تصريح: قدم الأستاذ عبد الصمد بلكبير تصريحا مفاده أنه تم لقاء أواخر 1972 بين الملك الراحل الحسن الثاني والإمام عبد السلام ياسين. أسئلة: أمر جعل الكثيرين يتساءلون عن جدية هذا التصريح، وعن درجة صحة الرواية، وإذا كان اللقاء حقيقة وليس وهما، فلم لم تشر له قيادة جماعة العدل والإحسان تصريحا أو حتى تلميحا؟ حدث مرت عليه أكثر من أربعين سنة حسب الباحث المراكشي، لا نجد له أثرا مكتوبا أو مسموعا أو مرئيا من طرف الإمام عبد السلام ياسين أو مِن مَن عاشوا معه هذه المرحلة التي يحكي تفاصيلها كل من الأستاذ محمد العلوي السليماني والأستاذ أحمد الملاخ الذين عاشوا مراحل قبل وبعد تأسيس جماعة العدل والإحسان في كل تفاصيلها. لا أريد محاجة الراوي ولا مصادر روايته، بقدر ما استوقفني سياق "اللقاء" ومساقاته ومآلاته المنتظرة بعد رحيل الناصح والمنصوح رحمهم الله. الأستاذ عبد الصمد بلكبير الذي حضي بلقاءات مع مولاي عبد السلام – كما رغب في تسميته في حواره- تميزت بالحوار الهادئ والسؤال الجريئ والنقاش الفكري العميق والعلمي المفيد والسياسي الواضح. ولم يخف الرجل تأثره بالإمام علما وموقفا. لقاء الإمام بالملك: حسب الراوي، التقى الرجلان في حضرة الشيخ الحاج العباس البودشيشي مؤسس الزاوية البودشيشية بمداغ على الحدود المغربية- الجزائرية. لقاء الرجلان تم في الرباط في مجلس الشيخ العباس الذي استقدمه الملك الحسن الثاني للإقامة قربه من أجل توظيف الزاوية لتقويض السلفية الوهابية التي بدأت تأخذ مكانها في الساحة الدينية المغربية. حسب الراوي، اللقاء التاريخي للرجلين كان بصفتيهما الشخصية، أي الحسن- الشخص وياسين- الشخص، لأن القاسم المشترك الذي جمعما في حضرة الشيخ العباس هو "المعاناة". الحسن بن محمد كان يعاني من وحشة بعد الانقلابين العسكريين الذين استهدفا نظام حكمه، وجعلاه يعاني من حالة نفسية وليست ذات طابع سياسي. لذلك لجأ "الملك- الشخص" إلى مجالس الذكر في حضرة الشيخ العباس. بينما عبد السلام بن عبد الله كانت له معانات ثقافية ودينية وعاطفية ووجدانية لجأ للشيخ العباس لخلاصه الفردي ، وهو الذي كان رجل دولة معتبرا ساهم في تأسيس المدرسة المغربية وتأليف الكتب المدرسية. ومما يستوقف المشاهد مندهشا في شهادة الراوي، أن الملك والإمام بعد حصة الذكر في حضرة الشيخ، وأثناء الجذب يتعانقان في انفعال وبكاء !! نصيحة الإمام للملك: قال الحاكي: بكاء الحسن في حصة الذكر يثبت أن الملك على إيمان، مما جعل ياسين يقتنع أن الظلم الواقع في البلاد لا علم للملك به. أمر دفع الإمام- حسب الرواية- إلى كتابة الرسالة الشهيرة: الإسلام أو الطوفان سنة 1974. حيث كان الناصح ينتظر إحدى النتيجتين: الأولى: استجابة الملك لرسالة الإسلام أو الطوفان وأصلاح منظومة إمارة المومنين، ذلك مطلب مرغوب. الثاني:عدم استجابة الملك لرسالة الإسلام أو الطوفان، ذلك يعني أن الحسن لا سلطة له أو إنه منافق. قراءة بلكبير لرسالة الإمام للملك: باعتبار الباحث المراكشي - المهتم ب"الظاهرة الياسينية"- وسيطا بين الإمام والملك الراحل ثم الملك الشاب، يرى أن: الرسالة: الإسلام أو الطوفان: رسالة رجل دين لرجل دين آخر يحكم، وليست مبادرة سياسية، تتغيى تأسيس إسلام سياسي في المشهد السياسي المغربي. المرسل إليه: تعامل مع الرسالة ببعدها الديني وليس