مشاهد التقتيل والترهيب اللذان يمارسهما منتسبون إلى تنظيم "داعش"، دفعت الشاعرة المغربية، وداد بنموسى إلى إطلاق صرخة مدوية، تحذر فيها مما تقترفه الجماعات الإرهابية من إشاعة أجواء العنف والدمار، حيث وفدت بدين جديد، قالت إنه "دين البندقية والرصاص، واللحى المتدلية، واللثام الأسود". وأطلقت بنموسى، ضمن مقال خصت به هسبريس، صرخة أرادت من خلالها أن تحرك دواخل المثقفين، ضد "الدواعش" التي قالت إنهم يقتلون باسم الله، واسم دينه الرحيم"، مضيفة أن "الدواعش" قاسون وجبابرة وعنيفون"، قبل أن تسأل "لماذا يا إلهي جعلتهم يخرجون علينا كي يلطخوا أنهارك وسماءك بدم الأبرياء". إلهي..ما الذي يحدث؟ إلهي، أنت تعلم أن شهرك الفضيل قد حل، فأنت عليم بكل الأزمنة والأحوال، حلَّ شهرك الذي أمرْت عبادك بأن يصوموه تقربا منك، حل شهر رمضان الذي أنزلتَ فيه كتابك المقدس، القرآن الذي بعثَّ به هدى ورحمة...لكن، في هذا الركن من العالم العربي، غاب الهدى وغابت الرحمة: الفتنة والتقتيل والجثث ورائحة الموت العفنة.. القتلى والجرحى والثكالى والماشين في الأرض بلاحياة.. إلهي أنت الأعلم، هذه تحديدا حصيلة الدمار والترجيديا في اليمن وسوريا والعراق...فوضى لا تطاق، ودم على الطرقات أُهْرق هكذا عنوة من أجساد تناديك وأرواح تستغيث بك، وأياد طويلة تلهج بأسمائك الحسنى، أن تسعفها برحمتك.. ثم إنهم يقتلون باسمك يا إلهي، باسم دينك الرحيم، يذبحون، يشنقون، يطلقون الرصاص تلو الرصاص على رؤوس الشباب تحت قيظ شمس، تنظر إلى المجازر وتستحيي أن تُشْرِق على تلك الأرض، إنهم يقتلون إخوتهم يا إلهي، مدعين أنهم يخدمون دينك الحنيف. إنهم يشيعون الرعب والخوف الرهيب واليأس اللعين، وما تكاثر في أنفسهم من حب التعذيب والترهيب والتقتيل..إلهي، إنهم جاؤوا بدين جديد، دين البندقية والرصاص، واللحيّ المتدلية عربون قسوة، واللثام الأسود دليل تستُّر، والعيون الحمراء النارية يشهرونها في وجه كل من سوَّلت له نفسه أن يعبدك خارج قانونهم الجديد. إنهم يغتصبون النساء، ويستبيحون أعراضهن، ويركلون الأطفال واليتامى مطوحين بهم إلى جحيم الأرض، يا إلهي الرحيم، إنهم يقطعون أوصال الناس، ليجعلوا العالم يتفرج مذهولا، مذعورا، مرعوبا، وغير مصدق... باسمك وباسم دينك الرحب يتقاتلون، يمزقون بعضهم البعض، يعصفون بالرحمة التي زرعْتَ بِذرتها في أعماقهم، يتبادلون الرصاص، يخططون إلى جعل الأرض تخجل من أن تحملهم، وباسمين فرحين بتحقيق ما يسمونه نصرا وهاتفين باسمك الأكبر ، ومتوعدين منْ يخرج عن مذهبهم الدَّموي، بأبْشع الأقدار...يستمرون..حتى في شهرك الجليل.. دينك ليس دين دم، ولا دين تقتيل، ولا دين جوع وتشريد وقهر، دينك دين السلم والإيخاء والحب ، فمن منحهم كل هذا الجبروت في القلوب، وكل هذا العنف في النفوس وهذه الفتنة أشاعوها حتى لا فتنة بعدها... في شهرك الكريم هذا، لماذا لا يصومون عن رغباتهم في تشتيت الأفئدة والأرواح، لماذا لا يتفقون على جعل الهدى والرحمة والسكينة والسلام يرخي ظلاله الرحيمةَ على الجياع، العطشى، والواجفين تحت سماء بدورها تستاء؟؟؟ إلهي، ثمة طفل تحت الأنقاض مازال يئن ولا يعرف ماذا فعل ليستحق كل هذا الردم على جسده الفتي، ثمة امرأة تجمع أشلاء زوجها، أحبَّته وأنجبَت منه خمس صبيات فاتنات سقن كقرابين في ليلة ليلاء، ثمة شباب يافع يحبُّونك، ويسألون لماذا اقتيدوا معصوبي العيون إلى هذه الحافة، لينبطحوا ولتمر عليهِم فوهة البندقية، بينما أصبعٌ لعين يضغط... يضغط.. يضغط... على الزناد. أليس هذا شهرك الأبيض يا إلهي؟ شهر التوبة والمغفرة، شهر المحبة والتسامح، شهر صلة الأرحام والتَّحاب، فلماذا يستمرون في غلوهم باسم دينك الذي جعلته لنا محجَّة لتطهير الوجود، والسير بالبشرية نحو خلاصها، والوصول إلى رحابتك أنقياء، بُرَءاء من كل سوء ومَثْلبة، أنت الحق، فلما يجيئون بحقيقة غير حقيقتك المسالمة فينا؟ إننا نتأمل بالعقل علاماتك الإلهية على هذا الكوكب، لقد خلقت الماء للسنبلة، للصفصافة، للطائر، للرضيع، وللزهرة، وخلقت الرياح والرعود والكواكب السيارة، وجعلت البحار تجاور البحار في تناغم مالح لذيذ، وجعلت البرزخ بينهما حتى لا يبغيان، وخلقت الأمطار تصب في الأنهار وجعلت الوديان تمشي إلى حيث الظمأ جسورٌ، ولم نر في خلقك أيها الرحمن من تفاوت، ونعلم أنه بيدك الملك، وأنك على كل شيء قدير، وأنك تختبرنا لتعرف أينا أحسنُ عملا، وأنك خلقت سبع سماوات طباقا، وطيرا أبابيل، وخلقت بيننا دواعش لا قدرة لنا على استساغة قسوتهم وجبروتهم وعنفهم، فلماذا يا إلهي جعلتهم يخرجون علينا في فجرك كي يحرقوا سنابلك وزرعَك، ويلطخوا أنهارك وسمائَك بدم الأبرياء، ويدعون علينا بالقحط والقهر والذل والموت الشنيع، ياإلهي، هل هي حكمتك؟ جعلتنا نعود إليك فقراء إلى رحمتك؟؟ ثمة شاعر اسمه يانيس ريتسوس، لخص السلام في قصيدة، أريد أن أجنحها إليك مشفوعة بهُدْب رجائنا إليك، أنْ غيِّر في نفوسهم شراهة التقتيل أيها الإله القادر جلت قدرتك، فقد سئمنا الدم تعفن على الطرقات، والموت صار رفيقا يوميا يجلس على الموائد ويختار له أغلى الأحبة، كل يوم... كل يوم.. يقول يانيس ريتسوس: أحلام الطفل هي سلام أحلام الأم هي سلام كلمات الحب تحت الشجر هي سلام الأب الذي يرجع عند الغسق بابتسامة عريضة في عينيه حاملا سلة من الفواكه في يديه وقطرات العرق على جبينه كأنها قطرات ماء باردة على جرّة على شرفة النافذة، هذا سلام عندما تبرأ الجراح على وجه الوجود وفي حفر القنابل نزرع أشجاراً وفي قلوب أحرقتها النيران أمل تتفتح أولى براعمه ويتقلب الأموات على جنبهم ويناموا دونما شكوى عارفين أن دمهم لم يهدر عبثا، هذا سلام السلام هو رائحة الطعام عند المساء حينما لا يعني وقوف سيارة في الشارع خوف حينما طرق الباب يعني صديق وفتح النافذة كل ساعة يعني سماء لنملأ عيوننا بألوان أجراسها البعيدة، هذا سلام. السلام هو كأس من حليب دافيء وكتاب أمام الطفل المستيقظ. عندما تنحني عيدان القمح إلى بعضها لتهمس: الضوء، الضوء، فيفيض إكليل الأفق بالضوء، هذا سلام. عندما يصنع من السجون مكتبات، عندما تعلو أغنية من عتبة إلى عتبة في المساء، عندما يبزغ قمر الربيع من سحابة كعامل يخرج من حلاق الحيّ منتعشا بحلاقته في عطلة نهاية الأسبوع، هذا سلام. عندما مضيّ يوم لا يعني خسارة يوم وإنما جذر يرفع أوراق البهجة في المساء ويوم نصر ونوم ساكن، حينما تشعر ثانية أن الشمس تعقد لجامها في عجل لتتعقب الأسى لتطرده من زوايا الزمن، هذا سلام. السلام هو أكوام أشعة الشمس على حقول الصيف، هو كتاب أبجديات العطف على ركبتيّ الفجر. عندما تقول: أخي- عندما نقول: غدا سوف نبني، عندما نبني ونغني، هذا سلام. عندما يستوطن الموت حيزاً ضيقاً في القلب وتشير المداخن بأصابع ثابتة نحو السعادة، عندما يصبح ممكناً لقرنفل الشمس العظيم أن يُشم بالتساوي بين شاعر وعامل، هذا سلام. السلام هو أيادي الرجال المقبضة، هو خبز دافيء على مأدبة العالم، هو إبتسامة الأم. فقط هذا. السلام ليس شيئا آخر. والمحاريث التي تحفر أخاديد عميقة في الأرض كلها تكتب اسماً واحداً: سلام. لاشيء آخر. سلام. على عمود كلماتي الفقري القطار يمضي إلى الغدّ محملاً بالقمح والزهور هذا سلام. إخوتي، العالم بأسره بكل أحلامه يتنفس بعمق في سلام. مدّوا لنا أياديكم، إخوتي، هذا سلام.