نظرات في التشيع باعتباره ظاهرة تاريخية تابعت موضوع التشيع ونشأته وتطوره منذ زمان. وكتبت فيه "مشكلات افتراق الأمة إلى سنة وشيعة: الأصول والحلول." وهي دراسة غايتها حلّ هذا الخلاف القديم، أو على الأقل تلطيفه والتخفيف من آثاره.. فأنا من أنصار التقريب بين الطوائف الإسلامية، لكن على أسس موضوعية وصادقة، فإن تعذّر فالتعايش والاحترام المتبادل. وربما وُفّقت نسبيا في هذا المشروع لأنه نال جائزة دولية في الدراسات الإسلامية. أما هذه النظرات فهي نوع من نقد التشيع السياسي من حيث الروح العامة والتطور التاريخي. فلا يتعلق الأمر بعقائد الشيعة، بل بالتمظهرات السياسية للتشيع، أي بالأبعاد البشرية والتاريخية له. فأتمنى أن يفهمها الشيعة أو المتعاطفون معهم في هذا السياق، لا على أنها هجوم أو انتقادات عدوانية.. فأنا رجل فكر وبحث لا سياسة أو حرب. النظرة الأولى: مأساة المثقف الشيعي تاريخيا يعيش المثقف الشيعي مأساة من نوع خاص قد لا تجد لها مثيلا بين مثقفي أهل السنة أو مثقفي اليسار أو المثقفين الليبراليين.. فهؤلاء قادرون على أن يعلنوا عن مسافة بينهم وبين جمهورهم، فهم قادرون على تحقيق بعض الاستقلالية.. إلا من أبى، أو كانت له حسابات أخرى.. بينما المثقف الشيعي لا يستطيع ذلك. يمارس الجمهور الشيعي على مثقفيه نوعا من الوصاية والتحكّم، لذلك يضطر هذا المثقف إلى ممارسة رقابة ذاتية بموجبها لا يسمح لنفسه بالتعبير عن آرائه بحرية. الأزمات الأخيرة في المنطقة مثال بارز على ذلك: العالم كله يعتبر أن الأسد مجرم يقود عصابة مجرمة تسببت في أكبر كارثة إنسانية في الثلاثين سنة الأخيرة.. لا يوجد مفكر محترم يدافع عن بشار.. لكنك تجد مثقفي الشيعة صامتين. لا أقصد هنا من يدافع منهم عن الأسد، فهذا خارج موضوعنا أصلا. لكن أعني أنه يوجد كثير من مثقفي الشيعة ضد حكم الأسد وجرائمه وضد دفاع إيران وحزب الله عنه ويصرّحون بهذا في مجالسهم الخاصة، لكنهم لا يعبرون عن رأيهم علنا وبقوة ووضوح. ونادرا ما أصدر هؤلاء بيانا بهذا الخصوص. مثلا لا أحد يدافع عن الحوثيين، وهؤلاء جماعة سياسية فانتقادها ليس انتقادا للزيدية.. لكنك لا تجد في مثقفي الشيعة تصريحا برفض هذه الفوضى التي يحدثونها بالتواطؤ مع علي صالح الذي أطاح به الشباب.. مثال آخر: يتعرض أهل السنة في العراق منذ سنين لتطهير طائفي، وامتلأت بهم السجون، وارتكب المالكي وميليشياته مجازر فيهم، وتكاد بغداد تُفرغ من أهل السنة.. لكنك لا تسمع موقفا لمثقفي الشيعة.. الوحيد الذي استنكر ما يجري بقوة هو آية الله الصرخي حفظه الله، فتعرض أتباعه لإبادة، وهو الآن متخف. والأمثلة كثيرة ومتواصلة.. أما أسباب هذا الوضع فمعقدة، يتداخل فيها المذهبي بالديني بالنفسي.. لكنه مثال لما كان يسميه الشيخ مرتضى مطهري رحمه الله: (حكومة العوام). ويعني بها السلطة التي يمارسها جمهور التشيع الإمامي خاصة على علماء الشيعة ومثقفيهم. كان علي شريعتي رحمه الله مثالا متألقا للمثقف الشيعي الحرّ، لكنه حوصر، كما لم يتكرر نموذجه كثيرا.. ولعلّ هذا الموضوع بحاجة لدراسة عميقة. والله