تنسيق أمني مغربي إسباني يطيح بخلية إرهابية موالية ل"داعش"    جمهورية بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "البوليساريو"        لقجع يؤكد "واقعية" الفرضيات التي يرتكز عليها مشروع قانون المالية الجديد    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        كيوسك الجمعة | إيطاليا تبسط إجراءات استقدام العمالة من المغرب    السلطات الجزائرية توقف الكاتب بوعلام صنصال إثر تصريحات تمس بالوحدة الترابية لبلده    بنما تعلق الاعتراف ب "الجمهورية الوهمية"    البحرين تشيد بالدور الرئيسي للمغرب في تعزيز حقوق الإنسان    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    جنايات طنجة تدين المتهمين في ملف فتاة الكورنيش ب 12 سنة سجنا نافذا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'            المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إمام دار الهجرة -3- بقلم سلمان بن فهد العودة
نشر في التجديد يوم 09 - 09 - 2009


بين مالك والليث بن سعد :
ولكي تنكشف لنا بعض المساجلات التي كانت تجري بين الإمام مالك وبعض معاصريه من الأئمة والفقهاء في قضايا فقهية خالصة, اختلفت فيها الآراء, وتباينت فيها الأحكام ، فإن الرسائل المتبادلة بينه وبين الليث بن سعد -إمام مصر- وكانا صديقين يمكن أن تمدنا بنماذج نفيسة من مناهج الأئمة في طريقة تبادل وجهات النظر بعضهم مع بعض .
غير أن جميع الرسائل التي تكاتب بها الإمامان الجليلان ليست بين أيدينا ، فقد ضاع أكثرها, وبقيت هاتان الرسالتان النفيستان اللتان نورد نصهما فيما يلي :
رسالة مالك : " من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد " :
سلام عليكم، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو.
أما بعد عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية , وأعاذنا وإياك من كل مكروه.
اعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا, وببلدنا الذي نحن فيه, وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك, وحاجة من قِبَلَك إليك, واعتمادهم على ما جاء منك، حقيق بأن تخاف على نفسك, وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله تعالى يقول في كتابه: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [التوبة/100]
وقال تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ )[الزمر/17، 18].
فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وأحل الحلال وحرم الحرام, إذ رسول الله بين أظهرهم, يحضرون الوحي والتنزيل ويأمرهم فيطيعونه, ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته.
ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته, ممن ولي الأمر من بعده , فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، وإن خالفهم مخالف, أو قال امرؤ غيره أقوى منه وأولى, ترك قوله وعمل بغيره، ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل, ويتبعون تلك السنن، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به ؛لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا, وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم.
فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك, واعلم أني أرجو أن لا يكون دعائي إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالى وحده، والنظر لك, والظن بك، فأنزل كتابي منك منزلته، فإنك إن فعلت تعلم أني لم آلك نصحاً.
وفقنا الله وإياك لطاعته, وطاعة رسوله في كل أمر وعلى كل حال.
والسلام عليك ورحمة الله، وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر (1) .
رسالة الليث يرد بها على رسالة الإمام مالك :
يرد الإمام الليث على الإمام مالك برسالة طويلة, تعتبر قطعة من الأدب الرفيع, فضلاً عن كونها وثيقة أخلاقية فقهية نفيسة ، مدعومة بالأدلة من الكتاب والسنة ، يقول فيها :
سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد - عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة - فقد بلغني كتابك, تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم, وأتَمّه بالعون على شكره, والزيادة من إحسانه، وذكرتَ نظرك في الكتب التي بعثتَ بها إليك, وإقامتَك إياها, وختمك عليها بخاتمك، وقد أتتنا فجزاك الله عما قدمت منها خيراً، فإنها كتب انتهت إلينا عنك, فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها، وذكرت أنه قد أنشطتك ما كتبت إليك فيه, من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلاً، إلا لأني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قِبَلِي على ما افتيتهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة, وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أعدّ أحداً قد ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا, ولا أشد تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مضوا, ولا آخذ
لفتياهم فيما اتفقوا عليه؛ مني , والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة, ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه, وما علمهم الله منه, وأن الناس صاروا به تبعاً لهم فيه, فكما ذكرت. وأما ما ذكرت من قول الله عز وجل (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [التوبة/100] فإن كثيراً من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله , فجندوا الأجناد واجتمع إليهم الناس , فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه, ولم يكتموهم شيئاً علموه، وكان في كل جند منهم طائفة يعلّمون - لله - كتاب الله وسنة نبيه, ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، ويقوِّمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان, الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين, ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون لأجنادهم في الأمر اليسير , لإقامة الدين, والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم، فلم يتركوا أمراً فسره القرآن, أو عمل به النبي صلى الله عليه وسلم, أو ائتمروا فيه بعده إلا أعلموهموه، فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان, ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره، فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يحدثوا اليوم أمراً لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم.