السياسي، واعتبرها هرطقة أوجبت إدخال المرسل إلى مستشفى الأمراض العقلية. المرسل: رجل إيمان، استعمل الخطاب السياسي كوسيلة وليس كهدف. عبد الصمد بلكبير، اقترح على الإمام بُعيد وفاة الملك الحسن الثاني أن يقوم بأمرين: يدعو للملك الراحل ويدعو للملك الشاب. استجاب الإمام للطلب الأول بينما أرسل رسالة للملك الشاب تحت عنوان:"إلى من يهمه الأمر" مطالبا إياه بإرجاع ثروات الشعب الى الشعب، فكانت الرسالة الثانية رسالة سياسية بامتياز. ويخلص الوسيط المحترم بعد هذا التحليل الفريد غير المسبوق ، أن جماعة العدل والإحسان باعتبارها قوة سياسية أولى في المشهد السياسي المغربي والتي تتميز بلاءاتها الثلاث: لا للعنف، لا للسرية ولا للعلاقات مع الخارج ، ما زالت أمامها فرصة للانخراط في الفعل السياسي المغربي، سيما وأن مرجعيتها هي نفس مرجعية الملكية. بمعنى يمكن إيجاد مجال مشترك يجمع شباب العدل والإحسان مع الملك الشاب. توضيحات لا بد منها: باعتباري أنا من أجريت مع الدكتور المحترم الحوار، وباعتباري مهتم بتاريخ جماعة العدل والإحسان قبل وبعد التأسيس، وكذلك باعتباري نجل أحد مؤسسي جماعة العدل والإحسان حيث عشت الأحداث كلها وسمعت ممن صنع تاريخ الجماعة... أسمح لنفسي أن أتقدم بقراءة نقدية لابن مدينتي وأستاذي الفاضل، آملا أن يستمر الحوار الذي تعلمنا من الإمام ضرورة مد جسور التواصل التي أسس أركانها. التوضيح الأول: نهاية 1972 وبداية 1973: تاريخ اللقاء المذكور، تطابق فترة وفاة الحاج العباس القادري رحمه الله بالزاوية مداغ وذلك بعيد عيد الأضحى لسنة 1392 ه يوم الثلاثاء 2 فبراير 1972م. التوضيح الثاني: الحاج العباس رحمه الله كان مقيما بمداغ، ناحية بركان. وإذا جاء إلى الرباط يكون زائرا ومقيما عند الحاج اشماعو أو الأستاذ لسان الحق رحمهم الله. التوضيح الثالث: جنازة الحاج العباس في مداغ لم يحضرها إلا فقراء الزاوية، أي لم يحضرها وفد ملكي. وهو أمر ينفي علاقة القصر آنذاك بالزاوية بله علاقة الملك بالشيخ ولو كانت مَخفِية. التوضيح الرابع: للتأكد من صحة رواية وقوع اللقاء من عدمه، هناك من يستطيع الجزم في صحة الرواية وعلى رأسهم أحمد التوفيق- الوزير الحالي للأوقاف والشؤون الإسلامية- وبعض فقراء الزاوية الذين مازالوا على قيد الحياة. التوضيح الخامس: قال باحثنا المحترم: "ما يضر الجماعة من لقاء تم بين رجلين أربعين سنة مضت؟". أقول: نعم، اللقاء محمود، لكن أن يلتقيا بدافع "المعانات" أحدث عندهما انفعالا عاطفيا وبكاء وَجْديا، أفرز مراسلة بين رجلين جمعتهما صحبة شيخ مخلص من أزمات نفسية، هذا تقزيم لهامة رجلين كبيرين . كان الحسن الثاني رجلا ذكيا والإمام عندما أرسل له رسالة قوية المبنى وعميقة المعنى، أدرك الملك الراحل مضمونها. التوضيح السادس: الرسالة المفتوحة لملك المغرب سنة 1974 ، لم تكن تخريفا أوهرطقة البثة، إنما كانت قولا بليغا وحكمة بالغة لامست قضايا جوهرية تهم بناء الفرد والمجتمع على قاعدة المنهاج النبوي الذي نجد أركانه مؤسسة في الإسلام أو الطوفان. وتعرض فيها لقضايا مجتمعية شائكة شخص فيها وضع المغرب المتردي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لفهم مرمى الرسالة، لا بد من التعرف على المرسل والمرسل إليه، ومعرفة ظروف الإرسال...