التغيير يتطلب وجود فاعلين فعليين، يعملون من أجله بما يكفي من الالتزام والكفاءة. فالفاعل الحقيقي، سواء السياسي والحزبي أو المدني والإعلامي والثقافي، مطالب بأن يكون ذا حضور حيوي ونقدي وخلاق في فضاء المجتمع والحياة العامة، وفي مقدمة المنشغلين بقضايا كرامته وتطويره ومواجهة المعضلات والبنيات التي تكرس تخلفه وعلى رأسها بنية الفساد والريع والاستبداد والاستغلال...، وتحقيق ذلك يتطلب وجود إطارات ونخب وكفاءات تضطلع بأدوارها التاريخية في تحقيق التغيير والتطور المنشود؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في المغرب هو عن مدى وجود هذه الإطارات والفاعلين، وهل تسمح البنية الحزبية والحياة السياسية والثقافية الراهنة بإفرازهم، وهل الفئات والمجموعات التي تتزعم وتتولى تدبير هذه المؤسسات والهيئات تحمل المواصفات الضرورية وصفة الفاعل فعلا، بالنظر إلى مؤهلاتها وإنتاجاتها وانشغالاتها ومبادئها؟ فإذا حاولنا القيام بمقارنة بين الأمس واليوم، فقد كان من أسباب وتجليات الوضع الحزبي والثقافي المتأزم خلال السنوات الأخيرة، انتكاس خطاب المعارضة الحزبية بعد دخولها في توافق سياسي أوصلها إلى الحكم لفترة كانت كافية لاختبار خطابها وكفاءتها في التدبير والوفاء لمبادئها، خاصة أمام تجليات عجزها عن مواجهة معضلات الشأن العام وإيجاد حلول ملموسة للتحديات الاجتماعية والاقتصادية، وذلك في ظل الوضع المؤسساتي والبنية السياسية القائمة وحجم التحديات المطروحة. فعندما كانت هذه الأحزاب متموقعة في صف اليسار المعارض ، كان الفعل السياسي والثقافي والعمل النقدي والفكري والإبداعي محسوب على مظلتها؛ كما كانت حاضرة بقوة في مقدمة جل القضايا والنقاشات والأحداث السياسية والحقوقية، لكن بعد دخولها إلى دوائر الحكم ضعف أدائها واهترأت نخبها ومناضلوها، وانسحب المثقف وتدنى النقاش الفكري وتراجع السجال والنقد، وفقدت الحياة السياسية فعاليتها وصارت بدون نخب جادة بعد أن حلت محلها مجموعات وصولية تفرزها التنظيمات الحزبية والإطارات الفارغة ومؤسسات الدولة بشكل يفقدها الكفاءة والجرأة والنزاهة اللازمة. أما أحزاب اليسار الأخرى، خاصة الجذرية منها، فتحاول أن تلعب دورها السياسي إلى جانب الحركات والتنسيقيات الاحتجاجية، لكن اعتمادا على نفس بنياتها وأطروحاتها التقليدية التي صارت تعوق إمكانيات تحقيقها لامتداد اجتماعي وازن أو لقوة إقتراحية وتغييرية فعلية. وخلال قرابة السنتين المنصرمتين من عمر الحكومة الحالية التي يترأسها حزب العدالة والتنمية الإسلامي، والتي جاءت بعد دستور2011 وكنتيجة لانتفاضات حركة 20 فبراير، يتضح أن عملية الانتقال من المعارضة إلى الحكومة تعيد نفسها. فخلال الأشهر المنصرمة عرف النقاش السياسي حيوية من نوع خاص تباينت مستوياتها وعواملها بين السجال الحاصل داخل الحكومة والذي بقي حبيس شعارات التغيير والتراشق الذي يصل أحيانا لمستوياته الساقطة، وإنتاج خطابات شعبوية تفتقد إلى الرزانة والعمق السياسي