محنة الإمام مالك رحمه الله: تعرض هذا الإمام لفتنة عظيمة، فقد كان يفتي في مجلس علمه أنه ليس على المستكره طلاق، وينقل عن ابن عباس t أنه قال: «ليس على مستكره طلاق(1)». فجاء بعض المنافسين وقالوا لأبي جعفر المنصور: إن مالكًا يقصد بقوله: ليس على مستكره طلاق: أن البيعة لكم لا تنفذ، لأنها وقعت بغير رضا. فأُحضر مالك، وجُلِد أربعين جلدة، وضربوه حتى أصابه هذا الضرب في يده؛ فكان يحمل إحدى يديه بالأخرى (2). وكان إبراهيم بن حماد ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه ، حمل يده بالأخرى (3) فدخل هؤلاء في تفسير نيات الإمام مالك ومقاصده، فحاسبوه على كلام لم يقله، وغفلوا عن الكلام الذي قاله، مع أن من شريعة الله تعالى أن لا يؤاخذ الشخص إلا على ما قاله بلسانه وتلفظ به، أو فعله بنفسه، ولكن كثيًرا من المتعجلين لا يعلمون. ومهما اختلفت الروايات في طبيعة الوشاية التي أوذي مالك بسببها فإن الراجح أن السبب هو أنه كان يحدث بحديث ابن عباس : " ليس على مستكره طلاق " واختلف المؤرخون في سياق قصة محنة مالك بن أنس إلا أن أبا العرب التميمي قد يكون أكثرهم تفصيلاً فقد ساقها في كتابه " المحن " بسنده فقال : " حدثني يحيى بن عبد العزيز ، عن يوسف بن يحيى الأزدي عن عبد الملك بن حبيب ، وحدثني أيضاً سعيد بن شعبان ، قال : حدثنا عُبيد الله بن عبد الملك عن أبيه ، وبعضهم يزيد على بعض ، عن مطرف بن عبد الله ، وغيره من أصحاب مالك : أن هَيْجاء هاجت بالمدينة في زمان أبي جعفر ، فبعث إليها أبو جعفر ابن عمه جعفر بن سليمان العباسي ليُسَكِّن هيجاءها ويجدد بيعة أهلها ، فقدمها وهو يتوقد على أهل الخلاف لأبي جعفر ، فأظهر الغلظة والشدة وسطا على كل من ألحد في سلطانهم ، وأخذ الناس بالبيعة ، ومالك يومئذ سيد أهل زمانه ، ولم يزل صغيراً وكبيراً محسوداً ، وكذلك من عظمت نعمة الله عليه في علمه أو عقله أو نبله أو ورعه ، فكيف بمن جمع الله -تبارك وتعالى- ذلك له فيه ، ولم يزل مالك منذ نشأ يسلب النباهة والرئاسة مَنْ كان قد سبقه إليها ، بظهور نعمة الله عليه وسموها به على كل سامٍ قبله من أهل بلده ، فاشتد لذلك الحسد عليه وألحهم ذلك في البغي ، فدسوا إلى جعفر (4) من قال له : إن مالكاً يفتي الناس أن أيمان البيعة لا تلزمهم لمخالفتك واستكراهك إياهم عليها . فدس عليه جعفر بعض من لم يكن مالك يخشى أن يؤتى من قبله ، ومن مأمنه يؤتى الحَذِر . فسأله عن ذلك سِرَّاً فأفتاه بذلك طمأنينة إليه وحسبة منه ، فلم ينشب مالك أن جاء إليه رسول جعفر بن سليمان ، فأتي به منتهك الحرمة ، مذال الهيبة ، فأمر به جعفر بن سليمان فضربه سبعين سوطاً ، فلما سكن الهيج وتمت البيعة بلغ أبا جعفر ضرب مالك ، فكره ذلك ولم يَرْضه ، فبعث إلى مالك يستقدمه على نفسه بالعراق ، فأبى من ذلك ، وكتب إليه يستعفيه ويعتذر ببعض العذر ..(5) ". وقال أيضاً : " وحدثني يحيى بن عبد العزيز قال : حدثني بقي بن مخلد ، عن أبي بكر عبد الله بن جعفر قال : لما ضرب مالك بن أنس ، ضربه والٍ كان بالمدينة لجعفر بن سليمان الهاشمي ، فعتب جعفر بن سليمان على واليه الذي ضرب مالكاً في بعض أموره ، فضربه وحلق رأسه ولحيته ، فقيل لمالك بن أنس : إن جعفر بن سليمان قد ضرب فلاناً وحلق رأسه ولحيته ، وأقامه للناس ، فقال مالك : وما تريدون به ، أترون أن حظنا مما نزل به النظر إليه والشماتة به ؟ إنا نؤمل من ثواب الله ما هو أعظم من ذلك ، ونؤمل له من عذاب الله ما هو أشد من ذلك (6) ". وفي المعرفة والتاريخ للفسوي أن الذي ضرب مالكاً هو سليمان بن جعفر بن سليمان بن علي ، قال الفسوي : " وسمعت مكي بن إبراهيم قال : ضرب مالك بن أنس في سنة سبع وأربعين ومائة ، ضربه سليمان بن جعفر بين سليمان بن علي ، قال : ضُرِب سبعين سوطاً (7) ". قال الإمام محمد أبو زهرة : " .. ويظهر أن أهل المدينة عندما رأوا فقيهها وإمامها ينزل به ذلك النكال سخطوا على بني العباس وولاتهم ، وخصوصاً أنه كان مظلوماً ، فما حرض على فتنة ، وما بغى ، ولا تجاوز حد الإفتاء ، ولم يفارق خطته قبل الأذى ولا بعده ، فلزم درسه بعد أن أَبَلَّ من جراحه وَرَقأت ، واستمر في درسه لا يحرض ولا يدعو إلى فساد ، فكان ذلك مما زادهم نقمة على الحاكمين ، وجعل الحكام يحسون بمرارة ما فعلوا ، وخصوصاً أبا جعفر الداهية ، والفرصة لديهم سانحة ، فإنه لم يكن في ظاهر الأمر ضارباً ولا أمراً بضرب ، ولا راضياً عنه ، لذلك عندما جاء إلى الحجاز حاجّاً أرسل إلى مالك يعتذر إليه . ولنسق الخبر كما جاء على لسان مالك t لنعرف منه مقدار إجلال أبي جعفر له ، وعظم مالك في سماحته ، كما كان عظيماً في مهابته t ، وها هو ذا الخبر : " لما دخلت على أبي جعفر ، وقد عهد إليَّ أن آتيه في الموسم ، قال لي : والله الذي لا إله إلا هو ما أمرت بالذي كان ، ولا علمته ، إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم ، وإني أخالك أماناً لهم من عذاب ، ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة ، فإنهم أسرع الناس إلى الفتن ، ولقد أمرت بعدُ والله أن يؤتى به من العراق على قتب ، وأمرت بضيق محبسه والاستبلاغ في امتهانه ، ولابد أن ينزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه . فقلت عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه ، قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله r ، وقرابته منك ، قال : فعفا الله عنك ووصلك (8). وفي " الثقات " لابن خلكان أن مالكاً لما ضرب مسح ظهره عن الدم ودخل المسجد وصلى وقال : لما ضرب سعيد بن المسيب فعل مثل ذلك (9) . قال الإمام الواقدي: (فوالله مازال مالك بعدُ في رفعة وعلو)(10)؛ هل ترى أن هذا الضرب أساء إلى مالك أو حط من قدره؟ كلا. بل كان هذا جزءًا من تاريخه. قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: (هذا والله ثمرة المحنة المحمودة، أنها ترفع العبد عند المؤمنين)(11). وقد قيل للشافعي رحمه الله: (أيُّما أفضل للرجل: أن يُمَكنَّ أو يُبتَلى؟ فقال: لا يمكّنَّ حتى يُبتلى)(12). إخلاصه القصد رحمه الله: يقول مالك رحمه الله: (ما تعلمت العلم إلا لنفسي، وما تعلمته ليحتاج الناس إليّ)(13). لقد كانت نية الإمام مالك في العلم نية صالحة، فما تعلمه ليصرف وجوه الناس إليه، ولا ليلتف الناس حوله، ولا ليعمر به المجالس، إنما تعلمه ليعمل به، ويدعو إليه، ويصبر عليه، وينوِّر له طريقه إلى الله تعالى وإلى الدار الآخرة، فصبر في هذا الطريق وتعلم، فاحتاج الناس إليه وكثروا حوله. وكان الإمام مالك يقيم حلقة عامرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس إليها، ويضربون إليه أكباد الإبل من بلاد الأندلس والمغرب والشام والعراق ومصر وغيرها؛ وكانت حلقته حلقة عظيمة، وقد ألّب هذا قلوب بعض الحاسدين عليه؛ فغاروا وتكلموا، وسبوه واتهموه، وقالوا فيه ما قالوا، وأغروا به السلاطين فَضُرِبَ وجُلِد وسُجِن وأوذي ومنع فترة من التعليم، فما زاده هذا إلا شموخًا ورفعة ومكانة عند المسلمين، فلجؤوا إلى أمر آخر، وهو التشهير والوشوشة(14) حول سمعة الإمام مالك وعلمه، حتى إن الإمام مالكًا قال يومًا من الأيام لمطرّف: (ما يقول الناس فيّ؟ قال له: أما الصديق فيثني، وأما العدو فيقع ويطعن في عرضك. فقال الإمام مالك: الحمد لله الحمد لله مازال الناس كذلك، ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلها)(15). إذا مُتُّ كانَ الناسُ نصفَينِ شامِتٌ وآخرُ مُثنٍ بالذي كنتُ أَصنَعُ (16) سأل رجل الإمام مالكًا عن مسألة فأجابه مالك بما يعلم، فكان رد هذا الرجل أن قال لمالك: أنت من الناس، أحيانًا تخطئ وأحيانًا لا تصيب، فقال له الإمام مالك: (هكذا الناس!). فما تفطن الإمام مالك لكلام السائل؛ لأن الإنسان الكريم الشريف صاحب المروءة لا يلتفت إلى أساليب الغدر، بل يأخذ الأمور على ظواهرها. فلما ذهب الرجل قال التلاميذ للإمام مالك: ألم تعِ ما قال؟ فقال لهم الإمام مالك: (أنا عهدت العلماء لا يتكلمون بمثل هذا الكلام، وإنما أجيب على جواب الناس)(17)، أي: ما عهدت أحدًا من أهل العلم يتهم الإنسان بأنه لا يصيب أبدًا؛ لأنه ما من إنسان إلا ويؤخذ منه ويترك. وقد كان مالك رحمه الله يقول: (كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر)(18)، ويشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يرى أن البشر يجتهدون فيخطئون ويصيبون، فإن اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإن اجتهدوا فأخطؤوا فلهم أجر واحد، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتفق عليه(19). قال ابن أبي أويس : كان مالك قد أكثر النظر في المصحف قبل موته بسنين ، وكان كثير القراءة طويل البكاء (20). قال ابن وهب : قيل لأخت مالك : ما كان شغل مالك في بيته ؟ قالت : المصحف ، التلاوة (21) . وفاة الإمام مالك رحمه الله: عُمِّر الإمام مالك تسعًا وثمانين سنة، وكانت وفاته سنة (179ه)، وكان يقول عند موته: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، لله الأمر من قبل ومن بعد)؛ ودفن رحمه الله t بالبقيع(22). وقيل في رثائه رحمه الله: لقدْ أصبحَ الإسلامُ زُعزِعَ ركنه غداة ثوى الهادي لدى مُلحدِ القبر إمامُ الهدى ما زالَ لِلعلمِ صَائنًا عَليهِ سَلامُ اللهِ في آخرِ الدهر (23) كما رثاه -أيضاً- أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين بقوله : سقى جدثا ضم البقيع لمالك إمام موطاه الذي طبقت به أقام به شرع النبي محمد له سند عال صحيح وهيبة وأصحاب صدق كلهم علم فسل ولو لم يكن إلا ابن إدريس وحده من المزن مرعاد السحائب مبراقُ أقاليم في الدنيا فساح وآفاق له حذر من أن يضام وإشفاق فللكل منه حين يرويه إطراق بهم إنهم إن أنت ساءلت حذاق كفاه ألا إن السعادة أرزاق (24) قال أسد بن موسى: (رأيت مالك بن أنس بعد موته وعليه طويلة وثياب خضر، وهو على ناقة تطير بين السماء والأرض، فقلت: يا أبا عبد الله! أليس قد مُتَّ؟ قال: بلى. قلت: فإلى ما صرت؟ قال: قدمت على ربي وكلمني كفاحًا. قال: سلني أُعطك وتمنَّ عليَّ أرضك)(25). فنعم الخاتمة هذه التي ختم الله تعالى له بها؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة»(26). وكانت هذه الرؤية الصالحة أمارةً على حسن الختام لهذا الإمام، وأن الله تعالى قد أنزله منزل صدقٍ، وبلَّغه منازل الصالحين في الجنة. -------------------------------------------------------------------------------- (1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/48) ورجاله ثقات، وعلقه البخاري (9/343) في الطلاق ولفظه (طلاق السكران والمستكره ليس بجائز). (2) انظر: الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة (ص43)، الديباج المذهب (ص28). (3) السير (8/72). (4) جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس والي المدينة. (5) المحن (ص/319-320). (6) المحن (ص/ 322). (7) (1/15). (8) مالك لأبي زهرة (ص/61) (9) (7/460). (10) انظر: سير أعلام النبلاء (8/80، 81). (11) المرجع السابق. (12) زاد المعاد (3/14). (13) انظر: سير أعلام النبلاء (8/66). (14) الوشوشة: كلام في اختلاط. مختار الصحاح (301). (15) انظر: حلية الأولياء (6/321)، سير أعلام النبلاء (8/67). (16) البيت للعجير السلولي، وهو في جامع العلوم والحكم (1/419) بدون نسبة. (17) تاريخ الإسلام للذهبي حوادث وفيات (171-180). (18) السير (8/84). (19) أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ولفظه: "وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". (20) ترتيب المدارك (2/57). (21) السير (8/99). (22) انظر: سير أعلام النبلاء (8/130). (23) ترتيب المدارك (2/57). (24) السير (8/99). (25) ترتيب المدارك (1/239). (26) صحيح مسلم (94). وأخرجه أيضًا البخاري (5827) من حديث أبي ذر