لَمَحَاتٌ مِنْ فِكْرِ الاِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ أهمية المنهج عند علماء الاسلام إن مسألة المنهج من المسائل التي أولاها علماء الإسلام عناية متميزة، وهم يَنْبُشُونَ بفكرهم في القضايا الكلامية و الفقهية. ورغم جهودهم الابداعية يتهمون أنفسهم في سبيل البحث عن الحقيقة، ولذلك يجعلون إجاباتهم التي ينهونها بقولهم: " والله أعلم" منطلقا لأسئلة أخرى أو مفتوحة على أسئلة جديدة، مُشْرِعِينَ بذلك أبواب البحث المتاحة لأي إنسان وبأي منهج. وقد تتعدد المناهج اليوم في مقاربة النصوص الشرعية، وتكثر معها الأسئلة، وإعادة النظر في المعرفة التي نتلقاها أحيانا بالقبول وأحيانا أخرى بالرفض، نظرا لكثرة المشكلات و تعقد الحياة التي يحياها الإنسان ومن تم فإن " لا أدري " الذي طرحه الإمام مالك رحمه الله وطبقه كمنهج معرفي، يفتح أمام الإنسان اليوم مجالات متعددة للبحث عن المعرفة العلمية الرصينة، كما يعتبر نقطة البدء للكشف عن "الحقيقة" التي يجب أن تلازم العالم والباحث في سعيهما المتواصل وراءها، ولا نجد في تاريخنا الفقهي الإسلامي من شرف هذا المفهوم وأعطاه مضمونه البحثي مثل الإمام مالك، حتى أضحى علامة بارزة في منهجه، والمميزة لسيرته، والدالة على علمه وفضله. وهذا المفهوم لا يحمله من العلماء إلا من اتصف بالورع والتقوى، وآثر الحق على الهوى، وراقب الله تعالى في اشتغاله وعلاقاته بالناس. إنه بداية لكل نهاية، وخُطْوَةٌ أولى لأشرف غاية، له أثره في حياة العلماء الذين يحفظونه أول ما يحفظون، وفي سلوك الذين يَنْسَوْنَهُ أول ما ينسون. فالأوَّلُون يزدادون به علما و شُغُوفًا، والآخرون يزدادون به جَهْلاً و تزييفا. فلا عجب أن نجد اليوم من يحفظ حديثا أو يسمع شريطا أو يلبس لباسا قصيرا أو يجالس جاهلا متنطعا، يخوض في الإسلام وشريعته بغير علم، ويفتي في السنة بغير حجة ولا دليل. يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جُهَّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " (1) الامام مالك ومنهجه في العلم والفتيا يقول الإمام مالك رحمه الله: " ليس العلم بكثرة الرواية و إنما العلم نور يضعه الله في القلوب" (2). هذه هي حكمة الإمام مالك في العلم، فليس من يحمل أَسْفَاراً من الفقه ويحفظ أوْقَاراً من الآثار هو العالم، إنما العالم من استوت عنده العلوم في مرتبة يعلمها أو صَلُحَ لأن يعلمها واشتغل فيها، وتأدب بأدب العلم، وعرف حقه، وأداه محافظا على أمانته في غير تملق أو مداراة، وأراد به وجه الله تعالى. والإمام مالك مع حفظه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدث بكل ما حفظه، فقد وجدوا في تركته صندوقين مقفلين فيهما كتب، فما سمعوه يحدث بشيء مما قرأوه عليه. (3) يقول أحمد بن صالح : " نظرت في أصول مالك فوجدتها شبيها باثني عشر ألف حديث. قال بعضهم: وهو حديث أهل المدينة في ذلك الوقت فلم يحدث إلا بثلثها أو ربعها ". ويقول الإمام الشافعي : " قيل لمالك: عند ابن عيينة أحاديث ليست عندك؟ فقال: إذن أحدث الناس بكل ما سمعت. إذن أحمق. وفي رواية: إني أريد أن أضلهم إذن" .! (4) فما أكثر الحمقى والمضلون في عصرنا هذا الذين يحدثون بكل ما سمعوا، ويفتون الناس بغير علم، ويوهمون أنفسهم ومن حولهم بأنهم علماء ! ولأهمية هذا المنهج، نبه الامام مالك ابن وهب من الإكثار في الرواية قائلا له: اتق هذا الإكثار. وهذا السماع لا يستقيم أن يُحَدَّثَ به. فقال له: إني أسمعه لأعرفه، لا لأحدث به. فقال له: ما سمع إنسان شيئا إلا تحدث به، وعلى ذلك القدر سمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدث بها، وأرجو أن لا أفعل ما عشت " (5) إن هذا المنهج في العلم والفتيا يكاد ينفرد به الإمام مالك. وإن النصيحة التي قدمها لابن وهب، تعتبر تطبيقا صارما له، إضافة إلى الجانب التربوي والتعليمي الذي تتضمنه، والصفة التي ينبغي أن يكون عليها طالب العلم في تحمله أمانة العلم. أما البعد السيكولوجي فيتجلى في معرفة الإمام مالك بالنفوس وميلها إلى المباهاة مما يعتبر ضارا بالعلم، لذلك كان يقول: " لو علمت أن قلبي يصلح على كُنَّاسَةٍ لذهبت حتى أجلس عليها " (6) وهذا كلام دقيق لا يفهمه إلا أرباب القلوب، وفيه إشارة