أعلم. هذا مجرد رأي. النظرة الثانية: التشيع بين المبدأ والمصلحة تاريخيا تأرجح التشيع، خاصة الإمامي، بين الحفاظ على المبدأ وبين اتباع المصلحة.. هو تذبذب مؤلم ومستمر طيلة تاريخ التشيع. لكن الذي حدث ويحدث في الغالب هو تغليب المصلحة: مصلحة المذهب، أو الطائفة، أو القيادة.. ونادرا ما غلّب التشيع المبدأ. والمقابلة المشهورة بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي مثال بارز. فالأول هو تشيع المبدأ، والثاني هو تشيع المصلحة. لذلك تفهم كيف أن التشيع الذي يرفع دائما راية الحسين الشهيد رضي الله عنه.. يمكن أن يقف عمليا في صف يزيد.. فيقف مع الظالم القاتل ضد المظلوم المقتول.. وتفهم كيف يستعمل الميكيافيلية بلا حرج.. ويعتبرها سياسة مشروعة ويؤصل لها من التقية.. و..و.. وتفهم لماذا وقفت الدولة الصفوية مع بعض القوى الأوربية ضد الدولة العثمانية.. بل تفهم حتى استعداد بعض التنظيمات الشيعية للاتجار في المخدارت لتمويل أنشطتها... هذه أمثلة. هذا الملمح في التشيع الإمامي لم يحظ بدراسة عميقة، وإن تحدث عنه علي شريعتي رحمه الله في عدد من كتبه وندّد بهذه الظاهرة ودعا لتغليب التشيع المبدئي وعدم استثمار المذهب لأغراض سياسية ضيقة أو قومية أو شخصية. النظرة الثالثة: الآخر بين التشيع والتسنن الآخر، أو المخالف أو المختلِف، ليس نفسه في تاريخ الشيعة والسنة. في المخيال السني: الآخر هو الخصوم التاريخيون الذين تنازع معهم على العقيدة والدين والتاريخ والجغرافيا، هم النصارى واليهود والهندوس والأفارقة الأرواحيين والمغول.. أي إلى حدّ كبير جدا الآخر بالنسبة للسنّي هو غير المسلم. لذلك كان تركيز أهل السنة في تاريخهم على هؤلاء، فنشطوا في دعوتهم إلى الإسلام، واصطدموا ببعضهم أحيانا في صراعات هادئة أو دموية، خاصة مع الأوربيين والمغول. أما الآخر في المخيال الشيعي، خاصة الإمامي أو الجعفري، فهو السنّي تحديدا، لا أكثر ولا أقلّ. ولا يشكل أهل الكتاب ولا الهندوس ولا البوذيون ولا المغول.. الآخر الذي يقابلهم. تاريخيا لم يكن للشيعة "مشكلة" مع هؤلاء.. صحيح أنهم كفار، وصحيح أنه يمكن أن يصطدموا ببعضهم في ظروف تاريخية خاصة، كما في حالة هجوم الصليبيين على الفاطميين بمصر... لكن هذا هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. دائما كان أهل السنة هو الآخر، هو المختلف، هو الخصم الكبير.. وأحيانا هو العدوّ وهذا يشرح لك: 1 - بعض التحالفات الغريبة التي نسجها بعض الشيعة في التاريخ، مثلا مع التتار أو المغول حين هاجموا بغداد، أو مع بعض القوى الأوربية ضد الدولة العثمانية. 2- حجم الغضب أو الكراهية التي وجهها جزء مهم من الطبقة العلمية والسياسية الشيعية ضد عموم أهل السنة، لذلك ظهر في المذهب ما يسمى "مخالفة العامة"، هو أصل فقهي عندهم معناه الأمر بمخالفة أهل السنة في معتقداتهم وأفكارهم. 3- ضعف الدعوة إلى الإسلام في تاريخ التشيع حيث لم يسهم في دخول شعوب كبيرة في الإسلام. الخلاصة أن أهل السنة هم الأمة، هكذا نظروا إلى أنفسهم في أكثر فترات التاريخ، والشيعة - خاصة الإمامية- نظروا إلى أنفسهم باعتبار أنهم الطائفة الصغيرة المُحقة والمقابلة للأمة الكبيرة الضالّة، فهي الآخر في مخيالهم العميق... ومن الأشياء التي جعلتني أحترم د.