة بفتوى العلماء لدفع اقتراح من الدول موجه إليه، على اعتبار أنهم أهل الحل والعقد في التقاليد المغربية، وتطور مجلس الأعيان أو (مجلس الأمة) فأصبح مجلسا استشاريا. ففي سنة 1905 استشار الملك هذا المجلس في موضوع الإصلاح الإداري الذي كان قد قدمه (سازروني تاياندين) فكان جواب المجلس كمايلي: «إن الجلالة الشريفة ليس لها الحق بالقيام بعمل ضد إرادة شعبها ولاسيما في المسائل التي من حق الشعب المغربي بإسماع صوته فيها». والجدير بالذكر أن المميزات التي كانت تطبع أعمال الملك وتصرفاته كانت تضعف أو تقوى حسب شخصية الملك والظروف السياسية والتاريخية التي يعيشها عهده. وهكذا فالملك الحاذق الماهر لا يمكنه أن يتخلى عن إرادة الأمة ويعمل بمفرده بعيدا عن مبدأ الشورى الذي أقره الإسلام كقاعدة أساسية للحكم الديمقراطي، وفي جميع الظروف والأحوال التي عاشها الحكم التقليدي بالمغرب كانت سياسة المجالس بيد الملوك المغاربة ذات أهمية قصوى يحفظون بها توازن السلطات وديمقراطيتها. الوضع الدستوري للمغرب قبل الحماية يقول الأستاذ علال الفاسي في مقدمة كتابه «حفريات دستورية» تحدثت في كتابي تاريخ الحركة الاستقلالية في المغرب العربي عن جماعة لسان المغرب ومشروع الدستور الذي رفعته إلى جلالة السلطان عبد الحفيظ وأشرت إلى أن ذلك كان بمثابة بلورة لحركة دستورية قائمة من قبل يرجع إليها فضل الوصول إلى تأسيس مجلس الأعيان زمن مولاي عبد العزيز، ورفض معاهدة الجزيرة الخضراء ثم إقامة الثورة الحفيظية التي كانت ترمي إلى تحقيق ما لم يستطع تحقيقه زمن مولاي عبد العزيز. وقد وقفت أخيرا على مذكرة رفعها صاحبها إلى جلالة مولاي عبد العزيز على إثر مطالبة الدول (بالاصلاحات) في مؤتمر الجزيرة وهي عبارة عن توجيه نحو إقامة نظام نيابي يفزع إليه الملك لرفض ما لا يمكن قبوله من تلك الإصلاحات المزعومة اعتمادا على ممثلي الشعب، مشروع دستور لتنظيم الدولة بقانون أساسي في إطار ملكية دستورية. ونجد الأستاذ علال يتساءل عمن وضع هذه المذكرة التي كتبت بأسلوب قريب من العامية مما يؤكد أن كاتبها ليس من رجال النخبة التي كانت موجودة، إذذاك وربما - يقول الأستاذ علال - قد يكون صاحب المذكرة طارئا على المغرب من إحدى البلدان المشرقية لأنه كتب في الديباجة ما نصه: «أما بعد فلما تشرفت بالأقطار المغربية وتطلعت على أحوال أهلها سرني ما رأيت منهم من اتحاد الجنس... إلخ)، فهذه الفقرة تجعلنا نظن أن الكاتب طارئ على المغرب ولكنه استوطنه وأصبح يعتبر نفسه واحدا من أهله الذين يمكن أن يوجهوا للملك النصح ويتحدثوا إليه كواحد من رعاياه المخلصين، وسواء كانت المذكرة من وضع مغربي أو أجنبي فإنه يهمنا أولا وقبل كل شيء تقديم ما احتوت عليه المذكرة من تحليلات. علال الفاسي يكتشف مذكرة دستورية هامة كلنا نعرف الظروف التي خلقتها ولاية السلطان المولى عبد العزيز بعد وفاة والده الحسن الأول، فقد كان حدثا صغير السن وكان الذي استولى على وصاية الملك هو الوزير باحماد، إذ كان هذا الوصي قد قام بأمر السلطنة مدة وجوده على أحسن وجه ممكن، لما عرف به من حسن الإدارة وقوة الإرادة، فإنه لم يلبث أن توفي بعد خمسة أعوام، وبقي الشريف تحت قبضة الدائرة الجديدة. التي كانت تتطاحن بحسب انتماءاتها السياسية الراجعة إلى صلتها بإحدى الدول الأجنبية، وكانت فرنسا توالي ضغطها على المغرب بينما