عرف الأولون القضاء، بأنه الفصل بين الناس في الخصومات بالأحكام و اشترطوا في الحاكم أو القاضي شروطا، لم يكن من بينها شرط عدم تعبيره إنتمائه لطائفة سياسية أو حزب معين. و نظرا لأهمية القضاء في حياة الأمم، حيث أنه حجر الزاوية في حل النزاعات بين الأطراف، حاولت السلطة التنفيذية عبر التاريخ المغربي المعاصر التنصيص على تدابير للحد من حريات القضاة. لقد كان ذلك هو حال وزير العدل امحمد باحنيني في ستينيات القرن الماضي . حيث أصدر المرحوم منشورا رقم 57 ديوان بتاريخ 9 يناير 1959 يتدخل به في القضاء و يحد بموجبه من الحقوق السياسية للقضاة و يعنونه باستقلال القضاء. هنا حري بنا أن نعرج على تعريف الحقوق السياسية قبل تحديد الحقوق التي حاول المنشور التحجير عليها؟ لقد عرف موقع ويكبيديا الحقوق السياسية للأفراد بكونها السلطات التي تقررها فروع القانون العام للشخص المنتمي إلى وطن معين – أي بصفته مواطن- و التي عبرها يباشر أعمالا معينة، يشترك بها في إدارة شؤون المجتمع مثل حق الإنتخاب و حق الترشح و حق تولي الوظائف العامة. و يكون الهدف من تلك الحقوق السياسية هي حماية المصلحة لذلك لا يعترف بها للأجنبي، خشية أن يحول بعض الأسرار لدولته و يشكل خطرا على الدولة. إذن أي حقوق حرم المنشور، موضوع الانتقاد، القضاة منها ؟ إنها بالضبط، حق الانتماء الى الأحزاب السياسية – و الذي تبناه الدستور الحالي- و الإدلاء بتصريحات علنية تدل على ميولهم أو معارضتهم لحزب سياسي معين لا سيما أثناء جلسات المحكمة، بحيث تصبح خطأ خطيرا- في تقدير كاتب المنشور- يضع القاضي بحق في موضع الشك و الريبة. و في ذلك المنشور الصادر بالتاريخ أعلاه توعد وزير العدل آنذاك القضاة بإصدار نظام أساسي لهم، يحجر بموجبه عليهم، ممارسة حقوقهم في التعبير و الإنتماء السياسي. لقد اخطأ وزير العدل آنذاك- أو لنقل مستشاريه -فأغلب السياسيين مجرد واجهات لمستشارين يعملون في الظل- في تكييف الخلل. فالأمر لم يكن يتعلق بتعسف في مزاولة الحقوق السياسية و لكن في إخلال أو توجس من إخلال القضاة بواجب الحياد بين الفرقاء السياسيين، رغم أن حق التعبير هو جزء أساسي من حقوق كل المواطنين بما فيهم القضاة و يعد من الحقوق الأساسية التي نص عليها إعلان حقوق الانسان و المواطن في فرنسا عام 1789 عقب الثورة الفرنسية و دستوري الولاياتالمتحدة لسنتي 1776 و 1778. جاء بخصوص هذا الحق الإنساني عن الفيلسوف جون ستيوارت ميل: " إذا كان كل البشر يمتلكون رأيا واحدا وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأيا مخالفا ، فإن إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة". لقد كنت منذ ولوجي لمهنة القضاء، أعتقد أن ممارسة السياسة و الانتماء لحزب سياسي من قبل القاضي كفر، و لعلي لم أعد أفكر بتلك الطريقة - رغم احترامي لمنع الدستور إنخراط القضاة في الأحزاب السياسية- إثر تكوين حول إدارة العدالة بمدينة لاهاي سنة 2013 بسبب أحد القضاة المرموقين هناك. حيث إكتشفت أن قضاة الأراضي المنخفضة ينتمون الى الأحزاب السياسية و أن ذلك لا يطعن إطلاقا في إلتزامهم بواجب الحياد في القضايا المعروضة عليهم. طبعا صرح لنا ذلك القاضي، أنه لا يتصور مطلقا أن ينتمي قاض هولندي لحزب يميني متطرف. إن أهم تجليات التخلف السياسي عندنا تتمثل في حالة الركود السياسي و عدم وجود نمط إجتماعي متطور يقر فصل السلطات داخل المجتمع و يعمق واقع عدم المشاركة السياسية و لعل أبرز تجليات ذلك إعادة تضمين مشروع القانون التنظيمي للنظام الاساسي للقضاة في المادة 97 منه إعتبار إتخاذ موقف سياسي أو الإدلاء بتصريح يكتسي صبغة سياسية خطأ جسيما مع إعتبار ذلك موجبا لتوقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه. وكأن الأمر يعد جناية أو جنحة ماسة بالشرف و الأخلاق العامة أو سيترتب عنه ضياع العدالة. علما أن واقع الحال، هو أن العدالة كانت دوما مسيرة من قبل سياسيين منذ فجر الاستقلال و أن دستور 2011 في باب الحريات و الحقوق الأساسية جعل القاضيات و القضاة باعتبارهم نساء و رجال على قدم المساواة في التمتع بالحقوق و الحريات المدنية و السياسية (الفصل 19) و جعل حرية الرأي و التعبير مكفولة بكل أشكالها( الفصل 25) و للجميع الحق في التعبير و نشر الأخبار و الأفكار و الآراء بكل حرية و من غير قيد ( الفصل 28) و حريات الإنتماء السياسي مضمونة ( الفصل 29) و لكل مواطنة و مواطن حق الترشح للانتخابات و التمتع بالحقوق المدنية و السياسية( الفصل 30) . إن الرغبة في التحكم لدى الأيادي التي صاغت المقتضيات الخطيرة المندد بها و التي أقرت منع القضاة من الانتماء الى المكاتب المسيرة للجمعيات المدنية و جعلت ذلك المنع، على خلاف جل مقتضيات القانون، تدخل حيز التنفيذ فور صدورها في الجريدة الرسمية بستة أشهر تدل على النية في مخالفة روح الدستور و التضييق على الحريات و الرجوع الى سنوات الرصاص القضائي التي أسس لها منشور باحنيني و الدفع بالوطن إلى المجهول، علما أن غاية كتابة هذا المقال ليست ممارسة السياسة و لا الإنخراط في الأحزاب السياسية و لكن الرغبة في إسقاط الرغبة في التحكم و التحجير على التعبير. *عضو نادي قضاة المغرب