من الإمام مالك إلى أهمية تربية النفس وتعهدها بالتقوى والإحسان، حتى لا يقع العالم والمتعلم في المحظور. وهو ما دفعه إلى القول: " ما سمع إنسان شيئا إلا تحدث به " وفي هذه الكلمات تَمَثُّلٌ بارز لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم " (7). لقد كان الإمام ملك شديد التحري والتثبت في العلم والفتيا، وإن أجوبته للسائلين ب" لا أدري" أو " لا أحسن " من أبرز الأدلة على ذلك. يقول ابن القاسم: سمعت مالكا يقول : " إني لأفكر في المسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن ". وقال ابن مهدي: سمعت مالكا يقول : " ربما وردت علي المسألة فأسهر فيها عامة ليلتي " (8). فأين نحن من هذا المنهج العلمي، والتحري الشديد في البحث؟ وماذا نقول للذين يشغلون الناس اليوم في الفضائيات بفتاوى " الفتنة " وهم أبعد الناس عن العلم وأخلاق العلماء؟! ولماذا لا نطرح هذا المنهج مع التلاميذ في المدارس والطلبة في الجامعات، ونعلمهم كيفية البحث وأخلاقياته، وقولهم: " لا أدري " فيما لا يدرون، و" لا أحسن " فيما لا يحسنون؟ إن قضية المنهج من القضايا الرئيسة في مصادرنا التشريعية، وإذا كنا اليوم قد تنكبنا الطريق في عدم الالتزام به، فإن إعادة طرحه من خلال مفهوم " لا أدري " في فكر وسيرة الإمام مالك، هو عودة سليمة إليه، لما يفتحه من أبواب البحث عن الحقيقة، وما يكسب المتحلي به من أخلاق العلماء المتقنين والمتثبتين. مفهوم "لا أدري" وتطبيقاته عند الامام مالك تعتبر دلالة مفهوم " لا أدري " دعوة علمية إلى تحري الحقيقة والبحث عنها، والتوقف عن القول في المسألة والإفتاء فيها إلى حين البحث والتقصي والتثبت، وجمع الأدلة الموصلة إلى الحقيقة. و إن عدم الالتزام بذلك يحدث خَلْخَلَةً، ورَجَّةً قوية في العلم وضوابطه، واضطراب الناس بين الحق والباطل. وقد تنبه العلماء المسلمون إلى أهمية المنهج العلمي في البحث والمعرفة، وضمنوه بحوثهم ومؤلفاتهم. فإذا نظروا في مسألة لا يقطعون العلم بها، وإنما ينهونها بقولهم:" والله أعلم" أي أن مسألة البحث والتدقيق وإعادة النظر لم تغلق ولم تقطع بما تم التوصل إليه من نتائج، بل يتركون الباب مشرعا لمزيد من البحث والتنقيب تبعا لتطور المناهج والمعارف، وحاجات الناس الحياتية، وهم في ذلك يسيرون وفق المنهج القرآني. قال تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ الاسراء/85. وقال عز وجل: ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾طه/114. وقال سبحانه: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾يوسف/76. وانطلاقا من هذا التأطير المنهجي القرآني للمعرفة الإسلامية، فإن الدلالة المتميزة التي أنضجها الإمام مالك لمفهوم " لا أدري "، إنما في حقيقتها توقف مرحلي يُمَكِّنُ التوصل بصحيح النظر إلى المطلوب.(9) فكيف تشكل إذن هذا المفهوم عند مالك؟ وكيف طبقه في عمله وإفتائه؟ إن مفهوم " لا أدري " لم يأت، و لم يتشكل عرضا في فكر الإمام مالك، بل هو نتيجة تربية إيمانية ربانية تربى عليها بملازمة وصحبة شيخه وأستاذه عبد الرحمن بن هرمز فأثمرت تقوى وصلاحا. يقول مالك: سمعت ابن هرمز يقول: " ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول " لا أدري " حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري " (10). لقد أصبح إذن مفهوم " لا أدري " بفضل هذا الدرس التربوي علامة مميزة لشخصية الإمام مالك، وأحد العناوين الدالة على علمه وفضله، وهو شعاره الذي يحمله دائما ليتحلى به في كل وقت ومناسبة. فالمسائل التي ترد عليه كثيرة وفضول السائلين عما يعنيهم وما لا يعنيهم أكثر، والإمام مقصد كل سائل، ودليل كل حائر، وهو لا يصدر عن رأي مجرد يراه، ولا عن حيل تشريعية يهواها، ولكنه يقف على حدود العلم الصحيح فيفتي عن يقين، ويجيب عن المسائل بالحق المبين. فإذا أخطأه البيان قال:" لا أدري "أو "لا أحسن." وبقي هذا المنهج مميزا لسيرة الإمام مالك ولم يفارقه طوال حياته. يقول ابن وهب: " سألت مالكا في ثلاثين ألف مسالة نوازل في عمره فقال في ثلثها أو في شطرها أو ما شاء الله منها: لا أحسن ولا أدري " (11). ومن التطبيقات البارزة لهذا المفهوم كذلك في سيرة الإمام مالك، أنه كان يحرص على أن يعلم الناس