مع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا بعده في الفتيا في أشياء كثيرة، ولولا أني قد عرفت أن قد علمتها لكتبت بها إليك، ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, سعيد بن المسيب ونظراؤه أشد الاختلاف، ثم اختلف الذين كانوا بعدهم, فحضرتهم بالمدينة وغيرها , ورأسهم يومئذ ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن، فكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما عرفت وحضرت، وسمعت قولك فيه , وقول ذوي الرأي من أهل المدينة, يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر وكثير بن فرقد وغيرهم كثير, ممن هو أسن منه ,حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.
وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله (2) بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك, فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكره، ومع ذلك -بحمد الله -عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة ولنا خاصة، رحمة الله عليه , وغفر له وجزاه بأحسن من عمله. وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه في الشيء الواحد على فضل رأيه وعلمه - بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضاً، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.
وقد عرفت مما عبت إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة, بما لا يعلمه إلا الله لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح, وخالد بن الوليد, ويزيد بن أبي سفيان, وعمرو بن العاص, ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل.
وقال : يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة.
وشرحبيل بن حسنة, وأبو الدرداء, وبلال بن رباح، وكان أبو ذر بمصر, والزبير بن العوام, وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر, وبأجناد المسلمين كلها , وبالعراق ابن مسعود, وحذيفة بن اليمان وعمران بن الحصين، ونزلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة سنين بمن كان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط
ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يقضى بالمدينة به، ولم يقض به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, بالشام وبحمص ولا مصر ولا العراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون, أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم ولي عمر بن عبد العزيز , وكان كما قد علمت في إحياء السنن، وقطع البدع، والجدّ في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم بما مضى من أمر الناس، فكتب إليه زريق بن الحكيم: أنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين، ولم يجمع بين المغرب والعشاء قط ليلة لمطر، والسماء يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصرة ساكناً.
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت, فدفع إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر، ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا من بعدهم لامرأة بصداقها المؤخر إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق؛ فتقوم على حقها.
ومن ذلك قولهم في الإيلاء أنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف وإن مرّت الأربعة الأشهر، وقد حدثني نافع عن عبد الله بن عمر – وهو الذي كان يروى عنه ذلك التوقيف بعد الأشهر - أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحل للمولي إذا بلغ الأجل إلا أن يفيء كما أمر الله أو يعزم الطلاق (3).
وأنتم تقولون: إن لبث بعد الأربعة الأشهر التي سمى الله في كتابه, ولم يوقف, لم يكن عليه طلاق، وقد بلغنا عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وقبيصة بن ذؤيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف؛ أنهم قالوا في الإيلاء: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة.
وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن شهاب: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة, وله الرجعة في العدة.
ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا ملك الرجل امرأته أمرها؛ فاختارت زوجها فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً , فهي تطليقة، وقضى بذلك عبد الملك بن مروان، وكان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقوله، وقد كاد الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدة أو اثنتين كانت له عليها رجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً بانت منه، ولم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ فيدخل بها, ثم يموت, أو يطلقها، إلا أن يرد عليها في مجلسه, فيقول: إنما ملكتك واحدة، فيستحلف, ويخلى بينه وبين امرأته.
ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول: أيما رجل تزوج أمة, ثم اشتراها زوجها, فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك, وإن تزوجت المرأة الحرة عبداً ,فاشترته فمثل ذلك.
وقد بُلِّغْنا عنكم أشياء من الفتيا مستكرهاً، وقد كنت كتبت إليك في بعضها, فلم تجبني في كتابي، فتخوفت أن تكون استثقلت ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكرت, وفيما أوردت فيه على رأيك، وذلك أنه بلغني أنك أمرت زفر بن عاصم الهلالي - حين أراد أن يستسقي - أن يقدم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمت ذلك، لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة يوم الجمعة, إلا أن الإمام إذا دنا فراغه من الخطبة حول وجهه إلى القبلة فدعا، وحول رداءه ثم نزل فصلى، وقد استسقى عمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما، فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة، فاستهتر الناس كلهم فعل زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول في الخليطين في المال: إنه لا تجب عليهما الصدقة, حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة, ويترادان بالسوية، وقد كان ذلك يعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم وغيره، والذي حدثنا به يحيى بن سعيد, ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه فرحمه الله وغفر له وجعل الجنة مصيره.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل , وقد باعه رجل سلعة, فتقاضى طائفة من ثمنها, أو أنفق المشتري طائفة منها, أنه يأخذ ما وجد من متاعه، وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئاً , أو أنفق المشتري منها شيئاً, فليست بعينها.
