الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إنصافا للتجربة المغربية في الإصلاح السياسي
نشر في هسبريس يوم 17 - 01 - 2013

نطمئن أصدقاءنا وخصومنا أننا اليوم بكامل لياقتنا ورشاقتنا (أردوغان بصدد مرور سنوات على تجربته في الحكم)
تقديم عام
أوشكت مرحلة على أن تنتهي على الصعيدين الحكومي والنيابي، بعد انقضاء ما يناهز عام من الأداء والانجاز والتكيف ومباشرة الملفات، وانقداح روح جديدة لإطلاق أوراش الإصلاح العميق داخل الدولة والمجتمع .
ومن هذه الوجهة، علينا أن نطرح السؤال: ما المكانة التي احتلها حزب العدالة والتنمية خلال هذه المرحلة؟ وما هي حالته السياسية والتنظيمية وآفاقه في إنفاذ ما وعد به من برنامج سياسي تقدم به أمام المواطنين رفقه شركائه السياسيين؟
معايير تقييم التجربة الحكومية بين البعدين السياسي المجتمعي والتدبيري التقني
موضوعنا هذا، الذي سنقاربه بالتحليل والنقد والفحص، لا يتعلق بتقييم تفصيلي للمنجزات الحكومية التي يشارك فيها الحزب بتحالف مع زمرة من القوى الحزبية والمكونات السياسية، ولا للدور الكبير الذي قام به فريقه النيابي في المؤسسة التشريعية من إسناد ورقابة وطموح موحي برغبة في تجويد الأداء، وإنما غايتنا أن نتعرف على ذات الحزب ونختبر عافيته من زاوية النظر التنظيمية بقدر ما هي مرتبطة بالدورين السالفين، على مستوى المؤسستين الدستوريتين، وبآفاقه المستقبلية.
لقد مر الحزب، عبر تطوره التاريخي، بمراحل سياسية/تنظيمية مختلفة، كان في كل منها يكثف في ذاته الإشكالية المركزية التي يواجهها المجتمع المغربي ككل وفي الصميم منه، وكان يعبر في آن عن جوابها المعين والمخصوص الناجع والمطابق للدينامية السياسية والمجتمعية ولمسار قضية الإصلاح الشامل داخله .
ليس مبالغة القول، أن لا حزب أكثر من العدالة والتنمية، في أصوله وراهنه، كان يحمل في جوفه سؤال المرحلة الحاسم والمصيري، كما حمله هو، وأبدع من أجل ذلك خطا سياسيا واضحا وفريدا، وانتهج أسلوبا في النضال الديمقراطي صلبا وصعبا في ذات الآن .
ولذلك كان هذا الاقتران أو التلازم الذي لا فكاك فيه بين المسارين والتاريخين الحزبي والمجتمعي. فهذه الحقيقة تبين لوحدها، كم هي تافهة وضحلة تلك الأحكام الزائفة والمقارنات السطحية والرخيصة، التي تصطنع اللبس والخلط وتفتعل سياسة الضباب والغيوم وتنفي الحدود والفواصل بين البرامج السياسية الحزبية المطروحة في الساحة الوطنية، زاعمة، بلا عناء فكري، تشابهها إلى حد التماهي، وتكرارها الرتيب لنفس الشعارات والمطالب والعناوين إلى حد الركاكة والرداءة، وكأن الخطاب السياسي والفكري لوحده وفي انعزال عن السياقات وتعال عنها (ناهيك عن مضامينه)، كل ذلك يقرر لوحده في منحى السيرورة المجتمعية ويرسم خط السير سياسيا، ويحسم في قضية الإصلاح السياسي العميق للدولة .وكأنه لوحده كاف لمعرفة هوية هذا الحزب أو ذاك، بدون الغوص أبعد في ما يمثله عضويا وفعليا في الحركية التاريخية الموضوعية للمجتمع المغربي.
