رأينا البارحة كيف ساهم النزاع السني-الشيعي في سقوط حاضرة الخلافة العباسية بسهولة فائقة بين أيدي الغزاة الوثنيين. ورأينا عمل ابن العلقمي وقصته التي تشكل إحدى الثمار المُرة لهذا الخلاف الحزين. دوافع ابن العلقمي ومشروعه والآن كيف نفسر عمل الوزير، وكيف نعلل إقدامه على تسليم بغداد إلى شعب متوحش، كانت أخبار قتله للعباد وتدميره للبلاد معروفة مشهورة؟ يبدو أنه قد تضافرت مجموعة من الأسباب هوّنت على الوزير إسلام قومه للموت والدمار، بعضها شخصي نفسي، وبعضها عقائدي مذهبي. أما ما هو شخصي، فتعرّض محلاته ومنازل أقربائه للهجوم والنهب من طرف بعض عوام السنة في إحدى تلك الفتن المعتادة بين الفريقين. قال ابن كثير في حوادث 655، أي سنة فقط قبل هجوم المغول على بغداد: «فيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهبت الكرخ (وهي أحياء الشيعة ببغداد) ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي، وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتتار (..إذ) اشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، وإلى هذه الأوقات. ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان».. لم تكن دوافع الانتقام فقط هي التي تحرك ابن العلقمي، بل الأهم من ذلك أنه كان له مشروع سياسي ومذهبي واضح، ألا وهو إقامة خلافة علوية على مذهب الإمامية. وقد رأى أنه إذا تعاون مع التتار، وهم قوم بدو جهال، فإنه بمقدوره إسقاط الخلافة العباسية وإنشاء أخرى. ولعله طمع في أن يتحول المغول، وهم وثنيون، إلى الإسلام والمذهب الشيعي. لكنه لم يحسب حساب قوة الغزاة وبربريتهم، وضعفه هو، حتى لو كانت معه جميع شيعة الشرق. لذلك طلب من التتار، في أيام المفاوضة التي كان يجريها معهم سرا، أن يكون نائبهم على البلاد. يقول السيوطي: إن «الوزير العلقمي حريص على إزالة الدولة العباسية ونقلها إلى العلوية». فحسّن للمغول أن يقيموا خليفة علويا، لكنهم أبوا ذلك. فقد عيّنه هولاكو -حين انصرف من بغداد- وزيرا له ومن نوابه على العراق، وذلك للاستفادة منه ومن خدماته، لكن المغول لم يكونوا يهتمون بالمشاريع المذهبية الخاصة بالوزير. لم يكن طموح ابن العلقمي مجرد تنصيب خلافة علوية، بل رام أن يستعين بقوة المغول وأن يستخدمها في محو المذهب السني من الشرق، لذلك كانت له مشاريع تربوية ومدرسية خاصة، يقول ابن كثير عن غاية الوزير: «ذلك كله طمعا منه في أن يزيل السنّة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين (.. فكان مما) أراد الوزير ابن العلقمي.. أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد، ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون عِلمهم وعَلَمهم بها وعليها». نصير الدين الطوسي في صحبة المغول هو المعروف بالمولى نصير الدين، ولد بطوس بخراسان. وقد استقطبه الإسماعيليون، فعاش في قلاع الحشاشين ثمانا وعشرين سنة، ألف فيها معظم تصانيفه، وعمل وزيرا لحاكمهم خورشاه شمس الشموس، وكان مكرما عندهم. ويبدو أنه بدأ التحول تدريجيا إلى المذهب الإثني عشري، وهو التحول الذي يختلف الباحثون في تفسيره. ولما وصل المغول إلى قلاع الإسماعيلية، أقنع الطوسي خورشاه بتسليمها إليهم. وكان ذلك سبب اتخاذ هولاكو للطوسي مستشارا له، وكان ذا تأثير كبير عليه. وقد خشي هولاكو من عواقب غزو العراق، لأنه كان يؤمن بالتنجيم، واستطلع آراء الفلكيين. وكانت عادة المغول إذا أقدموا على غزو بلد ما سألوا عن النجوم وأحوالها. وحاول حسام الدين الفلكي، وكان سنيا يعطف على الخليفة، أن يثني هولاكو عن عزمه، وقال له: «إن كل ملك يتجاسر على معاداة بني العباس والتعرض لبغداد، زال عرشه ومات..». أما الطوسي، فقد انضم إلى جانب أمراء المغول الذين تمسكوا بضرورة غزو العاصمة، وأوضح لهولاكو أن كثيرين ثاروا على العباسيين، ولم يحدث لهم شيء. قال ابن كثير: «انتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير. فلما قدم هولاكو، وتهيّب من قتل الخليفة، هوّن عليه الوزير ذلك، فقتلوه رفسا»..