ومن ذلك أنك تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير ابن العوام إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم بفرسين, ومنعه الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث, أهل الشام وأهل مصر وأهل العراق وأهل إفريقية، لا يختلف فيه اثنان؛ فلم يكن ينبغي لك - وإن كنت سمعته من رجل مرضي - أن تخالف الأمة أجمعين.
وقد تركتُ أشياء كثيرة من أشباه هذا، وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة, إذا ذهب مثلك مع استئناس بمكانك، وإن نأت الدار؛ فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجة إن كانت لك, أو لأحد يوصل بك، فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا, وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك ورحمة الله (4).
قال الدكتور مصطفى الشكعة , معلقاً على هاتين الرسالتين :
" والذي نريد أن نشير إليه هنا يقع في أمور عدة ":
منها أن المشورة العلمية وتبادل الآراء الفقهية بالرسائل كان وسيلة فعّالة في استجلاء كثير من الأحكام الغامضة, أو تلك التي يقع فيها الخلاف بين الأئمة والفقهاء, حسبما هو واضح من القضايا المثارة في رسالة الإمام الليث ، إن الذي يدعو إلى الرضا والإعجاب ؛ هو ذلك الأسلوب الراقي المهذب, الذي كان يعمد إليه الأئمة في رسائلهم ، فالأدب الجم هو الظاهرة السائدة في ثنايا الرسائل ظاهراً وباطناً ، والإطراء والدعاء كان بدوره من أرق السمات وأوضحها في تلك الرسائل ، دعاء المتراسلين بعضهما لبعض ، بل وإطراؤهم لمن يَرِد ذكرهم من العلماء ضمن الرسالة, والدعاء لهم وذكرهم بالخير .
والحقيقة أن تلك الظواهر الحميدة تتألق في رسالة الليث في أكثر من موضع ... وإذا ورد ذكر أحد من مخالفيهم فإن ذكره يقترن بكلمة خير, وجملة دعاء وشهادة حق , مهما يكن سبب الخلاف بينهم ، لقد كان كل من مالك والليث على خلاف مع ربيعة الرأي في بعض الأحكام ، ومع ذلك يرد ذكره في الرسالة هكذا : " وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله (5) بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك, فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، وتكرهان ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له, وجزاه بأحسن من عمله ".
فهل هناك قول في مخالف أجمل من هذا القول ؟
وهل هناك ذكر لمعارض أرق أو آدب من هذا الذكر ؟
لكن ذلك ليس بمستغرب ، لأنه أدب الأئمة وشمائل العلماء وأخلاق الفضلاء .
والرسالة تحوي كثيراً من القضايا الفقهية التي يتفاوت العلماء في مقدار تناولهم لها وفتاواهم فيها ، وهي تدل على قدر من العلم غير محدود وعاه الليث ، ولم يجد كبير ضير في أن يواجه به إمام دار الهجرة (6) ".
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ترتيب المدارك (1/41)، قال القاضي عياض: أتينا بها على وجهها لسرد فوائدها وهي صحيحة مروية.
(2) هو الماجشون المدني، الثقة الفقيه، المتوفي سنة 164ه
(3) رواه مالك في الموطأ (2/556)، والبخاري في صحيحه (5290) و(5291).
(4) رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك في (المعرفة والتاريخ) (1/687) للفسوي الحافظ أبي يوسف يعقوب بن سفيان قال : حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال : هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس.
وقد ذكرها ابن القيم في (إعلام الموقعين), وقال عن كتاب (المعرفة والتاريخ), وهو كتاب جليل غزير العلم جم الفوائد.
كما أورد نصها ابن معين في تاريخه (4/487)، وذكر طرفاً منها القاضي عياض في ترتيب المدارك (1/43).
قال الدقر في كتابه الإمام مالك (ص/207): وكان من الحق أو من الإنصاف أن يأتي بتمام الجواب من الليث، لا أن يختصرها بأسطر قليلة فيها ما يؤيد بعض طرائق مالك.
(5) هو الماجشون المدني، الثقة الفقيه، المتوفي سنة 164ه
(6) الإمام مالك بن أنس (ص/122)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.