انجلترا تقهقر معارضتها حتى وقع الاتفاق الودي مع فرنسا سنة 1904 ، ومن المعلوم ان انجلترا كانت قد نصحت المغرب مراراً منذ عهد السلطان عبد الرحمن واستيلاء فرنسا على الجزائر بإدخال اصلاحات دستورية تتقي بها الاطماع الفرنسية والاجنبية، وكان الوزير ابن ادريس العمراوي من الذين اقتنعوا بهذه الفكرة ودافعوا عنها، واستمر الحوار الداخلي منذ موقعة إسلي في جو يكتنفه الغموض والتذبذب، وكان اتجاه الملك الحسن الأول إلى العمل الدؤوب والرعاية الجدية وتوجيه البلاد نحو الثقافة العصرية والتنظيم العسكري الجيد توقياً من التغلغل الأجْنبي، وقد حاول با أحمد مسايرة هذه الخطة الحسنية فلما توفي با أحمد فتح باب التهافت الأجنبي على المغرب باسم مطالب الاصلاح. وحبا الإستفادة من هذه المنافسة طلب السلطان المولى عبد العزيز عقد مؤتمر الجزيرة الخضراء، عساه يجد من غلواء فرنسا ومطالبها، ثم عاد فلاذ بمجلس الاعيان ليتذرع به الى رفض المصادقة على مقررات المؤتمر المذكور لما تفرضه من اصلاحات مغشوشة. ويظهران الدعوة الى المؤتمر جاءت بعد فوات أوانها اذ ان التوزيع الاستعماري كان قد تم بين فرنساوانجلترا وايطاليا واسبانيا، ولم تبق إلاّ المانيا الغاضبة التي تساند المغرب ريثما تتاح لها فرصة التخلي عنه مقابل ما نالته في الكاميرون والتوغو..؟ لاشك أنه في خلال المدة التي قام فيها الحوار بين السلطان مولاي عبد العزيز وبين الدول في شأن إصلاحات الجزيرة الخضراء، وفي الوقت الذي كان الشعب يغلي ضد قرارات المؤتمر، ومجلس الاعيان يتدارس محتواها، كانت النخبة تحاول ان تجد منفذاً لخلاص الملك والشعب من الضغط الاجنبي على شكل يرضي الأمة ويحفظ كيان الدولة. في ذلك الجو رفع صاحب هذه المذكرة (المجهول) وثيقته للسلطان عبد العزيز والتي يؤكد فيها قوله: (ثم اطلعت على ما تم عليه مؤتمر الجزيرة من عمل البوليس والبنك وغيره وان عموم الرعية نافرة من هذا التدخل خوفاً من رسوخ قدمي المباشرين، من الضباط الإفرنسيين والإسبانيول اذا صفا لهم الوقت، لأنهم بدعوى الاصلاح يلزمون الحكومة على الاستدانة وسيؤول أمرهم على مراقبة واردات المخزون ومتصرفاته. فالمذكرة اذن كتبت بعد انتهاء مؤتمر الجزيرة الخضراء، وهي تؤكد لنا رفض الأمة جميعها لمقرراته من تأسيس البوليس والبنك وغيره، كما انها تبيّن الأسباب التي جعلت الأمة ترفض ذلك وهي: 1 الخوف من التدخل الاجنبي في شؤونها الداخلية. 2 ما يؤدي اليه هذا من التوظيف (ضباط وموظفين اجانب) باسم الخبرة الفنية. 3 بما أن مالية الدولة لاتكفي للإنفاق على متطلبات الانجاز المعجل للاصلاحات المطلوبة، فإن ذلك سيلزم المغرب بالاقتراض من مال الدولة المتدخلة، وذلك ما يؤدي الى فرض رقابة هذه الدول على واردات المخزن (أي الدولة). وهكذا يتضح ان الشعب كان مدركاً خطورة ما يراد به، فهو لايعارض السلطان عبد الحفيظ في البيان الذي وجهه بمجرد مبايعته للدولة الأجنبية عن هذه التخوفات الشعبية من اقتراحات تمس بسيادة الدولة وطهارة الدين الاسلامي. أما وسيلة الانقاذ فهي أن لايبقى الملك وحده وجهاً لوجه مع الدول الأجنبية التي تطالبه بأن يوقع لها المصادقة على مطالبها محتجة عليه بأنه صاحب السلطان المطلق وأن قراراته نافذة ولا معقب لها، والأجدى له أن يرد الأمر إلى الشعب عن طريق إعلان قانون أساسي وتنظيم مجالس نيابة ينتخب الشعب ممثليه فيها وهؤلاء الممثلون هم الذين يقررون فيما إذا كان الاصلاح المقترح مقبولاً شعبياً ودينياً أم لا، وهم الذين يتولون الاشراف على تنفيذه والبحث عن طريق تمويله دون حاجة الى الاستعانة بالأجنبي إلاّ فيما يرجع للقوانين والأنظمة التي يمكن دراستها والاستفادة منها، ولكن هل يمكن للمغرب ان يتدارك الأمر في مدة وجيزة، وهل له من عناصر الوحدة وما يضمن له النجاح..؟ تجيب المذكرة عن ذلك بالإيجاب، فهي تجمل في طليعتها تبيين ما للمغرب من عناصر الوحدة، فالشعب المغربي متكون من عنصر واحد عربي وبربري متخرج منذ القديم، وهو شعب متمسك بالاسلام ومتعلق بالملك، فاذن وحدة العنصر والدين مضمونة، ثم هناك الإلتفاف حول القائد الاعلى ألا وهو الملك، وهي مقدمات لاتجتمع لأمة الا نادراً. ونجد أيضاً صاحب المذكرة يعطى أمثلة من أمة اليابان وتركيا، فهاتان الدولتان اللّتان كانت لهما مشاكل ناشئة عن تهافت أوروبا عليها حيث يقول: «على يمكن لحكومة المغرب ان تبلغ ما بلغته اليابان بأقرب وقت اذا اقتفت أثر اليابان التي استبدلت الاستبداد بالشورى ونظمت قوانين الدولة واهتمت بالتعليم وارسلت البعثات الى الخارج والغت الامتيازات الاجنبية. وبما ان المغرب في موقفه شبيه بموقفي تركيا واليابان فلا محيد له عن الأخذ بوسائل النهوض التي اخذ بها غيره، فالعودة الى الشعب ليقرر مصيره بنفسه خير علاج للمشكل وانجع طريق للنهوض وسبيل ذلك ثلاثة أمور: 1 بتشكيل مجلس الأمة. 2 بالشروع في تشكيل عسكر جرار على وجه منتظم. 3 بتمويل داخلي يتيسر معه تحقيق ما تطلبه أوروبا من الاصلاح دون حاجة إلى مساعدتها. من الأمور التي احتوت عليها الوثيقة الدستورية لقد اهتمت المذكرة الدستورية بمشاريع ثلاثة، فعن المشروع الاول المتعلق بمجلس، ورد في المذكرة أن الأجانب عندهم مجلس الأمة مقدس ومعمول به في داخل بلادهم، فاذا شرحت الدولة لهم استعدادها لتنفيذ الاصلاح مع ضرورة الرجوع إلى مجلس يمثل الأمة للبحث عما ترضى عنه من اقتراحات وما لاترضاه باعتبار أنها أمة مسلمة لايمكنها تنفيذ ما يخالف الشريعة المحمدية، فان الدول تتقبل ذلك وتقدره على اعتبار أن ارادة الشعوب محترمة عندها.. أما الفوائد التي تنتج بتشكيل مجلس الملّة حسب المذكرة: 1 نصر عدالة جلالة السلطان على جميع الرعية وينتفي الظلم عندهم: 2 تصير همة المأمورين في إبراز ما ينفع الدولة وعموم الرعية.. 3 تكثير واردات الحكومة للقواعد التي يجريها على الملّة في طيها.. 4 تراجع العصاة المتمردين إلى ما ينشر عدل الملك وفضائله.. 5 حسن الدعاية في وسط المسلمين المجاورين للمغرب. 6 تكثير الصنائع في المملكة وتعمير الأراضي فتكثر واردات الحكومة يوماً فيوماً... وهذه العلل التي ذكرها صاحب المذكرة كلها تدل على تعمق في فهم الديمقراطية ونتائجها جديرة بأن تقنع العاقل بضرورة اقرار حياة نيابية للتحرر من المطامع الأجنبية وضمان الإستقرار الداخلي وإعطاء القوة للدولة الافريقية المجاورة. أما مجلس الأمة فيتركب من مجلسين: مجلس الشورى أو الملّة، ومجلس الأعيان أو المجلس الأعلى، ومواد تنظيمه اثنتا عشرة مادة، ويمكن الزيادة والنقص فيها بموافقة الأعضاء ومصادقة الملك. ويتركب مجلس الأمة من نواب تنتخبهم القبائل والمدن، واحد عن كل قبيلة أو بلد لمدة خمس سنوات. ولا يرى صاحب المذكرة أن يكون النائب أمياً أو جاهلا، بل لابد أن يكون عارفاً