نظم المجلس العلمي للدار البيضاء يوما دراسيا حول موضوع: الثابت والمتغير في علاقة الرجل بالمرأة، وذلك يوم السبت الماضي، وشارك فيه نخبة من الأساتذة الجامعيين، وثلة من النساء البارزات في مجال الدعوة والإصلاح، وكانت العروض والكلمات التي ألقيت في هذا اللقاء تدور كلها حول موضوع المرأة، إلا أن أحد الأفاضل من الأساتذة المشاركين في الندوة طرح في تعقيب له على بعض المحاضرين قضية عزوف بعض الأئمة من السلف عن الفتوى وعدم تحرجهم من إجابة السائل بكلمة (لا أدري)، وأورد في هذا الشأن ما أثر عن الإمام مالك من أنه سئل عن ثمانية وثلاثين مسألة فأجاب منها عن ست، وقال في الباقي (لا أدري) كما أورد في تعقيبه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا< (وهو في البخاري) وقد هالني قوله هذا وأزعجني أيما إزعاج، لاسيما وأنه صادر من أستاذ جامعي يختلط كل يوم بالطلبة ذكورا وإناثا، ويجالس أقرانه من الأساتذة فيسمع منهم ويسمعون منه، فهو يعرف ولا شك ما تعكسه الجامعة من أوضاع الحياة وقضايا الناس التي تستدعي معالجة وتقديما وتوجيها شرعيا لا يسع أهل العلم في هذا العصر أن يقول فيه (لا أدري) وكنت أود أن أناقش الأستاذ الفاضل في طرحه هذا، إلا أن الوقت المحدود للندوة حال بيني وبين ذلك، وقد تكون مناقشة هذا الموضوع على صفحات الجريدة أكثر نفعا وأوسع فائدة إن شاء الله وأول ما يجب التنبيه إليه في هذا المقام أن حديث: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس.. الخ لا يسوغ الاستدلال به على استحباب تورع أهل العلم عن الفتوى لأنه غير وارد فيهم ولا يعنيهم، ولكنه وارد في الرؤوس الجهال الذين يتصدرون للفتوى وهم ليسوا من أهلها ويتجرؤون على القول في دين الله بغير علم، وهؤلاء لا يجوز لأحد أن يسألهم كما لا يجوز لهم أن يفتوا من استفتاهم لأنهم ليسوا من أهل الذكر الذين أمر الله عباده أن يسألوهم، بل إنهم منذرون بالوعيد وسوء العقاب لتقولهم على الله بغير علم، كما يفيده قول الله عز وجل: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون). وقوله سبحانه: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين). وقوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله. له في الدنيا خزي. ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق. ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد). وفي الحديث: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار< (رواه البخاري) والذي يقول في دين الله بغير علم هو قطعا متعمد للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه تطفل على ما ليس من شأنه. أما العلماء فإنهم ورثة الأنبياء وأمناء الشريعة وحملة الإسلام إلى الناس، والإسلام لم يأت إلى الناس ليقول لهم لا أدري، ولا ليتركهم حيارى في حياتهم لا يهتدون سبيلا ولا يدركون حقا من باطل، وإنما جاء بالنور والهدى والحكم الفاصل في كل ما يعني الناس من قضايا وشؤون مصداقا لقوله سبحانه: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) وقوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) ومن أجل ذلك فإن من أهم مهمات العلماء وأوجب واجباتهم أن يبينوا الإسلام للناس، ويبلغوا عن الله ورسوله، ويذبوا عن دينه، وينفوا عنه تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، امتثالا لقول الله عز وجل: (وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وقوله سبحانه: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) وقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). فالأصل في أهل العلم وطبيعة وضعهم أن يعلموا الناس ويفتوا المستفتين، ويعرفوا الجاهلين ما يجهلون من دينهم، ولا يسع أحدهم أن يقول لمن سأله عن شيء: لا أدري، وهو قادر أن يبحث ويجتهد ويرجع إلى مراجع الشريعة ليجد الجواب عما سئل عنه، فالعلم ليس بكثرة المسائل كما قال الإمام مالك والعالم لا يشترط فيه أن يكون قاموسا للمعلومات، ولا مستوعبا لكل العلوم والفنون، فقد تغيب عنه مسائل من العلم وقد تخونه الذاكرة فينسى ما كان قد علمه، ولكن العلم قدرة على اكتساب المعرفة من مصادرها، وملكة يكتسبها المرء من الدراسة والممارسة ومصاحبة العلماء، فيكون بها قادرا على فهم النصوص والاستنباط من دلالاتها والتمكن من أدوات الاجتهاد، وهذا المفهوم هو الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «رب حامل فقه غير فقيه<، ومن كان من هذا الصنف من العلماء لا يسوغ منه أن يقول: لا أدري لمن سأله ولا ينبغي له أن يمسك عن الفتوى إذا استفتاه مسلم، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت محدثاته، وظهرت فيه أنماط جديدة من المعاملات والعلاقات التي يريد المسلم أن يعلم حكم دينه فيها ليكون على بينة مما يأتي منها وما يذر، كما أن علماء الإسلام مطالبون في هذا العصر أن يقدموا حلولا شرعية ومناهج إسلامية لإصلاح أوضاع الحياة وإخراج الناس أفرادا وأسرة ومجتمعا مما يتخبطون فيه من هموم ومشكلات لم يجدوا لها في القوانين الوضعية مخارج سليمة، فإذا تمسك العلماء أمام هذه المطالب بمبدأ (لا أدري) نسب عجزهم إلى الإسلام، ورمي بالجمود والقصور عن مواكبة الحياة ومسايرة أوضاع العصر، وهي تهمة ما فتئ خصوم الإسلام يلصقونها به زورا وبهتانا لكن علماء (لا أدري) يمدونهم بالبرهان على ما يفترون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وللحديث بقية إن شاء الله الشيخ عبد الباري الزمزمي