وبدون مغالاة ولا نية في الإقصاء والمغالاة في تنزيه الذات، فإني أزعم أنه بإمكان المرء أن يلغي من تصوره وجود أغلب الأحزاب المجهرية القائمة دون أن يحدث ذلك أي انزياح أو تململ في الخط البياني الذي صار عليه التاريخ السياسي للتجربة الديمقراطية ببلادنا. غير أن ذاك المسار لن يظل على حاله، قطعا، لو تصورت تطورا بيانيا للماضي والمستقبل يلغي العدالة والتنمية من مؤشرات إحداثياته السياسية وتطوره المجتمعي العام.
هذه الخلاصة التاريخية هي ما عنيته بالضبط بالعنوان أعلاه أبلغ مما يروج داخل أوساط الرأي العام، ذلك لأنك إن أردت استكشاف الميولات الموضوعية الحقة لتطور المجتمع المغربي، فلا مناص من أن تأخذ الصورة في كليتها التاريخية، وبذلك الاقتران أو التلازم الذي أشرنا إليه، حيث قوة البناء الحزبي من قوة البناء المجتمعي، وتراجعه من تراجع المجتمع ورخاوته من رخاوة المجتمع.
وحيث لا تقدم للمجتمع المغربي في الحصيلة السياسية النهائية بدونه، على الأقل في نطاق المعطيات القائمة. بل إن حملات الهجوم التي يتعرض لها حزب العدالة والتنمية في كل صغيرة وكبيرة، لحسابات مختلفة، هي دليل اللاشعوري من قبل منافسيه وخصومه على دوره ومركزيته في الساحة الوطنية، إذ هي، كما يقول المناطقة الرياضيون، إثبات أو برهان بالنفي أو بالاستحالة أو بالخل.
سنترك جانبا، تعداد منجزات الحكومة الحالية، مع علمنا المسبق، أننا لو عرضنا كل أوجه التقدم النسبي، بلا مكابرة ولا تزيد، حتى اللحظة الماثلة أمامنا، ولكنه بالتأكيد، المنجز النوعي غير المسبوق الذي تم التوصل إليه في كل الأوراش المفتوحة، والتي لا مثيل لها في مقارنة مع الماضي المؤطر للتدبير الحكومي من داخل النظام السياسي المغربي، فإننا سنواجه حتما باعتراضات عدمية مراهقة نافية تبرز وتضخم النصف الآخر الفارغ من الكأس، مادام مفهوم التقدم المبني على التراكم والتدرج والتمرحل غير وارد منهجيا في رؤوس تستهويها القفزات النوعية المطلقة والسابحة في الهواء والبعيدة عن منطق الممكن في الفعل التاريخي، والآتية من فراغ والذاهبة إلى عدم، والماسحة للطاولة .
المنجز السياسي في المرحلة بين النقد الموضوعي والمحاكمة المجانية
لنترك إذن هذه المحاكمة المجانية المجانبة لمعيار النقد الموضوعي المبني على الفرز بناء على منطق التاريخ، ولننأى بأنفسنا عن كل المماحكات المتفرعة عنها، والموصولة بداء الطفولة السياسي الملازم لحركات التغيير السياسي عبر التاريخ، لكي نبرز من جانبنا قضيتين أساسيتين قلما يشدان الأنظار إليهما كما يجب:
أولا: منطق الشراكة والوفاق الوطني منهجا للبناء الديمقراطي
من أبرز المنجزات التي حققها حزب العدالة والتنمية في مسيرته النضالية الديمقراطية الجارية أنه يعود له الفضل الأكبر في تدشين، واحتضان، وإنماء، وصون ثقافة مجتمعية ديمقراطية توافقية ائتلافية تعمق الشراكة في المشترك البرنامجي، طالت مفاعيلها وتأثيراتها كل القوى الحية في هذا المجتمع المنعطف صوب البناء الديمقراطي، هذا بالطبع بجانب جملة من القوى السياسية والمكونات الحزبية الحقيقية النابعة من رحم الشعب المغربي.
