حسبما نشر في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، فإن السفير الأمريكي بليبيا، "جون كيرتز" أبلغ القيادة العليا في ليبيا عن طريق مذكرة رسمية موجهة إلى الخارجية الليبية يشكو فيها من تعرضه لمضايقات من بعض المواطنين الليبيين، وأنه اضطر إلى تغيير برنامجه اليومي، وأن هذه المضايقات جاءت على خلفية نشر وثائق "ويكيليكس". بعد انقطاع دام عشرات السنوات بين ليبيا وأمريكا، رجعت العلاقات الليبية الأمريكية، بحذر شديد بين الجانبين، حيث جاء ذلك كنتيجة لسقوط بغداد. ورجوع هذه العلاقات لم يكن إلا حالة من المدّ والجزر بين وقع السياسية الدولية التي فرضتها الأحداث العالمية، ومن أهمها انتصار الكتلة الغربية، أي الحلف الأطلسي على الكتلة الشرقية التي تمثل حلف وارسو، والمنظومة الشرقية للاتحاد السوفيتي سابقا، و أحداث 11 سبتمبر 2001، والحرب على الإرهاب، أو الحرب الصليبية كما وصفها الرئيس جورج بوش الابن، حيث كانت ليبيا وُضعت ضمن دول محور الشر. ولكي يتجنب النظام الليبي ما حصل للعراق وأفغانستان فقد سارع واستبق الأحداث بإعلانه عام 2003، أي بعد بضع ساعات فقط من القبض على الرئيس العراقي السابق صدام حسين بتسليم كل ما لديه من معدات متعلقة بالأسلحة الكيمائية، والمعدات الخاصة بالطاقة النووية، من دون أي شرط أو قيد، وتمّ فعلا شحنها وشُحنتْ معها كل الوثائق السرية، وكل ما في حوزة الدولة الليبية، وأجهزة مخابراتها من معلومات، حيث تمّ شحنها عبر طائرات أمريكية خاصة لهذا الغرض، وسفن حربية إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو ما اعتبرته الإدارة الأمريكية والبريطانية آنذاك انتصارا رائعا، وهزيمة منطقية لدول محور الشر خصوصا. كما اعتبرتها أنها جاءت كنتيجة للحرب علي العراق والقبض علي صدام حسين، ومبررا للسياسة الأمريكية البريطانية في إعلان الحرب على الإرهاب. إضافة إلى اعتراف ليبيا كدولة بمسئوليتها أمام مجلس الأمن الدولي والأممالمتحدة عن تفجير الطائرة الأمريكية "بان آم" فوق بلدة "لوكربي" باسكتلندا والتزامها بدفع سبعة مليار دولار كتعويضات لأسر الضحايا، وتعويض شركة الطيران المفلسة، حتى يمكن رفع الحظر الجوي من والى ليبيا الذي اتخذه مجلس الأمن الدولي عام 1992، كما تعهدت الدولة الليبية بتعويض فرنسا بخصوص تفجير طائرتها "يوتا" فوق صحاري النيجر وتعويض ألمانيا عن تفجير المرقص "لابيل" ببرلين أيضا، مما كلف الخزينة الليبية بين التعويضات والحظر الجوي عشرات المليارات من الدولارات. ولكن عودة هذه العلاقات الأمريكية الليبية لا يمكن وصفها إلا بالزواج عن طريق الاغتصاب، حيث أن أطراف هذا الزواج يحمل كل منهم العداء المستمر والشكوك تجاه الطرف الأخر، ويعاملان بعضهما بحذر، ولكن لكل منهم مصالح، فنجد مصلحة النظام الليبي هي البقاء في السلطة، و لربما توريتها بين الأب والأبناء، وفي المقابل ضربت الإدارة الأمريكية عدة عصافير بحجر واحد، حيث بررت أولا غزوها للعراق بأن ليبيا تخلت طواعية عن أسلحة الدمار الشامل، ثانيا تعويض أسر الضحايا الأمريكيين وتعويض شركة الطيران، ثالثا الحصول على معلومات قيمة تتعلق بتجارة المواد النووية، ومصادرها من الاتحاد السوفيتي سابقا وباكستان، ومعلومات عن العالم الباكستاني وتعامله مع العديد من الدول من بينها ليبيا وإيران وكوريا إلخ.. رابعا عودة وحصول الشركات النفطية الأمريكية الضخمة على عقود طويلة الأمد، وبإغراءات وامتيازات مهمة وغير مسبوقة، وعودتها كمنتصر على إجراءات التأميم التي قامت بها ليبيا التي كانت تعتبر أنها ضحية لها خلال السبعينات، خامسا مراقبة السياسة الليبية وتوجيهها إلى خدمة المصالح الأمريكية في الوطن العربي وإفريقيا، سادسا، استخدام الدولة الليبية وأجهزتها الأمنية ومواردها النفطية في محاربة التوجه الإسلامي في المغرب العربي، وفي مصر والسودان وتشاد والدول الإفريقية، سابعا استخدام النظام الليبي في تشتيت الشمل العربي بخلق مشاكل مع بعض الحكام العرب في السعودية والكويت ولبنان والمغرب والجزائر إلخ.. ثامنا وأخيرا، هدْر الموارد الليبية في سياسة خارجية وشطحات