بعد دعوة جلالة الملك المغاربة للمشاركة في الانتخابات التشريعية باعتبارها حق دستوري وواجب وطني، ظن الجميع أن الشعب سيلبي دعوة عاهله إما فهما منه لما أكد عليه جلالته من أن المشاركة في مصلحة الوطن أو تحقيقا لرغبته السامية، ثم جاءت ساعات الاقتراع بالحق، وتخلف ثلثا الناخبين المقيدين في اللوائح الانتخابية عن تأدية واجبهم وممارسة حقهم. فهل قاطع المغاربة الانتخابات جهلا منهم بأهمية البرلمان أم اقتناعا بعدم جدواه ؟ "" دهب بعض المحللين إلى أن المقاطعة كانت عقابا للأحزاب التي لم تستطع تقديم برامج تعبر عن حاجيات المواطن و همومه و تطلعاته والى فقدانه الثقة فيها بعدما أبانت عن قصور في تدبير الشأن العام و تحسين والوضعية الاقتصادية و الاجتماعية و الحقوقية للمواطنين. بينما دهب آخرون إلى أن المقاطعة كانت رسالة إلى الدولة تنذر بتلاشي روح المواطنة وفقدان الثقة في مسلسل الإصلاح و التغيير. غير أنه توجد نظرية ثالثة لم يتطرق لها المحللون، ربما لأنهم لا يعتبرون أن الشعب المغربي واع كفاية ليفهم أن البرلمان بغرفتيه وميزانية تسييره و أجور و معاشات نوابه يشكل عبئا على أموال الشعب دون منفعة ترجى من ورائه وان تلك المصاريف يمكن استعمالها في تحسين حياة الشعب إذا ما تكلف جلالة الملك بمهمة التشريع مراعيا المصلحة العليا للبلاد كما تلزمه البيعة. قد يدعي المشككون في هذه النظرية أن نسبة الأمية المرتفعة و عزوف المواطنين عن المشاركة والتنظيم السياسيين تنفيان عن الشعب مسألة الوعي ويتناسون انه في الولاية البرلمانية السابقة كان الشعب برمته على موعد مع درس تطبيقي حول نمط و آلية التشريع في المغرب و حول دور البرلمان. كان على موعد مع درس لا يمكن لأي مواطن تجاهله أو التخلف عنه باعتباره يمس خلية المجتمع و بؤبؤ عينه، درس اسمه قانون الأسرة. ولعل ديباجة قانون الأسرة أحسن ملخص لذالك الدرس التاريخي، أدعوكم إلى قراءة و تمعن فيها، قراءة تذكير لأنكم كنتم كلكم في حينها معنيون بمخاض هذا القانون الذي استعملت الدولة كل الوسائل المتاحة و المبتكرة لجعل كل المغاربة معنيون به و مشاركين فيه.
ولعل أهم و أعمق ما جاء في ديباجة قانون الأسرة هو تعبير : "وإن ممثلي الأمة بالبرلمان ليثمنون عاليا المبادرة الديمقراطية لجلالة الملك، بإحالة مشروع مدونة الأسرة على مجلسيه للنظر فيه، إيمانا من جلالته، باعتباره أميرا للمؤمنين، والممثل الأسمى للأمة، بالدور الحيوي الذي يضطلع به البرلمان في البناء الديمقراطي لدولة المؤسسات." فكان هذا التعبير اعترافا من البرلمانيين أنفسهم أن دورهم حيوي ولكنه غير ضروري و أن تمكينهم من تبرير الرواتب الهامة التي يتقاضونها هو هبة من صاحب الجلالة.
وجاء أيضا على لسان البرلمان : " كما أن البرلمان يقدر بامتنان الحرص المولوي السامي على إيجاد قضاء أسري متخصص، منصف ومؤهل عصري وفعال؛ مؤكدا تعبئة كل مكوناته خلف مولانا أمير المؤمنين، من أجل توفير كل الوسائل والنصوص الكفيلة بإيجاد منظومة تشريعية متكاملة ومنسجمة، خدمة لتماسك الأسرة وتآزر المجتمع." وفيه حرص البرلمانيون على عرض خدماتهم لتطوير منظومة تشريعية لتطبيق قانون الأسرة بعدما فهموا أن دورهم يقتصر على تمرير هذا القانون دون السماح لهم في التدخل في التنظيم الهيكلي لجهاز القضاء الذي لا يخضع لسلطة الشعب.
