سأتناول هذا الموضوع من المنطلقين التاليين : الأول : تشكل وحدة اليسار جزءا صميميا من مشروع التحديث المجتمعي , وبخاصة الحقل السياسي , فهي ليست قضية ثانوية يمكن تأجيل الخوض في ما يرتبط بها من تعقيدات وصعوبات, بل هي شرط حاسم من شروط التقدم في اتجاه ربح رهانات الديمقراطية والعدالة وترسيخ أسس الحداثة المجتمعية والفكرية .. الثاني : إن مفهوم اليسار مفهوم واسع , بحيث يصعب اختزاله في بضعة تنظيمات مهيكلة على اختلاف أحجامها وتمثيليتها في المجتمع , فاليسار كحركة فكرية سياسية وإبداعية نقدية يشكل تيارا اجتماعيا لا يستهان بقوته الكامنة وقدراته وغناه وتنوع أشكال تعبيراته وخطاباته, وبهذا المعنى فاليسار هو أيضا قصيدة وأنشودة ومسرحية ومؤلفات عن التراث والثورة والتأخر التاريخي والبديل الاشتراكي ..الخ , هو روح عامة تتطلع الى الحرية والمساواة , ومشروع نظري ومجتمعي وسياسي .. هو ارتماء في المستقبل .. ووجدان مشترك بين أجيال وذاكرة جماعية, ترسخت فيها تجارب النضال الواحد الأهداف والمتعدد الواجهات , بكل ماجسدته تلك التجارب النضالية من قيم التضحية ونكران الذات في سبيل المبادئ والاختيارات السياسية الوطنية والديمقراطية التقدمية . اليسار _إذن_ هو أكبر وأوسع من تنظيماته وجزره , وهذا ما ينبغي استحضاره دائما في كل حديث عن مطلب الوحدة , وبتعبير استفهامي : كيف تصبح أحزاب اليسار وفصائله مؤهلة لتأطير وتنظيم اليسار كقوة مجتمعية كامنة ومتنوعة التعبير عن ذاتها ,أي ما يطلق عليه "شعب اليسار " ذلك هو السؤال الذي من المفروض أن يؤطر كل مساعي التوحيد , وإلا ستصبح الوحدة المنشودة لليسار في قطب كبير مجرد جمع حسابي وفوقي معزول لمجموعة من التنظيمات الحزبية المأزومة على العموم.. I في تشخيص " فوتوغرافي " لحالة اليسار المغربي اليوم, نقف عند أقصى درجات التشتت والانقسام في المواقف والمواقع: * أحزاب يسارية قاطعت الدستور الجديد, والانتخابات التشريعية . * أحزاب أخرى شاركت في الاستحقاقين معا , وكان بعضها من صناع العهد الدستوري الجديد ( الاتحاد الاشتراكي خاصة ) . * أحزاب التحقت بتحالف الثمانية (G8 ) الهجين والانتحابوي ,فخسرت الانتخابات وكثيرا من المصداقية. * حزب يساري، من مكونات الكتلة الديمقراطية PPS)) يشارك في الحكومة الجديدة, ذات النزعة المحافظة. * أحزاب في حالة تماهي مع حركة 20 فبراير, وتقاطع كل العملية السياسية الجارية وتطالب بتغيير الدستور وحبره لم يجف بعد .. * حزب يساري متشبث بالبقاء خارج السيرورة الواقعية للمشهد السياسي. انها وضعية تراجيدية حقا , دفعت بالكثيرين اليوم إلى الاعتقاد بأن مطلب وحدة اليسار لم يعد له معنى ولا أفقا , خاصة في ظل الوضع التنظيمي الصعب الذي يجتازه الإتحاد الاشتراكي , وفي ظل استمرار " موسم الهجرة اليسارية " إلى حزب "البام".. غير اليساري. II هناك إذن, ضرورة ملحة لإعادة هيكلة اليسار، ومراجعة تجربته، وتقييم أسباب تراجعه، وبلورة أفق استعادة إشعاعه الفكري والإيديولوجي، ووزنه في المشهد السياسي الوطني، الحزبي والجماهيري، فمشروع اليسار المجتمعي ما زالت له راهنيته, وضرورته الموضوعية وما زالت