يصعب على المتتبع لتطورات الحياة السياسية في المغرب بعد طموحات وانتكاسات سياق التغيير، خاصة المتتبع لخطاب الساسة وممارساتهم، أن يتنبأ بالمسار والمآل، وبما ستفضي إليه تطورات هذا الوضع المفتوح على كل إمكانات التفاقم والفعل ورد الفعل، بعد فقدان المعالم والتخبط مما ينذر بأحداث وتطورات غير مسبوقة ستفضي لا محالة إن استمرت على ما هي عليه إلى تأكيد انحطاط كلي للسياسة في هذه البلاد، وإلى كسادها أشخاصا وخطابا وممارسة. ففي بداية مسار هذا التخبط الذي جاء للأسف الشديد في سياق مطلب التغيير وإسقاط الفساد والاستبداد وتحقيق انتقال ديمقراطي فعلي نحو حياة سياسية مسؤولة ودولة تضمن الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية والكرامة للمواطنين، وتقوم على سلطة الشعب في اختيار ممثليه ومحاسبتهم، كان المتوقع أن يستوعب الفاعلون السياسيون ومؤسسات الدولة خاصة الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية... حجم الرهانات والمسؤوليات التي ترتبط بطبيعة السياق وانتظارات المواطنين في التغيير الملموس على مستوى الخطاب والممارسة السياسية وتدبير الشأن العام، إذ بالآية تنعكس تماما لتتحول الحياة السياسية إلى سرك للتبارز العشوائي واحتقار ذكاء وتمثيلية المواطنين وأفق انتظارهم السياسي والديمقراطي، بعد أن استبدت الحكومة بكل شيء وحاولت المعارضة حفظ ماء الوجه بأي شيء، ففقدوا جميعا البوصلة في زحام يومي كل ما يحركه هو الصراع والمصالح من أجل البقاء أو الصعود، وكل ما يسمح به ذلك من عراك فارغ وساقط، ومن انشغالات تافهة تحتقر فعل السياسة وانتظارات المواطنين . كتبت مند عدة شهور عقب إحدى تصريحات وزير التعليم العالي لحسن الداودي متسائلا إن كان بعض أعضاء نخبة الحزب الذي يترأس الحكومة يدركون فعلا ما يقولون، وإن كانوا على وعي بجسامة ما يصرحون به وبالكيفية التي يصيغونه بها، كما يحصل خلال تلك التصريحات التي كثيرا ما تنم عن حس اندفاعي كبير وخشونة في التعبير واستخفاف بعقول المواطنين والمواطنات يصل حد الاستفزاز؟ أم أن الأمر يتعلق بخرجات مدروسة وخيارات واعية؟ واليوم يتأكد أن حكومة عبد الإله بنكيران، هي فعلا حكومة الشفاهة وردود الفعل والحسابات السياسية الضيقة التي تعوزها رزانة التدبير وحس المسؤولية والعمل في صمت والجلوس الفعلي للتفكير الصعب وإيجاد الحلول لمختلف الملفات والمعضلات العالقة. فرفع شعار "المعقول" خلال الحملة الانتخابية لا يكفي أمام عجز الحزب عن تدبير شؤون المغاربة وإيجاد حلول مبتكرة لمشاكلهم وانتظاراتهم الديمقراطية والثقافية والاقتصادية، حيث تأكد أن الشحنة الأخلاقية التي يكتسيها مصطلح ا"لمعقول" نتيجة تداوله الاجتماعي العفوي في المجتمع المغربي والتي حاول حزب العدالة والتنمية توظيفها في خطابه وحملته الانتخابية، سرعان ما تبدد وقعها أمام عجز الحزب عن عقلنة الممارسة السياسية والحكومية وتدبير وإيجاد الحلول للقضايا وملفات الشأن العام الكبرى. بل أن المعقول صار لا معقولا، كما تأكد مع عدة أحداث حكومية، وأمام عجزها عن محاربة الفساد والاستبداد، وتفعيل الحياة الديمقراطية وتطويرها، وإيجاد الحلول لمعضلات التشغيل والفقر والتعليم والصحة، وتمكين الأمازيغية من وظائفها المؤسساتية في مختلف مجالات الحياة العامة، وصيانة كرامة المواطنين وحقوقهم بما في ذلك الحق في ثروات مجالهم الطبيعي من مناجم وأراضي ومياه وملك غابوي، وضمان الحق في الاحتجاج السلمي والنضال الديمقراطي وفي ولوج الخدمات العمومية والعيش الكريم...، وبعد تفضيل اللجوء إلى جيوب الفئات المتوسطة والفقيرة بدل استخلاص الضرائب من حسابات الشركات الكبرى والأثرياء والمهيمنين على الثروة والسلطة، وأمام عجزها عن التدبير الجماعي والمنصف لعدة إجراءات تشريعية وقانونية منها ما يرتبط بالعدالة والقضاء والقانون الجنائي ومنها ما يتصل بأدوار المجتمع المدني والديمقراطية التشاركية...، فقد فضلت الحكومة ممارسة هواية الخطابة وتبرير الوجود والفعل بالشفوي، أي ممارسة التدبير السياسي والمسؤولية الحكومية عبر اللامعقول! هذه صور من انتكاس السياسة وتخبط الساسة وضعف نخب الأحزاب والحكومة، هذا كل ما يجري ورئيس الحكومة يفضل لغة اللمز والغمز والمزايدة المكشوفة، وهو يتحدث عن استعداده للموت في سبيل الله؟!