ثم جاء في الديباجة و على لسان صاحب الجلالة بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الثانية من الولاية السابقة قوله : " وبصفتنا ملكا لكل المغاربة، فإننا لا نشرع لفئة أو جهة معينة، وإنما نجسد الإرادة العامة للأمة، التي نعتبرها أسرتنا الكبرى." مما يدل على أن جلالته لا يحتاج إلى ممثلي الشعب حتى يكون مطلعا على الإرادة العامة للأمة وهو بذالك يمارس الحق و الواجب اللذان تنص عليهما رابطة البيعة في عمقيها الروحي و السياسي.
وجاء أيضا على لسان جلالته وفي نفس السياق قوله :· " وإذا كانت مدونة 1957 قد وضعت، قبل تأسيس البرلمان، وعدلت سنة 1993، خلال فترة دستورية انتقالية، بظهائر شريفة، فإن نظرنا السديد ارتأى أن يعرض مشروع مدونة الأسرة على البرلمان، لأول مرة، لما يتضمنه من التزامات مدنية، علما بأن مقتضياته الشرعية هي من اختصاص أمير المؤمنين. وإننا لننتظر منكم أن تكونوا في مستوى هذه المسؤولية التاريخية، سواء باحترامكم لقدسية نصوص المشروع، المستمدة من مقاصد الشريعة السمحة، أو باعتمادكم لغيرها من النصوص، التي لا ينبغي النظر إليها بعين الكمال أو التعصب، بل التعامل معها بواقعية وتبصر، باعتبارها اجتهادا يناسب مغرب اليوم، في انفتاح على التطور الذي نحن أشد ما نكون تمسكا بالسير عليه، بحكمة وتدرج. وبصفتنا أميرا للمؤمنين، فإننا سننظر إلى عملكم، في هذا الشأن، من منطلق قوله تعالى "وشاورهم في الأمر"، وقوله عز وجل "فإذا عزمت فتوكل على الله"." حيث ذكر جلالته ممثلي الأمة بجانب من تاريخ التشريع في المغرب و أنهم لا يملكون حق مناقشة المقتضيات الأساسية للقانون وهم مخولون فقط للنظر في شق الالتزامات المدنية، الشيء الذي لم يقم به البرلمان على أكمل وجه حيث بقيت معظم مقتضيات هذا الشق خاضعة لتقدير القضاء. كما جاء استدلال صاحب الجلالة بالآيتين الكريمتين ليبين بجلاء أن نظام الحكم في المغرب أشمل و أعمق من الديمقراطية. فالديمقراطية المتجسدة في البرلمان هي غيض من فيض، وهي تجسيد لمبدأ الشورى في الإسلام وتختلف بذالك عن الديمقراطية النظرية كما يتصورها الفكر الإنساني.
وأخيرا جاء على لسان صاحب الجلالة أنه وجه إلى وزير العدل رسالة يأمره فيها بالتالي : " كما أمرناه بالإسراع بإيجاد مقرات لائقة لقضاء الأسرة، بمختلف محاكم المملكة، والعناية بتكوين أطر مؤهلة من كافة المستويات، نظرا للسلطات التي يخولها هذا المشروع للقضاء، فضلا عن ضرورة الإسراع بإحداث صندوق التكافل العائلي." غير أن الحكومة أنهت مدة صلاحيتها دون أن يطبق وزير العدل الأمر المولوي بإحداث صندوق التكافل العائلي والذي تنتظره العديد من العائلات التي قد لا تجد أحسن من التخلي عن أبنائها حتى يستفيدوا من الشروط المادية و المعنوية التي اشترطها قانون الأسرة لكفالة الأطفال المتخلى عنهم ولا يشترطها في تربية و تعهد الأطفال اللذين هم تحت رعاية آبائهم المعوزين.
لقد فهم الشعب المغربي درسه و نجح فيه، فهم أن البرلمان لم ينجز حتى العمل اليسير الذي كلفه به جلالة الملك وأن البرلمان المغربي يختلف عن البرلمانات الأخرى باختلاف الديمقراطية المغربية عن الديمقراطيات الأخرى. فالديمقراطية المغربية آلية يمكن للحكم أن يستعملها و ليست أساس الحكم الذي أساسه حسب المرجعية الإسلامية، العدل واحترام الشريعة. والخلاصة أن مقاطعة الانتخابات ليست عقابا للأحزاب باعتبار أن دورها و أهميتها رهينين بمفهوم الديمقراطية. كما أن المقاطعة لم تكن رسالة للدولة لأن الملك يرعى الشعب و الدولة بمرجعية غير خاضعة لتصور أو تقدير أي طرف منهما. ومن هنا فإن الشعب قد يكون قد قاطع الاقتراع وعيا منه بمفهوم الديمقراطية في المغرب و تسليما لتدبير مسلسل الإصلاح و التغيير لصاحب الجلالة، أمينا واحدا و أوحدا على مصلحة الأمة.