نعم، لقد كانت الأطروحات الديمقراطية السياسية موجودة (وهي ليبرالية كسيحة على كل حال، ويسارية مغامرة بالإجمال) حتى في أوج زمن الصراع الحاد على السلطة، والتنازع المحموم حول المشروعيات بين مكونات المجال السياسي، بكل التجاوزات ومظاهر الغموض التي اتسم بها الخطاب السياسي والفكري لتلك القوى في إبانه، وحيث كان الحزب المصارع الذي يتحمل لوحده أكبر تكاليف تلك المرحلة الموسومة بالنكوص الديمقراطي والتراجع في الحياة العامة ونضوب قارة التسيس .
ولكن، ألم تكن تلك الخطابات السياسية بمختلف مرجعياتها، الليبرالية الكسيحة، واليسارية الموغلة في المغامرة والرخاوة فيما بعد، في ذلك الزمن السياسي الصعب والمكلف، زمن الرصاص كما درجت بعض الأدبيات على تسميته وتوصيفه، مجرد تعبير عن مصالح فئوية ضيقة أو نزوعات نخبوية هامشية، بينما كان حزب العدالة والتنمية، وبما كان عليه خطه السياسي المشارك وما يمثله داخل الطيف الحزبي والحركي من عكس تطلعات التيار الوسطي المعتدل المندمج بسلاسة وهدوء داخل النسق السياسي المركزي في النظام السياسي المغربي، بدون أي إضافة لتقييماتنا الحالية البعدية على تاريخ اندراجه داخل السيرورة الحاضرة لتاريخنا السياسي.
ولقد جسد هذا الخيار المعبر التاريخي والجسر العضوي لتجلي روافد وطموحات الكتلة الشعبية العريضة في تطلعاتها ووجدانها، وفي استطاعاتها من أجل النهضة الشاملة. ثم كان الحزب من جديد، وفي شروط تاريخية أخرى، سباقا لاستلهام أفقها، فانتقل ونقل معه الكتلة الشعبية العريضة، إلى خط النضال الديمقراطي من داخل المؤسسات التمثيلية، وكرس بعد ذلك انحيازه الديمقراطي والاصلاحي على أساس الشراكة في القرار العمومي .
وفي جميع تلك الأطوار، كان الحزب بحق جسر العبور المجتمعي نحو تحصين الاستقرار المجتمعي، وتعميق البناء الديمقراطي. وبهذا المعنى، اكتسبت الديمقراطية السياسية والتمثيلية ولأول مرة، على يد العدالة والتنمية، وعبر الكتلة الشعبية العريضة التي اختارته وانحازت لأطروحاته ومشروعه المجتمعي والسياسي العام، وبأفق تضامني متكامل، المضمون الديمقراطي الحق.
قصدي من كل ذلك، أن العدالة والتنمية اضطلع بدور تاريخي حاسم، ليس بمقدور الأرقام النسبية أن تبينه، أو أن تفصح عن نوعيته ومداه البعيد وأفقه الأكيد، ذلكم هو المنجز الثقافي السياسي الديمقراطي التوافقي الأبرز والأعمق والأهم، والذي بدونه لا قياس لأي منجز آخر ولا طائلة منه، سواء كان حزبيا أو حتى حكوميا.
ثانيا: الاستقرار السياسي بأي معنى
لم يكن الاستقرار السياسي من مفردات الفكر السياسي المغربي، إلا من الزاوية الأمنية القمعية لجهاز الحكم، وللتسلطية المستوطنة داخل النسق السياسي المركزي في المغرب. وهي ليست فكرا، ولا كانت ضمانة للأمن لا في حينها ولا في المستقبل السياسي للنظام الملكي ذاته كرمز لاستمرارية الدولة المغربية في التاريخ .
هنا أيضا، وبحكم طبيعة توازنات المجتمع المغربي، وبفضل سياسة التوافق الوطني التي تم نهجها في مطلع تسعينيات القرن المنقضي، وتم بموجبها الإدماج السياسي لأكبر قوة معارضة وقتذاك وتم تحقيق التوازن السياسي داخل النظام عينه بتشكيل تجربة للتناوب التوافقي استقدمت من أجل إنجاحها مجمل الطبقة السياسية بالبلاد، باعتبار ذلك معبرا لازما لتكريس انتقال سلس وهادئ للملك والحكم،
ولقد بات الاستقرار السياسي المنتج والمبني على الانفتاح السياسي المراقب والمسيج (لا القمعي) حقيقة واقعة في بلدنا اليوم، كنموذج يحتذى .
