يدل مفهوم الاجتهاد في بدايته على البحث من أجل إيجاد حكم ما لا نص فيه، ولم يشمل بدل الجهد من أجل استنباط حكم من مصادر الشريعة كا الكتاب والسنة والإجماع بالاستعانة بالوسائل المعينة على ذلك، لذلك فمدلول الاجتهاد في بدايته لم يخرج عن القياس وبعض الطرق الأخرى التي يتوصل إليها إلى وجدان حكم شرعي فيما لا نص فيه، مثل الاستحسان والمصلحة المرسلة، لذلك شاع عند الفقهاء المتقدمون عدم جواز الاجتهاد مع وجود النص، ولا يسمون العمل على فهم النص والاستنباط منه اجتهادا. ومن الناحية المبدئية فالدلالة التي تستفاد من المصادر التشريعية الثلاثة هي القطع والبيان، أو الظنون المبينة بنصوص أخرى، وأما الاجتهاد فلا يستفاد به إلا الظن والرأي، لذلك فلا يجوز الاجتهاد مع تطرق المصادر الأخرى للمسألة كما قال الشافعي الذي يرادف بين الاجتهاد والقياس: "ونحكم بالإجماع ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنه منزلة ضرورة؛ لأنه لا يحل القياس والخبر موجود"[1] " فالاجتهاد إنما يباح للمضطر كما تباح الميتة والدم عند الضرورة، "فمن إضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم"[2]. لذلك ذاع عند السلف التحفظ من الفتوى؛ لأن غالبها تتعلق بالمسائل الاجتهادية لتي لا نص فيها، ويدل على هذا التحفظ العديد من الأقوال الواردة عنهم، ومنها: قول البراء: "لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما فيهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا". وقال ابن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدّث بحديث، أو يسأل عن شيء إلا ودّ أخاه لو كفاه؟ وجاء عن ابن عباس انه قال: "إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي". وقال عطاء بن السائب: "أدركت أقواما إن كان احدهم ليسأل عن شيء فيتكلم وانه ليرعد. وكان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي، ولا يقول إلا قال: "اللهم سلمني، وسلم مني". وقال أبو حصين الأسدي: "إن احدهم يفتي في المسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر". وقال عقبة بن مسلم: "صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهراً، فكان كثيراً ما يُسأل، فيقول: لا أدري!". وقال الهيثم بن جميل: "شهدت مالكاً سُئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا ادري. وقيل ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها". وقال أبو نعيم: "ما رأيت عالماً أكثر قولاً لا أدري من مالك بن انس". وكان مالك يقول: "من سُئل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها إن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها؟" وقال ابن القاسم: "سمعت مالكاً يقول: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن". وقال سفيان بن عيينة وسحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا اقلهم علماً"[3]. يتبع في العدد المقبل.. ————————————————– 1. الرسالة للإمام الشافعي، شرح وتحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، الطبعة الثانية، 1979م، ص: 599. 2. أعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرءوف، دار الجيل ببيروت، 1973م، ج: 2، ص: 284. 3. أنظر النصوص السابقة في: أعلام الموقعين، ج: 1، ص: 34-35، و ج: 4، ص: 217-219. والشاطبي، الموافقات في أُصول الشريعة، مع حواشي وتعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة ببيروت، الطبعة الثانية، 1395ه – 1975م، ج: 4، ص: 286 وما بعدها.