توقيه -رحمه الله- في الفتيا: وعن ورعه رحمه الله في الفتيا والوقوف عند ما يعلم، وعدم تجاوزه إلى ما لا يعلم يقول الهيثم بن جميل رحمه الله: (سمعت الإمام مالكًا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب عن اثنتين وثلاثين مسألة منها بقوله: لا أدري، وأجاب عن ست عشرة مسألة بما يعرف)(1). وكان مالك نفسه يقول: (جُنَّة العالم قوله: لا أدري، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله)(2). قال الإمام ابن عبد البر المالكي رحمه الله: (صح عن أبي الدرداء "لا أدري" نصف العلم)(3). فلم ير مالك رحمه الله أن تصدره يعني أنه قد بلغ الغاية والكمال، بل رأى أنه كما قيل: فقل لمن يدعي في العلم فلسفةً حفظتَ شيئًا وغابت عنك أشياءُ(4) ولهذا كان يعتصم ب(لا أدري) ويقول: جُنّة العالم : لا أدري ومن تركها أصيبت مقاتله، و(لا أدري) نصف العلم.. وربما سئل فتوقف، فإذا قال له السائل: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟ قال: (تقول لهم: قال مالك: لا أحسن)(5). وعن خالد بن خداش قال : قدمت على مالك بأربعين مسألة ، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل (6) . وقال ابن وهب : لو شئت أن أملأ ألواحي من قول مالك : " لا أدري " لفعلت(7). ورُبَّ مسألة لو عرضت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر(8)، لكنها لو عرضت على واحد من صغار الطلبة لرأى أنها واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار ولا تحتاج إلى كلام. وقد كان السلف الصالح يتدافعون الفتيا، وكل واحد يحيلها على الآخر، وأصبح الكثيرون اليوم يتنازعون الكلام، وكل واحد منهم يحاول أن يتكلم ويفتي قبل أن يسبقه غيره إلى ذلك. ومع هذا فإن الإمام مالكًا ملأ الدنيا علمًا وفهمًا وفقهًا، وتلقى عنه طلابه أصول المذهب المالكي الذي هو المعتمد في كثير من بلاد أفريقية كالمغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، وسائر بلاد الإسلام، ووضع الإمام أصولًا خاصة كمذهب أهل المدينة وافقه عليه كثيرون، وانتفعوا به، حتى من غير المالكية. وتفرّد علماء المذهب المالكي بمباحث أصولية عظيمة كالمقاصد الشرعية، ومباحث المصالح، ولا زالت كتب الشاطبي والقرافي وغيرهما معالم بارزة في مسيرة العلوم الإسلامية. أما التعصب المذهبي فليس شأنًا خاصًا بهم، بل هو داء مستحكم لدى سائر المذاهب، ولعل المالكية من أقل الناس افتتانًا به، وإن كان في مأثور الشعر قول منذر بن سعيد: عُذيري مِنْ قومٍ يقولون كُلمَّا فإنْ زدت قالوا قال سحنون مثلَه فإنْ عُدتُ قالوا هكذا قالَ أشهبُ فإن قلتَ قال اللهُ ضَجُّوا وأكثروا وإنْ قلتَ قدْ قالَ الرسولُ فقولهم طلبتُ دليلًا هكذا قالَ مالك وَمَنْ لَمْ يَقُلْ ما قاله فهو آفك وَقَدْ كانَ لا تخفى عليهِ المدارك وقالوا جميعاً أنتَ قِرنٌ مماحك أتت مالكًا في تركِ ذاكَ المسالك (9) ومالك رحمه الله ومن بعده من تلاميذه ورواته وخُزان علمه ومدوني فقهه، كلهم باحثون عن الحق، منصاعون للدليل، وقَّافون عند حدود الله، وكان سيدهم يقول: (ما من أحد إلا مأخوذ من قوله ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم)(10). دروس في عزة العالم وقوته في الحق: قدم المهدي -وهو خليفة المسلمين- فبعث إلى مالك بألفي دينار أو بثلاثة آلاف دينار، ثم أتاه الربيع فقال: (إن أمير المؤمنين يحب أن تعادله(11) إلى مدينة السلام، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون»(12)، والمال عندي على حاله)(13). وهذا موقف عظيم، ويشبه ذلك قوله رحمه الله: (والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه، إلا نزع الله هيبته من صدري)(14). وجاء الخليفة هارون الرشيد بصحبة أولاده إلى الإمام مالك رحمه الله فقال: (اقرأ علي شيئًا من العلم. فقال له الإمام مالك: والله ما قرأت على أحد منذ زمان، وإنما