بالكتابة والقراءة وبأعمال الحساب الأربعة وممن درس الشيخ خليل وعرف معناه، زيادة على شرط السن ما بين 30 إلى 60 عاماً والكفاءة المالية وحسن السلوك. وسيكون لهؤلاء الأعضاء حق اقتراح القوانين أو تنظيمها كما لهم حق التقرير فيها بالأغلبية، ولا يقيد رأيهم إلا الكتاب والسنة، أي عدم مخالفة الشريعة فيما يقررون وهو قيد نافع في مقاومة استبداد المجالس النيابية التي يشتكي منها الرأي الديمقراطي في بلاد الغرب. ومن مهمة المجلس النظر في الميزانية وتعيين الأداءات الشرعية الواجب استخلاصها من الأمة من دون استثناء طبقاً لأحكام الشرع وتعيين مصاريفها وضبط الوظيفة العمومية وتحديد الأجور التي تخصص للوزراء وغيرهم. وبصفة عامة البحث عن موارد الدولة ومراقبة نفقاتها وتنظيم الجيش وطريقة التربية العسكرية. وإلى جانب ذلك على المجلس أن يراقب أعمال العمال ومحاكمتهم إن اقتضى الحال ومحاسبة الأمناء، أي ان المجلس هو الذي يشرف على ديوان المحاسبة وهو الذي يشكله. ويقوم المجلس باختيار لجنة من العلماء والقضاة والعارفين بأحوال الوقت لتدوين قانون مستجد من الشريعة الاسلامية على مقتضى المذهب المالكي المعمول به في المغرب اقتداء بمجلة الأحكام العثمانية ولا يصبح بهذه المدونة ملزماً، إلا إذا صادق عليه مجلس الأمة وحينئذ يذيلها الملك بخاتمه الشريف لتطبق أمام القضاء فمع استقلاله وتتم مراقبته: 1 - بطريق الزامه بالحكم وفقاً لما في مدونة الأحكام، وعلى القضاة إذا طرأ أمر لا يجدون له نصاً في المجلة أن يردوا الأمر للمجلس الذي يصدر فيه تشريعاً مطابقاً للدين ويصبح بعد إقراره من مواد المجلة. 2 - باستثناء أحكام القضاء لدى مجلس الأمة، ما يقضى تعمد مخالفة الشريعة فإنه يأمر بعزله ولا يُولَّى بعد ذلك في أية وظيفة أبداً ويعاقب إذا اقتضى الحال من سنة إلى خمس سنوات. ويمكن لكل أحد أن يقدم شكوى من أي موظف أو وزير تصرف في نظره تصرفاً فيه شطط، وتجري في المجلس نفس الطريقة التي يتخذها في حق الحكم المستأنف. فالمجلس النيابي إذن زيادة على ما له من حق التشريع والمراقبة يقوم بدور محكمة الاستئناف وبدور القضاء الاداري، وذلك ما يعطي النواب قوة عظيمة في البلاد. والمجلس أيضا هو الذي ينظم الشرطة وسشرف على اعداد رجالها، وهو الذي يستأنف قراراتها ويعاقب المشتكي منهم ويحق للمدين منهم استئناف أحكامهم. وبما أن تمويل المشروعات التي تعرض أمام مجلس الأمة أمر مهم فإنه يرجع إليه النظر في طريقة الحصول على هذه التمويلات إما من الميزانية العامة أو بإحداث ضرائب خاصة أو إعطاء مجلس الأمة حق تأسيس مؤسسة خيرية لتنفيذ المشروع، والذي يهم هو أن يتم تحرير الدولة من الحاجة إلى القروض الأجنبية التي كثيرا ما تنقلب عبئاً على البلاد يتسبب في ضياع استقلالها وأن يستغنى عن المكس والسخرة التي قد ترهق كاهل الشعب. أما مجلس الأعيان فيتركب من عشرين عضواً خمسة من رشداء الأسرة المالكة وخمسة من الذين قدموا للدولة خدمة جليلة، والعشرة الآخرون ينتخبون من أعضاء مجلس الأمة، ويرأس المجلس أمير المؤمنين (الملك) ولا تُمضى قرارات مجلس الأمة إلا بعد عرضها على مجلس الأعيان وتنقيحه لها والملك هو الذي يصدر أمره بالعمل بها. هذا فيما يخص المشروع الأول والمتعلق بالمجلس الاستشاري، أما المشروع الثاني الذي تحتوي عليه المذكرة فيتعلق بكيفية تشكيل جيش جرار على وجه منتظم (دون تكليف المخزن بمصروفات افراده). ويتكون هذا الجيش حسب نظر (صاحب المذكرة) من الضباط الأكفاء الذين يمكن تدريبهم على يد نخبة الضباط الفرنسيين لمدة قصيرة، ومن الجيش النظامي الذي يشمل الخيالة والمدفعية، ومن الجيش الشعبي الذي يمكن أن يصل عدده إلى مليون مواطن من البالغين سن العشرين إلى الأربعين عاماً، ويقضي هؤلاء نصف النهار في أشغالهم المختلفة، ومنذ الساعة الثالثة إلى الخامسة تصبح البلاد كلها عبارة عن معسكر واحد للتدريب يخرج فيه المجندون في كل حومة أو دائرة الى حيث يجدون أولئك الضباط المؤهلين لتدريبهم وتعليمهم الفنون العسكرية نظرياً وعملياً. وعلى كل واحد من المجندين أن يدفع ثمن بندقيته، ويتحمل كل عشر مجندين ثمن قُبّه (وثاق) وهذا الجيش الشعبي يتكون من المشاة الذين يتهيأون لاستجابة نداء الملك كلما طلب منهم ذلك. أما مهمة الجيش الشعبي فهي. 1 - مشاركة الجيش النظامي في الدفاع عن حوزة الوطن. 2 - قمع المتمردين داخل الوطن. 3 - الاشراف على أمن المدينة والطرقات. وتجيب المذكرة عن التخوف الذي يمكن أن يحصل من تسليح الرعية الذي ربما يؤدي إلى اتفاقهم وانقلابهم على الدولة بأن العدل الذي تقوم به الدولة هو الذي يحميها من كل انقلاب أو فتنة وليس السلاح، بل وتبشر بأن تنفيذ محتويات هذه المذكرة سيزيل من المغرب كل الفتن ولاسيما بعد إعفاء الرعية من كل أداء ضريبي غير شرعي. وتحتوي المذكرة على عرض لميزانية يومية تقريبية تبلغ ثمانمائة وسبعة وعشرون ريالاً تكفي للقيام بحاجة 22 ألف عسكري المفروض انهم عدد المعبئين من مدينة في حجم مدينة فاس. أما المشروع الثالث في المذكرة فيتعلق بالطريقة التي تكفل للبلاد الاكتفاء الذاتي لتمويل الاصلاحات المنشودة وإغناء الفقراء أي تحقيق عدالة اجتماعية عن طريق الضمان الجماعي لكل أفراد الأمة. والتمويل يعتمد فيه على أمر واحد هو دخل الأوقاف الاسلامية لأنه يرى في وجود خمسة آلاف مسجد وزاوية على الأقل في المغرب ما يضمن أوقافاً تفضل منها بعد مصروفات الحاجة مبالغ تكفي لتمويل المشروعات، وإذا لم تكن موارد الأوقاف كافية يمكن منح الامتياز لشركات أجنبية لاستغلال مشروع ما، وفي حالة تعذر ذلك يمكن تمويل المشروعات عن طريق التقشف وبذل الفائض من ضرورياتها وخلق المال بوسيلة العمل وتقوية الانتاج والتعاون، وتوصي المذكرة بأن يؤسس للأوقاف مجلس مركب من خمسة من العلماء يتكلف كل واحد منهم بإدارة فئة خاصة من فئات الأمة أو من سراتها، فالعلماء يشرفون على المعاهد العلمية وتنميتها والفئات الأخرى تشرف على الزوايا وعموم الأحباس ويكون لهذا المجلس القائم في العاصمة مجالس فرعية في مختلف أقاليم المملكة تقوم محلياً بنفس المهمة تحت إشراف المجلس المركزي ومجلس الأمة والأعيان والملك. بهذا أكون قد قدمت عرضاً شاملا لهذه المذكرة من خلال كتاب «حفريات دستورية» هذه الوثيقة الهامة في تاريخنا التي اكتشفها الفقيد رحمه الله وأولاها عناية خاصة للأفكار والمبادئ الدستورية التي اشتملت عليها فرحم الله أستاذنا علال الفاسي وأسكنه فسيح جناته. الهوامش: (1) يمكن الرجوع الى نص البيعة المنشور برمته في الجزء الأول من كتاب «الاعلام» للمؤرخ عبد الرحمن بن زيدان صفحة، 449 وما بعدها. (2) يمكن التوسع في هذا الموضوع بالرجوع إلى كتاب «حفريات دستورية» للأستاذ علال الفاسي وكتابنا «المغرب قبل الاستقلال».