ولما أراد هولاكو التوجه إلى حلب، كان نصير الدين هو الذي كتب له رسالة الإنذار والتهديد لأهل المدينة.. وبعد ذلك غادر الطوسي بغداد مع قادة المغول إلى فارس، وعمل أيضا وزيرا -بعد هلاك هولاكو- لابنه أباقاخان، زهاء تسع سنين. ثم عاد إلى مراغة بالعراق، ومات بها سنة 672. وأعقب نصير الدين عدة أولاد، عملوا في بلاط التتار، منهم الأصيل الذي كان يرافق غازان. لا نعرف بيقين اليوم هل كان للطوسي دور في سقوط بغداد، بخلاف ابن العلقمي، فأمره بيّن. لذلك يختلف المؤرخون في هذه المسألة، يقول عبد الأمير: «.. لكن التاريخ، على أية حال، يشهد على أن النصير قد سكت عن الحادث، ولم يدافع عن انهيار عرش المسلمين، بل على العكس، وجدناه يؤرخ لفتح بغداد من وجهة نظر مراقب في الجانب المغولي، في رسالته المشهورة: رسالة فتح بغداد..». وقد كتب الإمامي المعاصر الميلاني رسالة صغيرة، حاول أن يتتبع فيها بعض ما ورد عن الطوسي في كتب التواريخ، واستنتج منها أنه ليس فيها تنصيص صريح على عمل للمولى في سقوط بغداد. الغاية المذهبية للطوسي ويبدو أن غاية الطوسي لم تكن تختلف في شيء عن هدف ابن العلقمي، فهي العمل على إرساء السيطرة المطلقة في العالم الإسلامي للعقيدة الإثني عشرية ورجالها، وقد ظهر لهما أن قوة التتار وجبروتهم فرصة لا تعوض لاستغلالها في ذلك. يقول عبد الأمير عن علاقة الطوسي بهولاكو: «كان يريد أن ينفذ من خلال هذا الطاغية إلى إشاعة عقيدته الجديدة التي أعلنها بمجرد تركه لقلاع الإسماعيليين، ألا وهي الإثنا عشرية. وقد كان له ما أراد». وهذا التفكير الإثنا عشري معتاد، يقول السيد الخميني، رحمه الله، في مسألة التقية مع الحاكم: «لو كان دخول فقيه في أجهزة الظلمة مؤديا إلى رواج الظلم وضعف الإسلام، فلا يحق له الدخول، حتى لو أدى ذلك إلى قتله. ولا يقبل منه أي عذر، إلا أن يكون لدخوله أساس ومنشأ عقلاني، كحالة علي بن يقطين الذي كان سبب دخوله معلوما، أو العلامة نصير الدين الطوسي رضوان الله عليه الذي كان لدخوله تلك الفوائد المعلومة. نعم في بعض الأحيان يدخلون ضمن النظام لأجل السيطرة عليه أو قلبه، والآن أيضا لو أمكن القيام بذلك بالنسبة إلينا: لوجب علينا الدخول». ويقول الميلاني في تعليل تعاون الطوسي مع هولاكو: «إن ما ينسب سابقا ولاحقا إلى الخواجة نصير الدين الطوسي ليس له سبب سوى أن هذا الرجل العظيم استفاد من تلك الظروف لصالح هذا المذهب المظلوم.. وطرحت أفكار الإمامية في الأوساط العلمية، بعد أن لم تكن لأفكار هذه الطائفة أية فرصة. ولم يكن لآراء هذه الطائفة أي مجال لأن يذكر شيء منها في المدارس العلمية والأوساط العلمية». والظاهر أن الإمامية استفادت من تعاونها مع التتار في نشر مذاهبها وعقائدها ومدارسها.. لكنها لم تنجح سياسيا في تأسيس دولة أو خلافة تابعة لهم. أي أن ما تحقق هو الإنجاز المذهبي لا السياسي، لكنه -كما سنرى في حلقات قادمة- إنجاز مهم، لأنه هو الذي مهّد لظهور الصفويين. كان الطوسي شخصية قلقة ومتقلبة، وعانى من الكآبة. وأورد ابن تيمية أنه «قيل: إنه كان في آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس، ويشتغل بتفسير البغوي وبالفقه ونحو ذلك». بينما قال مؤرخون آخرون، كابن الفوطي الذي تتلمذ له: إنه انتحر. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. لا ننكر عقل المولى الطوسي ولا علمه، لكننا نقول مع المستشرق براون كلمة يبدو لي أنها معقولة جدا في حقه: «يجب ألا يغيب عن أذهاننا.. رغم كتابته في الموضوعات الأخلاقية والدينية، أنه قد أنكر جميل مضيفيه من الإسماعيلية، كما ساعد على الإيقاع بالخليفة في سبيل أن يرضي فاتحا وثنيا سفاكا للدماء مثل هولاكو».. يتبع...