كل ذلك يمكن الأجيال اللاحقة التي لم تزامن الإمام أن تدرك عمق الرسالة. فذاكرة الشعوب سريعة النسيان، والقذف والافتراء والإشاعات المغرضة تشوش على مضمون الرسالة، وعدم معرفة إحدى حلقات الحدث تقزمه أو تلغيه.لذا وجب التوضيح والتبيان،خاصة ممن عاش الحدث وعانى من تبعاته. الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله يعرف نفسه بنفسه:" أنا عبد الله المذنب ابن فلاح بربري نشأ في القلة والحرمان المادي، ثم قرأت القرآن فهو كان بحمد الله ولا يزال قراءتي الحقيقية الوحيدة. ودرست تلميذاً لعلمائنا في المعهد الديني. ولم ألبث أن طلبتُ معرفة أوسع من النقول التي تعيش عليها معاهدنا الدينية. فدخلت إلى الثقافة الأجنبية من المدخل الصعب، من المجهود الفردي، حتى نلت منها ما جعل أقراني يضعونني موضع الشاب النابغ. وجاء الاستقلال فوجدني في منصب مسؤولية إقليمية في التعليم. فعاصرت الأقدمين يافعاً، وعاصرت نشأة الفساد الإداري في مراحله كلها منذ الاستقلال. فإن تحدثت عن العلماء فعن معرفة ومخالطة ومشاركة، وإن تحدثت عن المغرب وشبابه ورجاله وإدارته فعن خبرة سبع وعشرين سنة كنت فيها معلماً، وإدارياً، وخبيراً. " كما أن الإمام المجدد يعرض على الملإ، دون خشية التصنيف من كل وجهات النظر السائدة المتضاربة ببلادنا، تجربته الشخصية وحقيقة "ميلاده الروحي" وعتق رقبته من الجهل والإسلام الموروث المجهول إلى طريق الحق والحياة، لأن الله- يقول الإمام-:"وهبني بعد وفاة شيخي منذ ثلاث سنوات ما يقصده المريدون من الصحبة." علما أن الظرف عصيب والمآزر يكاد ينعدم، ومن يفهم الرسالة قليل، وحتى من فهم الرسالة وأخضعها لميزان العقل بدت له تهورا و"أحلاما دونكيشوطية".... الإسلام أو الطوفان:رسالة ليست ككل الرسائل، خاصة وأن ملوك وأمراء عالمنا الإسلامي اعتادوا على فتح بريد تصل فيه رسائل التبجيل والتمجيد. حرص الإمام رحمه الله أن تقع بين يدي الأمة- العلماء والنخب السياسية والمثقفون وعامة الشعب- قبل أن تصل إلى من يهمه الأمر. الإسلام أو الطوفان:حدث عظيم عرفه التاريخ المعاصر، لكن عددا من المؤرخين يحاولون القفز عن هذه المرحلة من تاريخ المغرب.أما من يذكر الحدث منهم، يذكره باحتشام وبصوت خافت، ويقدم الرسالة على شكل صورة باهتة قاتمة اللون في زواياها، لا يستطيع المرء اكتشاف أبعادها وعمق مضمونها. يؤدي ذلك إلى جهل المنطلق الذي يرتكز على النصيحة وبالتالي عدم إدراك الغاية التي تنشد بناء مجتمع العمران الأخوي. عندما نقف اليوم مع رسالة "الإسلام أو الطوفان"، بعد رحيل الإمام المجدد بعد مرورأربعين سنة، ليس من أجل الثراء الفكري والمعرفي، أو من أجل تسجيل اسم الإمام في سجل عظماء التاريخ...إنما نتذكر الحدث العظيم من أجل: إبراز المنعطف التاريخي في حياة الإمام رحمه الله. فهم الحدث وتسليط الأضواء على المستقبل. تنوير الأجيال التي تأتي بعده، ببعد نظرته المنهاجية التي تطورت من الخلاص الفردي إلى الخلاص الجماعي. استيعاب مشروع الإمام لبناء دولة القرآن، الذي كان كلمة فدعوة تربية وتنظيما وزحفا. خاتمة: إن مشروع الإمام عبد السلام ياسين، مشروع مجتمعي متكامل طويل المدى، مؤسس على علم المنهاج النبوي. مشروع بناء أمة وليس ظاهرة اجتماعية عابرة وليدة معاناة نفسية أو عاطفية أو ثقافية سرعان ما يخفت صوتها ويختفي ضوءها برحيل صاحبها. * باحث في تاريخ جماعة العدل والإحسان