الحاجة إليه قائمة وحيوية في تحقيق مشروع التحديث السياسي والمجتمعي الشامل. إن المعطيات الموضوعية لعصرنا ومجتمعنا وللمرحلة السياسية الراهنة تفرض بإلحاح اتجاه قوى اليسار بجرأة وشجاعة وصدق وإرادة نضالية نحو بناء أسس الوحدة الفكرية والسياسية والتنظيمية, وإبداع صيغها الممكنة, ومن بين هذه المعطيات ما يلي: - معطى العولمة الزاحفة, التي بغض النظر عن وجهها الإيجابي كظاهرة تاريخية تعكس درجة عليا في تطوير التاريخ البشري، أضحت تهدد بآلياتها وبمفاعيلها الكيانات الضعيفة وتعمق الفوارق ألاجتماعية ,وتفاقم من جيوش العاطلين والمهمشين مما يقتضي ويفرض بالضرورة حزبا يساريا قويا ومنظما يتوجه إلى كل الشعب بمختلف فئاته وطبقاته الوطنية للدفاع عن العدالة الاجتماعية والمساواة وعن الوحدة الوطنية المتعددة المكونات والمنفتحة على المستقبل.. - معطى ما يسمى " بالربيع العربي ", الذي أبان عن ما تختزنه الشعوب من طاقات هائلة شبابية ونسائيه قادرة على صنع التغيير, وما دور حركة 20 فبراير في دخول بلادنا إلى عهد دستوري جديد إلا دليلا على ذلك.. مما يطرح على قوى اليسار تحدي الحفاظ على هذه الدينامية وتطويرها وتحصينها من كل أشكال السطو على أهدافها في اتجاه معاكس للإرادة التي حركتها , إرادة التحديث والدمقرطة والانفتاح على العصر وقيمه الكونية. وفي ارتباط بذلك أنتج الربيع العربي " معطى جديدا سيسم كل المرحلة المقبلة, ويتمثل في صعود الإسلاميين إلى هرم السلطة في تونس ومصر والمغرب والبقية في الطريق , ما يجعل من إعادة بناء اليسار لهويته الإيديولوجية مسألة حيوية وملحة لمواجهة كل التأويلات التي ترمي إلى جعل المرجعية الإسلامية سندا لفهم جامد متحجر ورجعي للدين .. - معطى إقرار دستور جديد ينص على الفصل بين السلط، ويربط المسؤولية بالمحاسبة , ويعزز المكاسب المحققة في مجال الحريات الفردية والجماعية , ويفتح الباب نحو مفهوم جديد للملكية كملكية مواطنة وبرلمانية. ولا شك في أن التطبيق الديمقراطي الأمثل والمطلوب للدستور الجديد سيظل رهينا بالوزن السياسي والتنظيمي والجماهيري لليسار وبمدى قدرته على التحول إلى كتلة مجتمعية فاعلة ووازنة , وقوة تاريخية للتغيير والبناء تتمثل كل مصالح المجتمع ومكوناته المتنوعة. - معطى عودة حزب الاتحاد الاشتراكي إلى المعارضة بعد 13 سنة من تدبير الشأن العام الحكومي, مما سيزيل الكثير من الخلافات بين صفوف اليسار, ويفتح أفقا أفضل لفعل وحدوي مستقبلي. إن كل هذه المعطيات مجتمعة تبرز كم هي حيوية مسألة الانتقال بوضعية اليسار المغربي من وضعية الجزر المشتتة إلى وضعية القطب التنظيمي الواحد المؤسس على كل القواسم المشتركة القائمة بين تنظيماته الحزبية . III ويمكن هنا,اجمال هذه القواسم المشتركة ,باعتبارها تشكل القاعدة الصلبة لأية صيغة وحدوية , في العناصر التالية : * أ : التاريخ النضالي المشترك , بتضحياته وإخفاقاته ومكتسباته وملاحمه في الصمود والثبات على مبدأ التغيير ومطلب بناء نظام سياسي ديمقراطي يقوم على العدالة والحرية والمساواة ... * ب: الاختيار الإيديولوجي الاشتراكي الديمقراطي : فعلى الرغم من أن النظرية