لمْ تُخْفِ "إنجي راميرز" فرْحتها بزيارة مدينة العرائش، الأرضُ التي رأتْ فيها نورَ الحياة قبْلَ عُقودٍ من الزمن، وقالتْ بنبرَة مشحونة بالتأثر "كانتْ أمّي تقول لي دائما: لا تنسَيْ أبدا أنَّ العرائشَ هيَ أمُّك". إنجي وُلدتْ في العرائش، كغيْرها من عشرات الآلاف من الإسبانيين، قبْلَ أنْ تُغادرَ لتعيشَ بالضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط، غيْرَ أنَّ هَوى المدينة المغربيّة الصغيرة ظلَّ يسكنها كما تسكنه، وحينَ تمرُّ ثلاثة شهورٍ وهيَ تُقيم على أرْض الجارة الشمالية للمملكة تكسرُ طوْق الحنين، فتقطعُ البحرَ الفاصلَ بيْن المملكتيْن لزيارة موْطنها الأوّل. صباح أمْسٍ الاثنين، حَملت إنجي، في اليوم الأخير من المهرجان الدوليّ للتلاقُح الثقافي بالعرائش، هَديّة عبارة عن باقة ورْدٍ بيضاءَ إلى القدّيسة "ديل بيلار"، في الكنيسة التي تحملُ نفس الاسم وسَط مدينة العرائش، بحُضورِ مغاربةٍ. وكانَ المشهدُ تجسيدا للتعايُش بيْن الثقافات والديانات، وفقا لما وسَم تاريخ المدينة. وأدَّتْ المجموعة الموسيقية الإسبانية "ريبيكيس"، القادمة من مدريد، عروضا فنيّة أمامَ كنيسة "ديل بيلار" على إيقاعات الطبْل وألحان المزمار. ثمَّ قدّمتْ عُروضا أخرى داخلَ الكنيسة، قبْل تقديم الهديّة إلى القدّيسة. "هذا دليل على أنَّ الكنائس موجودة في المغرب، ودليل على أنَّ التعايش بيْن الديانات ما زال قائما بالبلاد"،يقول عبد الله اللنجري، مدير المهرجان الدولي للتلاقح الثقافي بالعرائش. ولَمْ تتمالكْ إنجي مشاعرهَا، فبَكتْ داخلَ الكنيسة حينَ كانتْ تُنْصتُ إلى المطربة الزّهرة البوعناني، قائدة مجموعة "للا منانة للحضرة العرايشية"، وهيَ تشْدو عن حياة "الوليّة للا منّانة" التي يرْقُد جُثمانُها تحْتَ الثرى الذي يأوي جثامينَ عددٍ من المسيحيّين. وتقول إنجي إنّ بين هؤلاء أربعة من أجدادها، وتضيف بتأثّر: "الكثير من أجدادي يرقدون هنا، وأناَ تجري دماءُ العرائش في عروقي". وتتولّى إنجي، إلى جانب زميليْن لها في إدارة المهرجان الدولي للتلاقح الثقافي بالعرائش، مهمّة العلاقات الخارجيّة. وتقول: "بدأنا الإعداد للمهرجان منذ شهر غشت، واتّصلتُ بمجموعة من أصدقائي وزملائي في مجموعة من المدن الإسبانية، قصْدَ القدوم إلى العرائش للمساهمة في المهرجان"، وهدَفُ إنجي، كما تقول، هو "أنْ نقول للناس إن هناك إمكانيةً للتعايش مع بعضنا بسلام، مهْما اختلفت الديانات التي نعتنقها، وعلى تنوع الثقافات التي ننتمي إليها". وكانَ مشهدُ المغاربة المسلمين وهُمْ جالسونَ جنْبا إلى جنْبٍ مع الإسبانيين المسيحيين، داخل كنيسة ديل بيلار وسط العرائش، دالّا على التعايُش الذي تحدّثت عنه إنجي. فرغْمَ أنّ "لكُلٍّ دينه" إلا أنَّ ذلك لمْ يحُلْ دونَ التئام الجميع في مكانٍ واحد، وحُضور مسلمينَ لطقْوس مسيحيّة في زمنٍ تنامى فيه التعصّب الديني ليُدمّرُ أسسَ العلاقات الإنسانية. عبد الله اللنجري قالَ: "هذا دليلٌ على أنَّ هُناك فعلا تعايشا بيْن مختلف الديانات والثقافات في المغرب"، بيْنما خاطبَ رئيسُ المجلس الإقليمي للعرائش ضيوفَ المدينة الإسبّان بالقول: "أنتم اليوم في مدينتكم، وهذا الجمْعُ هُو مناسبة أشعلنا فيها شمعة وسطَ ظلام دامس، فمن الصعب تنظيمُ مثل هذه اللقاءات في أماكن أخرى من العالم". أمّا إنجي فتحمل في عنقها رمزا ذهبيّا دالا على التعايش. تمدُّ يدَها إلى عُنقها وتسحبُ سلسلة ذهبيّة علق بها مصحف صغير، وتقول: "هذا المصحف الذهبيّ أهدته لي جدتي، وطلبت مني أن أحفظه معلقا في عنقي ليحميني"، وتشدُّ قبْضتها على المصحف مضيفة: "عندما أحس بالوحدة والحزن، أو عندما يواجهني مشكل ما، أمسك بهذا المصحف الذهبي وأحضنه". وما زالتْ ذاكرةُ إنجي منقوشة بذكريات الأيام التي قضّتها في المغرب، وتعتبرُها من أجمل الفترات في حياتها، "على أرض هذه المدينة تعلمت الاحترام والمحبة والتعايش مع الآخر، ومع الجميع، كان هناكَ تضامن بين الجيران بغضّ النظر عن دياناتهم"، تقول المتحدّثة. وتضيف أنها حملت معها إلى إسبانيا عادات أهْل مدينة العرائش المسلمين؛ وطقوسهم. إنجي تصومُ رمضان كمَا يصوم المسلمون، وتقرأ القرآن؛ "لا ينقصني سوى اعتناق الإسلام، أما ما يقوم به المسلمون فأنا أيضا أفعله"، كما تقول، وعلى رأس كل ثلاثة شهورٍ تعودُ إلى مدينة العرائش، حيث تقوم بتأطير ورشات لفائدة أبناء المدينة "لرَدّ الجميل لأهلها" وفق تعبيرها. وأُسدلَ الستار على فعاليات المهرجان الدولي للتلاقح الثقافي بالعرائش، في دورته الرابعة، بزيارة إلى مدشر دلم الغميق، حيث قدّمتْ المجموعة الاسبانية "ريبيكيس" عروضا فولكلورية، ونظّم المشرفون على تنظيم المهرجان ورشات لفائدة أطفال المدشر.