أدب السؤال وقيمة العلم. قال مصعب : سئل مالك عن مسألة فقال لا أدري. فقال السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير، وكان السائل ذا قدر. فغضب مالك وقال: مسألة خفيفة سهلة ؟! ليس في العلم شيء خفيف. أما سمعت قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ المزمل/5. فالعلم كله ثقيل وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة " (12) . فهذا هو المنهج الصارم الذي يطبقه الإمام مالك ولا يتحرج في إعلانه والتشبث به، إذ ليس في العلم مسألة خفيفة وسهلة، ويا ليت الذين يتصدرون الإفتاء بغير علم من شباب هذه الأمة يعلمون هذا ويدركونه، فيمسكوا ألسنتهم عن الهَدِيرِ كأنهم جِمَالٌ مُغْتَلِمَةٌ(13). ولا يَحْدُثُ هذا إلا من قلة العلم وضعف الإيمان والتقوى . وإن قيمة العلم – كما أكد الامام مالك رحمه الله– ليست في كثرته أو التمكن من قضاياه ومسائله، وإنما قيمته في الوقوف عند حدوده الصحيحة، والتثبت في الفتوى والتوقف عن القول في المسائل المبهمة أو التي فيها إشكال إلى حين استكمال البحث أو سؤال من هو أعلم. قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾النحل/43. ولما يفزع العالم أو الباحث إلى " لا أدري " تنفتح أمامه آفاق رحبة للبحث والتقصي والنَّبش في النصوص أو الأدلة الشرعية حتى يهتدي إلى الصواب، وهذا ما يجب أن ننبه إليه الشباب الباحث عن المعرفة ليتخذوه شعارا لهم، كما كان الإمام مالك يفعل ويوجهنا إليه غير مبال بالسائل، وإنما مراعاة لشرف العلم. وقد قدم الإمام مالك في هذا درسا بليغا لجلسائه على مائدة العلم لا ينسى. يقول أبو مصعب: قال لنا المغيرة : " تعالوا نجتمع ونستذكر كل ما بقي علينا مما نريد أن نسال عنه مالكا. فمكثنا نجمع ذلك وكتبناه في قنداق ( أي صحيفة ) ووجهه به المغيرة إليه وسأله الجواب فأجاب به في بعض، وكتب في الكثير منه " لا أدري " . فقال المغيرة : يا قوم والله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى. من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول: " لا أدري" (14).فإذا كان هذا التطبيق الفريد لمفهوم "لا أدري" هو العنوان الذي ميز فكر وسيرة الإمام مالك رحمه الله، وطبع حياته بالفضل والنبل والاستقامة، فإن الذين يمارسون الإفتاء اليوم في الفضائيات والمنتديات وأمام المساجد، ولا يرضون لأنفسهم" لا أدري " ويعتبرونه انتقاصا من علمهم، فإنهم في الحقيقة لا يدركون ما يحمله هذا المفهوم من أساسيات البحث والتقصي، وما يحيل إليه من أخلاق العلم وأدب العلماء. وإذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله. (15) هوامش: 1-أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، حديث رقم:100، ومسلم في كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 2-حديث رقم: 2673 القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك،طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، فضالة المحمدية(2/60) 3-المرجع السابق(1/187) 4-المرجع السابق(1/188) 5-المرجع السابق(1/191) 6-المرجع السابق(2/53) 7-أخرجه الترمذي غي كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة وقال: هذا حديث حسن صحيح، رقمه:2749، وابن ماجة في كتاب الفتن، باب سباب المومن فسوق وقتاله كفر، رقم: 3973 ا8-لقاضي عياض، ترتيب المدارك، مرجع سابق(1/178) 9-الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، تحقيق الدكتور عبد المنعم الحنفي، دار الرشاد القاهرة،ط2، 1979،ص:305 10-ترتيب المدارك، مرجع سابق، (1/182) 11-ترتيب المدارك، مرجع سابق،(1/183) 12-ترتيب المدارك، مرجع سابق،(1/184-185)4 13-مغتلمة أي هائجة. يقال غلم البعير بالكسر غلمة إذا هاج واغتلم أيضا. محيي الدين عبد الحميد ومحمد عبد السبكي،المختار من صحاح اللغة، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، ط2، ص:378،مادة غلم. قال ابن وهب : وسمعته أي مالك، عندما يكثر عليه بالسؤال يكف ويقول:" حسبكم من أكثر أخطأ." وكان يعيب كثرة ذلك ويقول:" يتكلم كأنه جمل مغتلم. يقول: هو كذا يهذي في كل شيء. ترتيب المدارك، مرجع سابق،(1/191) 14-ترتيب المدارك، مرجع سابق،(1/183) 15-المرجع السابق نفسه.