يقرأ عليّ. فقال هارون الرشيد لمالك: لا مانع! ولكن أخرج الناس من مجلسك حتى أقرأ عليك، فأبى الإمام مالك وقال: إذا منع العام لأجل الخاص لم ينتفع الخاص؛ ثم أمر الإمام مالك -دفعًا للإشكال- بعض الحاضرين أن يقرءوا عليه)(15). وقال مالك أيضًا: (دخلت على أبي جعفر المنصور وكان الناس يدخلون عليه، فمنهم من يقبل رأسه، ومنهم من يقبل يده، ومنهم من يقبل رجله، قال: فعصمني الله تعالى من ذلك كله)(16). يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما ولم أقضِ حقَّ العِلْمِ إنْ كان كُلَّما ولو أنّ أهلَ العلمِ صانوه صانهم رأَوْا رَجُلًا عن موقفِ الذُّلِّ أَحْجَما بدا طَمَعٌ صيّرتُه لي سُلَّما ولو عظَّموه في النفوسِ لَعظّمَا أرى الناسَ مَن دانَهم هان عندَهم أَأَشْقَى به غَرْسًا وأَجْنِيهِ ذِلَّةً ولكنْ أذلوه جهاراً ودنّسوا ومَن أكرَمَتْه عزةُ النّفسِ أُكرِما إذًا فاتِّباعُ الجهلِ قد كان أَحْزَمَا مُحيَّاه بالأطماعِ حتَّى تَجَهَّمَا(17) قدم المهدي إلى المدينةالمنورة فبعث إلى مالك ليقرأ على أولاده، فقال الإمام مالك: (العلم يُؤتى إليه. فقال الخليفة وكان رجلًا عاقلًا: صدق مالك، اذهبوا إلى مالك واسمعوا منه، فذهبوا إلى مجلسه ومعهم المؤدب؛ فقال المؤدب للإمام مالك: اقرأ عليهم! فقال الإمام مالك: إن أهل المدينة كانوا يقرؤون العلم علينا كما يقرأ الصبيان على المعلم. فرجعوا إلى المهدي وأخبروه بالخبر، فكلم المهدي مالكًا، فقال الإمام مالك: يا أمير المؤمنين! إني سمعت الإمام ابن شهاب الزهري يقول: جمعنا هذا العلم في الروضة الشريفة من رجال، وهؤلاء الرجال -يا أمير المؤمنين- هم أمثال: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، والقاسم، وسالم، ونافع، وربيعة، ويحيى، وفلان وفلان، وكل هؤلاء كان يُقرأ عليهم العلم ولا يقرؤونه هم، فقال الخليفة: نعم والله إن في هؤلاء قدوة، يا أولادي، سيروا إلى الإمام مالك فاقرؤوا عليه)(18). فجلسوا في غمار الناس، وقرءوا على الإمام مالك كما يقرأ سائر الطلاب. وفي ذلك الموقف أنموذج للحاكم العاقل الذي عرف حق العالم فأداه على أكمل وجه، ونشّأ بنيه على تقدير العالم، والأخذ عنه ومجالسته. والإمام رحمه الله كان مؤدبًا، عظيم الأخلاق، واسع التقدير للخلفاء والولاة لا يخاطبهم إلا بما يليق بهم، وكان رفيع الذوق، طيب الرائحة، نقي الثوب، مهيبًا، فيه أخلاق الملوك، على تواضعه وسماحته. -------------------------------------------------------------------------------- (1) سير أعلام النبلاء (8/77) بنحوه. (2) تاريخ دمشق (8/363)، سير أعلام النبلاء (8/77). (3) انظر: سير أعلام النبلاء (8/77)، ترتيب المدارك (1/144)، الانتقاء (ص/76). (4) البيت لأبي نواس، وهو في ديوانه (ص/7) ضمن قصيدته التي مطلعها: (دع عنك لومي فإن اللوم إغراء). (5) انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/53)، مقدمة الجرح والتعديل (ص18)، تهذيب الأسماء (2/385). (6) السير (8/69). (7) السير (8/97). (8) انظر: تاريخ دمشق (38/41)، سير أعلام النبلاء (5/416). (9) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/1138). (10) انظر: روح المعاني (11/188). (11) عادل فلانًا في المحمَل: ركب معه. المعجم الوسيط (2/609). (12) أخرجه البخاري (1875)، ومسلم (1388) من حديث سفيان بن زهير . (13) انظر: مقدمة الجرح والتعديل (1/30)، تذكرة الحفاظ (1/210). (14) انظر: سير أعلام النبلاء (8/59). (15)انظر: تاريخ دمشق (36/312)، سير أعلام النبلاء (8/66). (16) انظر: سير أعلام النبلاء (8/71، 61)، ترتيب المدارك (1/208). (17) الأبيات لأبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني ضمن أبيات في معجم الأدباء لياقوت الحموي (4/1797)، والجامع للخطيب البغدادي (1/371). (18) سير أعلام النبلاء (8/63).