فلا غرو في مثل هذه الظروف السياسية المناسبة، أن يفشل، أو ألا يجد اللاستقرار والنزعات المغامرة في بلدنا مرتعا لها أو قاعدة انطلاق لها، رغم ما قد تشير إليه الاعتقالات المتكررة من فجوات لنُطف كان بالإمكان استغلالها لولا البيئة السياسية المستقرة والمنتجة والمفتوحة.
تساؤلات مشرعة على المستقبل بصدد شرط الاستقرار في الاصلاح.
وبالمناسبة، فإني، عند كل واقعة إرباك فعلية لمشاريع إصلاحية، بين حين وآخر، أو أمام أي إمكانية انسداد سياسي، أتساءل: أين ذهبت عقول أولئك العدميين والناقمين على تجربة الإصلاح السياسي في المغرب، عندما كنا ندافع عن سياسة الوفاق الوطني في بدئها، وإمكانية اللقاء التاريخي بين قوى الدفع الديمقراطي، ولو في شروط ديمقراطية غير ناضجة ولا معطاة ولا كاملة، ومن أجل استمرارها، درء، من جملة الحسابات، لاحتمالات هذا الخطر النكوصي التراجعي المحدق؟ أين عقولهم، بالأمس واليوم، وهم لا يرون في هذا التوافق السياسي القائم اليوم، بنواقصه وتقدماته، سوى ما يسمونه بالمخزنة الزاحفة، بينما لا يرون الزاحف الحقيقي الذي ما زال يهدد استقرارنا وكياننا الجماعي، الذي هو الاستبداد والنكوص وتطلع قوى الردة لانتزاع المبادرة السياسية من جديد، والإتيان على ما تبقى من فسحة انفتاح سياسي في ديمقراطيتنا الوليدة؟
لم يعد إذن الاستقرار السياسي مجرد هدنة عابرة، ولا بالأحرى مرادفا لسياسة أمنية قمعية، بل صار غاية ووسيلة منتجتين لنماء الديمقراطية والتقدم المجتمعي .وفي هذا السياق، يعتبر حزب العدالة والتنمية أبرز أركان بناة هذا الاستقرار بالمعنى الذي سلف في المرحلة الانتقالية التي يمر منها المغرب، فكرا وعملا وانحيازا استراتيجيا وموقعا تنفيذيا.
اخترت من قضايا الحصيلة هذين المثالين غير المرئيين في لغة الأرقام وفي السجال السياسي القائم والدائر، والذي يلغي قضايا العمق في المنجز السياسي في التجربة الحكومية الحالية في المرحلة التي يعبرها التطور السياسي لبلدنا. وهما في رأيي الأساس الصلب لما تحقق، ولما سيتحقق في المستقبل، بإذن الله.
أعود فأقول، إن ما لفت نظري كثيرا، ليس الجدال الدائر حول الحصيلة، الصحيح منه والكاذب، ولا ما يروج له في الحملات الإعلامية المتأججة والمصطبغ بعضها بالكيد والافتعال، ولا تلك الاستثارات المزعومة والمشكوك في صدقيتها للرأي العام الوطني. وإنما أن يجري كل ذلك، في ظرف زمني كان فيه حزب العدالة والتنمية يملأ الساحة السياسية والجماهيرية وحتى الانتخابية، أكثر من سواه، بنشاطية تنظيمية متلاحقة التظاهرات والفعاليات، والتي كانت إعلاميا أحق بالعناية والدرس لمضامينها التي تزرع الأمل وتحفز العزائم والإرادات، لو تلقفتها آذان صاغية، وأنظار ثاقبة، وعقول مبتكرة ومفكرة، وضمائر حرة وغيورة، لكن، هيهات.