والمصداقية الديمقراطية. واتضح أن وعود الحزب الحاكم لناخبيه وخطاباته خلال المعارضة صارت تتبدد شيئا فشيئا، وتراجعت مواقف وردود أعضاء مكتبه السياسي وفريقه البرلماني وملحقاته الدعوية والحقوقية والجمعوية التي لم تعد تتحرك إلا في المواجهات الصغرى واختفت في لحظات وأحداث هامة ومنها حادثة "البيدوفيل دانييل" التي هزت مشاعر المواطنين، وأمام مشاهد القمع التي تعرضت لها عدة وقفات احتجاجية سلمية. ويبقى مسعى الحزب وهاجسه الذي يزداد يوما بعد يوم كما يأتي على لسان أمينه العام هو اكتساب ثقة المحيط الملكي والحفاظ على مكانته في الحكم، إلى أن تنتهي الدورة ويستنفد مصداقيته ودوره، كما حصل لسابقيه تماما. فتطورات الحياة السياسية خلال السنتين الأخيرتين، وتنامي وعي المواطنين وحسهم السياسي والحقوقي، أظهر ضعف وعجز الأحزاب السياسية عن مسايرة خطاب ودينامية التغيير التي صارت تضطلع بها بعض الإطارات المدنية والجمعوية والحقوقية والشبابية وشبكات التواصل الاجتماعي، كما انفضحت حقيقة الفئات المتزعمة لجل هذه الإطارات الحزبية العاجزة والمستفيدة من انتهازيتها وخنوعها، فجلها لا يمتلك جرأة الفعل السياسي وكفاءة صناعة التغيير، وليس لها حضور منتج في النقاش الفكري والسياسي، وإن كان لها حضور سجالي ذو نزوع شعبوي أو دعوي في النقاش العمومي المفتقد إلى الإبداع السياسي والعمق النقدي. ويكفي تحليل سلوك وبعض الردود الانفعالية لممثلي هذه الإطارات سواء في فضاء النقاش ومجرى الحياة العامة، أو في مجلس النواب وبعض البرامج الحوارية مثلا، ليتضح افتقارها إلى الهدوء النقدي والمعالجة العقلانية والعمل الفكري القادر على المساهمة الفعلية في التدبير السياسي والثقافي، وفي الارتقاء بالحياة الديمقراطية وبالوعي العام في فضاء المجتمع وإيجاد الحلول المناسبة للأسئلة والمشاكل المطروحة. ولعل القدرة على تجاوز العمل الدعوي والخطاب السجالي والشعبوي، وتجاوز الفهم الانتهازي للديمقراطية، إلى صعيد التدبير السياسي الحديث للاختلاف والتعدد وضمان الحريات والعدالة، والتحلي بالكفاءة والجرأة الكافية في مواجهة بنيات الفساد والريع ، تلك أهم التحديات التي تواجه الأحزاب السياسية اليوم، خاصة حزب العدالة والتنمية فيما تبقى من عمر حكومته التي سيطالها الترميم بعد أيام. فبالنظر إلى مسار الأحداث وتحولات الحياة السياسية يطرح السؤال: هل حصل تغيير وفرق فعلي بين الأمس واليوم؟ فقد تغيرت السياقات والخطابات، وارتفع صبيب الاحتجاج والمطالب، وتعددت الوعود والإنتظارات، وانتعش النقاش ومدرج البرلمان بالعديد من العبارات والأوصاف والمشاهد الفرجوية، ووصلت بعض الوجوه الجديدة إلى مكاتب الوزارات ودواوينها ومديرياتها...لكن الواقع السياسي لا يزال يراوح مكانه، ودرجة عجز الأحزاب صارت تتراوح بين النصفي والكلي، وبذلك صار بعضها يشكل عائقا فعليا أمام تطور الحياة السياسية والديمقراطية وتحقيق التغيير، ليبقى السؤال الكبير مطروحا: ما الحل وما العمل، يا ترى؟