الاشتراكية توجد اليوم في وضعية انحسار وجمود , فإن الاشتراكية كتراث وقيم وتجارب مجتمعية تظل من المكونات الجوهرية لأي مشروع مجتمعي حداثي يهدف الى اقامة مجتمع يقوم على درجات عليا ومثلى من التطور سواء على مستوى الديمقراطية السياسية والاجتماعية والاقتصادية , أو على مستوى النهوض بالقوى المنتجة وفي مقدمتها الانسان. ان قوى اليسار العالمي والمغربي كجزء منه , مطالبة اليوم_ في ظل اكتساح "ايديولوجية النهايات "_ بإعادة قراءة التراث الاشتراكي قراءة نقدية لأجل اعادة بناء الفكر الاشتراكي في ضوء مستجدات وتحديات ورهانات وتحولات عصرنا الكبرى في كافة المجالات والحقول العلمية منها والاقتصادية والجيواستراتيجية..الخ . ويعتبر دور النخبة الثقافية في هذه المهمة الفكرية والنظرية حاسما في النهوض باشتراكية متجددة , ومستلهمة للثقافة الديمقراطية , ومدمجة في جوفها كل القيم الإنسانية لموروثنا الديني والحضاري ... * ج: التوجه الإستراتيجي: وذلك باختيار استراتيجية الملكية البرلمانية كأفق لسيرورة بنائية تراكمية , يرتهن التقدم في ربح استحقاقاتها بقوة وموقع اليسار في المجتمع .. وفي الحقل الحزبي والسياسي الوطني. * و:برنامج مرحلة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والذي يجمع بين كل قوى اليسار ميدانيا وفي مختلف واجهات النضال اليومي...إلخ وإضافة الى كل ذلك, هناك تجارب وحدوية مشتركة ومتنوعة الصيغ (تنسيقيات? التحالف الاشتراكي? الاندماج) لابد من الاستئناس بها في بلورة وإبداع صيغة واقعية وفعالة للوحدة التنظيمية المطلوبة والقادرة على ربط مشروع اليسار بالدينامية المجتمعية الجارية.. إن هذه القواسم المشتركة التي تجمع بين قوى اليسار _ رغم اختلاف التصريف لها تكتيكيا واختلاف التقدير أحيانا لأولويات المرحلة السياسية الراهنة, تشكل قاعدة صلبة لتوحيد الممارسة والرؤية, إذا ما تم تجاوز الكثير من العوائق السيكولوجية والحساسيات الذاتية والحسابات المصلحية الضيقة التي ألفت "الاعتياش" على التشتت والتعدد اللامنطقي لكيانات حزبية هزيلة .. ولامراء في أن معطيات المرحلة السياسية الراهنة, المشار إليها أعلاه, تفرض على القوى الديمقراطية، واليسارية خاصة, تجنيد كل طاقاتها للانخراط في ديناميكية تعبوية داخل المجتمع: ديناميكية تأطيرية تفسيرية وتوضيحية لخصوصيات الحراك المغربي, وللمكتسبات التي تحققت في خضمه، وللأفق الديمقراطي المفتوح أكثر من أي وقت سابق على نظام الملكية البرلمانية ودولة الحق والقانون والعدالة ، فبدون هذه الخطوة التوحيدية ، فإن كل الاحتمالات السيئة ستظل واردة , احتمالات الارتداد على المكاسب المحققة, والتقهقر الى الوراء وتعطيل السير على طريق استكمال البناء الديمقراطي للدولة والمؤسسات والحقل السياسي وفق تأويل حداثي وتطبيق ديمقراطي للدستور الجديد . إن مشروع قطب اليسار الموحد يبقى, اذن, هو الجواب الذاتي لضمان النجاح في كل المهمات الإصلاحية الهيكلية لمرحلة الانتقال التي طال أمدها. IV ما هي علاقة القطب اليساري المنشود بالقوى المجتمعية الأخرى؟ إن توحيد اليسار في قطب جماهيري وتنظيمي كبير، هو مشروع لا يتناقض مع تطوير كل أشكال العمل والتنسيق مع بقية القوى ألديمقراطية ذات الشرعية التاريخية والشعبية و الديمقراطية , ذلك أن نمو وتقوية اليسار الاشتراكي مرتبط بنهوض جماهيري ديمقراطي واسع يشمل كل القوى والفعاليات ذات التوجه الديمقراطي الحداثي , وهي القوى الحليفة -موضوعيا- لقطب اليسار الكبير المنشود. كما أن تقوية المبادرات المستقلة لكل قوى المجتمع المدني التي تشتغل في كافة المستويات والواجهات, وتلتقي حول هدف بناء مواطنة حقيقية فاعلة, تعتبر شرطا حيويا من شروط حضور قوي ومؤثر لليسار داخل المجتمع .. اذ لا تقدم لليسار والقوى الديمقراطية عموما إلا بمجتمع مدني قوي ومستقل. ولعله من الضروري التشديد هنا على مسألتين رئيسيتين : الاولى تتعلق بالتحالفات ودورها في ازالة اللالتباس والخلط في المشهد السياسي , فقد آن الاوان للقطع مع مفهوم التوافق كما فرضته شروط الوضع الاقتصادي والسياسي الصعبة لمرحلة "التناوب التوافقي , ولتجاوز التحالفات غير الطبيعية مع أحزاب لاتملك قرارها المستقل وسيادتها على نفسها, ولم تقطع حبل الصرة بينها وبين أجهزة الدولة التي فرختها على مدى عقود , بما فيها تلك المتلحفة بمفاهيم "الحداثة"... أما المسألة الثانية ,فترتبط وثيق الارتباط بتحديث العمل السياسي عامة وبإعادة هيكلة الحقل الحزبي الوطني خاصة , وهي العمل على ارساء نظام انتخابي جديد ,يضع حدا لحالة التفتيت والبلقنة والميوعة السياسية التي تعيشها المؤسسات المنتخبة, ويجعل بالمقابل من العملية الانتخابية نفسها عنصرا فعالا في تعميق الديمقراطية وعقلنة الحقل الحزبي وتحديث النظام السياسي , ولقوى اليسار مقترحاتها وتصوراتها في هذا الصدد , لا بد من اسنادها بوحدة الأداة , ووحدة الممارسة . V أما بخصوص الصيغ والأشكال الممكنة لإعادة هيكلة اليسار وتوحيده في قطب كبير، فيمكن الحديث عن الصيغ الثلاث التالية: 1. صيغة تنسيقية: وهو تنسيق يشمل مختلف واجهات العمل السياسي والنقابي والثقافي الإشعاعي وكذلك المستويات التنظيمية القيادية والقطاعية الجماهيرية...بحيث يظل كل حزب أو فصيل محتفظا باستقلاليته وحريته في اتخاذ القرارات المناسبة في ظرف محدد , وقد أثبتت التجربة حدود هذه الصيغة وضعف مردوديتها. 2. صيغة فيدرالية: وهي أعلى درجة من الصيغة الأولى, حيث يكون كل حزب مضطرا للتنازل عن جزء من استقلاليته لصالح القيادة الفدرالية التي تجمع بينه وبين الأحزاب الأخرى. 3. الصيغة الاندماجية : وهي الأرقى, ولا تتطلب غير الإرادة .. واتخاذ القرار المبدئي من طرف المؤتمرات الحزبية التي نضجت لديها هذه القناعة ( تجربة اندماج الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الاتحاد الاشتراكي ) وفي اعتقادي أن هذه الصيغة هي الخيار الأمثل الذي أضحت ضرورته اليوم أقوى من أي وقت سابق .. إنه الجواب الذاتي عن التشتت, والتقوقع, والحسابات الذاتية فهل ستكون احزاب اليسار مع الموعد الوحدوي المطلوب في هذه المرحلة التاريخية التي يمر منها العالم ..ومحيطنا الاقليمي , وذلك من أجل التقدم الديمقراطي لبلدنا .. ومن أجل تحقيق تطلعات "شعب اليسار"... المداخلة التي ألقيت في ندوة أكادير