دور العدالة والتنمية في دعم مسار الإصلاح العميق للدولة
وفي هذا الصدد، سأمر بسرعة على بعضها، علّ هذه العقول والضمائر تستدرك ما فاتها من قدرة على الرؤية الحصيفة المنصفة والمتوازنة لمجمل الدينامية السياسية والجماهيرية، والتي أعادت لجزء معتبر من الشعب ثقته بالعمل السياسي النبيل وصالحته مع تدبير الشأن السياسي العام من موقع المشارك والمساهم، بل والحامي لاختياراته الديمقراطية التي صدرت العدالة والتنمية واجهة الفعل العام .
أولا، لأشهر متتالية، شهد الحزب دينامية تنظيمية ملفتة وغير منقطعة وصاعدة ومتألقة جماهيريا، فقد عقد الحزب، وربما دون غيره، سلسلة من المؤتمرات الجهوية في كل جهات المملكة. إضافة لمؤتمره الوطني والدورات العادية لمجلسه الوطني والمؤتمر التأسيسي للقطاع النسائي والملتقى الوطني للشبيبة .
وفي هذا المضمار، فإن كل من حضر هذه التظاهرات إلا ويشهد بنجاحها المرموق من حيث التنظيم والحضور والنتائج الأدبية، وثائق ذات جودة عالية: الأطروحة كنموذج، والتمثيلية الاجتماعية المتنوعة التي تعكس انغراسا شعبيا وحضورا وازنا في المشهد السياسي العام .ولم تكن حشدا لأرقام بشرية مزورة جلبت عرضا لتزيين مشهد تلفزيوني استعراضي وكرنفالي عابر، بل كان المؤتمرون مؤتمرين لفظا ومعنى، باعتبارهم منتخبين من قواعدهم بعد أن أبلوا بتفاوت في تجاربهم النضالية الحزبية، البلاء الحسن والكسب الأوفى على وجه الإجمال .
وكانت آخر هذه التظاهرات التنظيمية المتتالية الناجحة، المؤتمر الجهوي للحزب في الأقاليم الصحراوية خصوصا، والذي لا جدال في أنه شكل اختراقا ملفتا وجسد تظاهرة حزبية فريدة في المنطقة، ديمقراطية وخبيرة بمجريات الأمور على مستوى ذاك الصعيد، بل إنه يعد فاتحة للعمل الحزبي الحق والعميق في هذه الأقاليم وبالذات في هاته المرحلة الموسومة بالانتقال الديمقراطي، على غير ما درجت عليه التقاليد السابقة في هذا الشأن، ولأسباب سياسية معلومة وبفعل ماض سلطوي معروف لدينا جميعا.
ولأن الموضوع الذي لا يزال يشد اهتمام الإعلاميين على غيره من المواضيع الأخرى الحساسة، وهو موضوع الديمقراطية الداخلية والشفافية الحزبية، والذي هبط به جزء من الإعلام الخاص إلى درك واطئ وارتكس به إلى محاولة لفت الأنظار صوب بعض المشاداة هنا أو هناك. فإن وقائع مؤتمرات الحزب، بأجمعها، تؤكد وبأحرف كبيرة، على أن هذا الاشتراط الحيوي، إن كانت ظروف سابقة لم تسمح في سالف العهد بالجريان العادي لآلياته الكاملة، فإنه أضحى في الظروف الصحية الجيدة التي يتمتع بها المشهد الحزبي اليوم، جزءا لا يتجزأ من ميكانيزمات الحياة الحزبية الداخلية بدون عقبات أو إكراهات خارجية أو تدخلات لقوى سلطوية معلومة في الشأن الحزبي، وأكثر من ذلك، فإن أغلب العمليات الانتخابية التي جرت في المؤتمرات الجهوية لم تراعي في معظمها، بشكل تلقائيا، التوافقات بين الفاعلين والحساسيات المختلفة، بل شكلت علامة نضج ثقافي وسياسي ديمقراطي ينبغي التشديد على أهميتها واغناء المشهد الحزبي العام بخبرتها وعبرتها. لأن الديمقراطية الحزبية الحقيقية لا تأخذ في مسلكيتها نهج التوافقات الضمنية أو الصريحة والترتيبات المسبقة، لأن ذلك ينم عن عقلية استبدادية مبطنة، تنفر في المبدأ من حق الاختلاف وتنبذ التنوع والتكامل والتضامن، وبهذا لم تتحول الديمقراطية في خبرتنا الحزبية داخل العدالة والتنمية الى أداة اقصاء متتالية، تأكل من وحدة الحزب وتنخر كيانه الجمعي، وتذهب بهيبة كيانه الاعتباري كما نرى ذلك في مجمل الطيف الحزبي الماثل داخل المشهد السياسي العام .