عزمي بشارة، أعني أحترم ذكاءه وخبرته وعمقه، أنه -وهو المسيحي الفلسطيني- فهم هذا جيدا، وقال مؤخرا ضمن حديث له: السنّة هم الأمة. لست هنا في معرض التفضيل بين السنة والشيعة، لكن هذه تأملات تاريخية قد لا يجدها القارئ بسهولة في الكتب. النظرة الرابعة: سياسة الغرام الشيعي التاريخي بالسيطرة على العواصم: يوجد عند الشيعة -خاصة الإمامية بشقيها الجعفري والإسماعيلي- ميل تاريخي إلى السيطرة على عواصم البلدان الإسلامية.. أيام كانت الخلافة قائمة، في العهد العباسي، سيطر البويهيون على بغداد ومارسوا الوصاية على الخليفة. وأول عمل قام به الإسماعيليون الفاطميون حين أسقطوا الدولة الأغلبية بتونس أنهم أسسوا عاصمة جديدة لهم اسمها المهدية. ثم تقدموا نحو مصر، وحين فتحوها أسس قائدهم جوهر مدينة قاهرة المعز.. ثم حاولوا أن يسيطروا على بغداد أيضا، وكانت هذه المدينة هي غايتهم العظمى، لكنهم لم ينجحوا. في عصرنا هذا عمل شيعة لبنان المستحيل حتى أخذوا موطئ قدم لهم في العاصمة بيروت، وهو ما يسمى بالضاحية الجنوبية.. اشتروا عقارات وتحايلوا وراوغوا.. المهم في النهاية أصبحوا ببيروت. وكان معظم سكان مدينة بغداد من أهل السنة، وإلى حد سنة 1980 بنسبة 70%.. ثم نزلت نسبتهم اليوم إلى النصف 35%. وهذا ما يفسر رفض حكومة العبادي دخول لاجئي الأنبار إلى بغداد مؤخرا.. إذ الهدف أن تكون عاصمة شيعية بأغلبية كبيرة جدا. وهذا ما يفسر حرص الشيعة على التوسع بدمشق.. وقد كان الأمل قبل نجاحات الثوار الأخيرة أن تكون لهم السيطرة على العاصمة، أو على بعض أحيائها.. وفعلا هجّروا كثيرا من سكانها السنّة وسيطروا على منازلهم واشتروا كثيرا جدا من العقارات. وهذا ما يفسر لك أيضا حرص إيران ألاّ يكون مسجد واحد لأهل السنة بطهران ذات الملايين من السكان. يريدون ألاّ يكون للسنّة وجود ظاهر بالعاصمة.. رغم أن الشيعة يفتتحون الحسينيات في كل مكان ويطالبون بها. نأتي الآن إلى آخر فصول الرواية، فقد نزل الحوثيون من جبال صعدة إلى صنعاء، واحتلوها.. ولن يخرجوا منها بسهولة فهم نزلوا ليسيطروا على العاصمة ولن يتخلوا عنها بسرعة. إنما إذا نجحت مقاومة اليمنيين فسيكتفون بالسيطرة على بعض أحياء العاصمة.. تمهيدا لاستيطان قياداتهم بها.. ولن يعود الحوثيون كلهم إلى جبالهم، ستكون لهم ضاحيتهم الجنوبية بصنعاء، أعني سيحاولون ما أمكن لهم ذلك. لماذا هذا الغرام بالعواصم؟ لسبيين: 1. لأن العاصمة هي مركز الدولة والمكان الذي يقود البلاد ويصنع القرارات. 2. لأن الشيعة أقلية، ووجودهم بالعاصمة وتأثيرهم في شؤونها يعطيهم نفوذا أقوى بكثير من قوتهم العددية.. فكأن نفوذهم يتضاعف. لذلك فسياسة السيطرة على العواصم سياسة قديمة للشيعة.. وستستمر في المستقبل.. إلاّ إذا وعى الآخرون الموضوع وكان لهم رأي مختلف. ولعلي أنشر في المستقبل نظرات أخرى، بحول الله سبحانه. *باحث وأستاذ بجامعة فاس