ثانيا: يعتبر الحزب مؤسسة للتكوين وتعميق الدراسات وإشاعة الأفكار وإنتاجها باعتباره مثقفا جماعيا، يضم العشرات من المثقفين والمتعاطفين مع مشروعه الفكري والسياسي المهتمين بالشأن الثقافي بكل أصنافه. ولقد وضع الحزب لذلك برنامجا غنيا وطموحا سرعان ما سيباشر تنفيذه بتظاهرات فكرية متلاحقة وقياسية بالنسبة للمدة القصيرة التي قضاها عمر التأسيس بالنسبة لهذه التجربة.
وما يهمنا في اللحظة، ليس أكثر من التقاط الدلالة الكبيرة لهذه المؤسسات الفكرية والتكوينية والتأطيرية، تاركين طموحاتها وبرامجها للظهور في المستقبل القريب، إن ذلك يعني اهتماما أكثر من أي وقت مضى بالشأن الفكري والنقدي والإنتاج النظري المواكب للدينامية السياسية في المرحلة، وإكساب الحزب بعدا نظريا استشرافيا وعمقا يلهم الممارسة ويعمقها ويجذرها على مستوى البناء الفكري والخصب النظري .
الدلالة الكبيرة لروحية توجهنا في المرحلة، هي وعي الحزب الحاد بضرورات التكوين الفكري والبناء الإيديولوجي في البناء الحزبي الشامل لنموذج حزبي عصري وحديث، وفي صون وحدته الداخلية وصيانة تماسكه الفكري وتحصينه أثناء الممارسة السياسية من موقع السلطة، وهو إشارة إلى الدور الخاص والحاسم للجبهة الفكرية والثقافية في التقدم المجتمعي العام والتطوير الحزبي المميز، لاسيما في مواجهة واجتياز حالة التأخر التاريخي الذي عليه بلدنا.
إن سيرورة التحول إلى حزب حديث مشارك ومندمج في الدولة، أو بالأصح، إلى حزب ذي مهام مجتمعية تنويرية، وفي شروط وطبيعة المرحلة الجارية، قد تجلب معها جملة محاذير نجد في طليعتها: توغل الانحطاط الإيديولوجي والفكري والأخلاقي داخل البنية الحزبية والنخب القيادية والمسيرة والتدبيرية، حيث تصير فيه، ومعه أو تُرفع، البرغماتية (بحسبانها معادلا للمنفعة الآنية المادية والرمزية) إلى مرتبة الإيدولوجيا العامة للحزب، عوض أن تكون مجرد حيثية أولية في منهجيته الفكرية وتصوره الفكري العام.
ثالثا: في عملية متميزة في حياتنا الحزبية، سيطلق التنظيم الحزبي حملة منظمة وممرحلة تحت عنوان الانفتاح، وسنمد من خلالها جسور الحوار والتواصل المباشرين مع كل الفئات الاجتماعية وقوى الإصلاح من الطاقات الوطنية والأطر النوعية المغربية، مشرعا أبوابه التنظيمية لها لاستقبال آلاف المنخرطين الجدد الراغبين في المساهمة في الإصلاح الوطني الشامل والولوج للعمل السياسي النبيل من بوابة الفضاء الحزبي. إننا سنقدم على هذه الخطوة ونحن نستحضر أن سنوات القمع المتتالية، وعمليات غسل الدماغ ومحو الذاكرة الوطنية التي مارستها السلطات في مرحلة الاستبداد لعقود طوال بشتى الوسائل الديماغوجية، والتشويه المتكرر للإرادة الشعبية، والحصار والتخويف من أي عمل سياسي جاد، وممارسة شتى أشكال التجهيل السياسي لعقول المواطنين، كل ذلك لم يفلح ولن يفلح بالقطع، رغم طول الزمن، في اجتثاث الصورة النضالية التاريخية التي كرسها وغرسها العمل النضالي الحزبي المناضل والمثابر في الوجدان الوطني، والذي يعد حزب العدالة والتنمية في طليعته في المرحلة الحالية التي تمر منها البلاد .
إن الإقبال الكثيف على حزب العدالة والتنمية من قبل كل الفئات والشرائح الاجتماعية، وفي جل المناطق والجهات، والنجاح المحسوس الذي حققه في خطواته التأسيسية على امتداد المعارك الانتخابية وغيرها، هو في حد ذاته أكبر استطلاع للرأي يؤكد الثقة التي يتمتع بها الحزب من لدن كل فئات الشعب، ويبرهن عن عمق مخزونه الشعبي الذي لا ينضب.
اكتفيت في وصف الحالة الراهنة للحزب بهذا القدر من المؤشرات، تاركا جملة من القضايا الأخرى لا يتسع لها المجال على الرغم من أهميتها في الحياة الحزبية. لكي أتمكن من ختم هذه المقالة بكلمات قليلة عن الآفاق.
قد يجول في ذهن البعض، أننا نتحدث عن وضعنا الحزبي بالكثير من الاطمئنان واستدعاء خطاب الارتياح الزائف، بينما هناك الكثير من الإشكالات التي مازالت تنتظر أن يخوض الحزب غمارها، لكي يكون في مستوى الآمال والطموحات الملقاة عليه. وهذا حق لا جدال فيه.
إنما نشدد، قبله وبعده، على المنهجية العقلانية في قراءة الوضع السياسي العام والمجتمعي، والتعاطي مع كل القضايا التي مازالت عالقة، بحيث ننطلق في ذلك من أن الاتجاه العام لمسيرة الحزب الحالية هو اتجاه التقدم والنمو والتطور. وإن الوضعية الذاتية بالتالي ليست في حالة التراجع والنكوص والتأزم.
من هذه الزاوية إذن ينبغي إدراج وموقعة كل القضايا والمتطلبات العالقة. وغير خاف على أي منصف أن عملية التقدم في أي مجال كان، من طبعها أن تدفع بممكنات على حساب ممكنات أخرى يأتيها الدور وتنضج إمكانيات حلها في ما بعد.
على سبيل الختام
نعم، وبهذا المعنى، فإننا نردد جميعا: فليطمئن أصدقاؤنا وخصومنا، فإن حزبنا اليوم، بعد سنة من ممارسته للتدبير الحكومي ومباشرته للإصلاح السياسي من موقع الحكم، بكامل لياقته السياسية والجماهيرية ورشاقته التنظيمية والعملية
وفي كلمات قليلة، فإني ألخص الآفاق بقولة جامعة: إن عملية الإصلاح التي يقودها الحزب، بمعية شركائه، على كل المستويات، أمست بحاجة ملحة إلى نفس نهضوي مجتمعي صاعد من تحت .
ولكي لا أضيف كلمة أخرى تزيد من التضخم اللفظي في الخطاب السياسي المتداول، كما جرى الشأن مع كلمتي الحداثة وقبلها الديمقراطية، فإني أخص المعنى المراد بالنفس النهضوي المجتمعي: طرح كل الأفكار والمشاريع التي من شأنها أن تجعل من الكتلة الشعبية حاضرة وفاعلة بقوة وكثافة في الدفاع عن الإصلاح وإنمائه وحمايته.
وهو ما نطمع في توضيحه بمقالة أخرى لاحقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.