تتعلق بالدعوة إلى إنشاء الاتحاد الإفريقي، أو الولاياتالمتحدة الإفريقية، وجيش إفريقي من مليون جندي تتولى ليبيا دفع مرتباته ومصاريف إنشائه إلخ... إذن هذه العلاقات أو هذا الزواج الذي تم بالاغتصاب جعل كلا الطرفين يتعامل مع الآخر بحذر، وكلاهما ينظر إلى الماضي وما تسبب فيه من قطيعة وهجر، والنتائج التي أدت إلى تفجير الطائرات المدنية الأمريكية فوق بلدة "لوكربي" إلخ.. من الطرف الليبي، والحرب والهجوم على طرابلس وبنغازي عام 1986 من الطرف الأمريكي، وهو ما أدى إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضد ليبيا، والقرار العقابي الذي اتخذه آنذاك الرئيس الأمريكي "رونالد ريغن" كردّ على تفجير مرقص "لابيل" ببرلين. تهديد السفير الأمريكي نتيجة لنشر وثائق "ويكيليكس" بعد رجوع هذه العلاقات الليبية الأمريكية، أو هذا الزواج القسري، اختارت الإدارة الأمريكية كسفير لها، السيد "جين كيرتز" كي يقوم بتطبيق قواعد هذا الزواج، وهو رجل مخضرم وله خبرة كبيرة في الشرق الأوسط، خصوصا وأنه عمل كسفير لبلاده عند دولة الاحتلال الإسرائيلي، وكان متتبعا للسياسة العربية والشرق أوسطية، بل الإفريقية والأسيوية، حيث عمل في دمشق وتل أبيب والقاهرة وإسلام أباد ونيودلهي وبكين. لقد كان فتح السفارة ألأمريكية بطرابلس بالنسبة للنظام الليبي وتعيين سفير أمريكي لديها بمثابة حدث تاريخي، وأنه يعتبر الضمان الأساسي لاستمرارية النظام، ومن ثم فإن التخاطب مع سيدة العالم سيكون مباشرة عبر هذا السفير، وأن المستقبل أصبح مضمونا للنظام، وأن مرحلة الخوف من المستقبل قد انتهت. إلا أنه لم يكن متوقعا أن تخرج على العالم أحداث إعلامية تهز العروش الدكتاتورية العربية تسمى "أحداث ويكيليكس"، التي قامت بنشر الوثائق السرية للسفارات الأمريكية بالعالم، حيث أن السفراء يقومون بإرسال برقياتهم اليومية الخاصة بالمعلومات عن البلد المضيف، وهو متعارف عليه في القانون الدولي والعلاقات الدولية، حيث تقوم كل سفارات العالم بأعمال التجسس من أجل الحصول على معلومات عن كل ما يجري في البلد المضيف. السفير الأمريكي كغيره من سفراء العالم إذن من مهام عمله إعطاء صورة عامة عن البلد ونظام الحكم والتوقعات المستقبلية للحكم، وأيضا القيام بدراسة اقتصادية لحكومته إلخ.. من أجل تشجيع الاستثمار أو عدمه ونصح رعايا بلاده بالقدوم للعمل أو السياحة إلى ليبيا أم لا، وكل هذا من صلب العمل الدبلوماسي، حيث أنه فعلا قام بإعلام وزارة الخارجية الأمريكية عن التصرفات الشخصية والعلاقات الشخصية لإفراد النظام، ومن ثم قام بتحليل لشخصية ملك ملوك إفريقيا وعميد الحكام العرب، السيد العقيد القدافي، وأيضا أعطى تفسيرا عن رحلة وسفره إلى أمريكا للمشاركة في أعمال الأممالمتحدة، ومسألة الممرضة الأوكرانية، وأيضا، ووفقا لوثائق "ويكيليكس" عن أن السفير قد حدد الصراع الدائر بين أبناء العقيد القدافي على رئاسة ليبيا فيما بعد أو تقاسمهم للنقود وأموال النفط إلخ.. مما اثأر حفيظة أفراد النظام وبغضهم للسفير. ولتخفيف حدّة نتائج هذه الوثائق التي نشرها موقع "ويكيليكس"، أعلنت الإدارة الأمريكية عن طريق وزيرة الخارجية، السيدة "هيلاري كلينتون" بأن أمريكا تحتفظ بعلاقات طيبة مع كل الدول، ومن ثم أرسلت إلى ليبيا ممثلا كي يحاول أن يهدئ الأمور. واشنطن إذن سعتْ لطمأنة طرابلس والتقليل من أهمية ما تم تسريبه من وثائق طالت في جانب منها الشأن الداخلي الليبي، خاصة ما يتعلق بالنواحي الشخصية للزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، حيث أجرت وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري كلينتون" اتصالا لهذا الغرض مع نظيرها الليبي موسى كوسا رئيس المخابرات الليبية والأمن الخارجي، والذي تدور حوله هو نفسه التهم بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد المعارضة الليبية. السيد السفير الأمريكي هو الآخر حاول الحد من تأثير التسريبات على مجمل العلاقات الليبية – الأميركية، حيث نشر مقالا على الموقع الإلكتروني للسفارة الأميركية في طرابلس، قال فيه "إنني لا أستطيع أن أجزم بمدى صحة أي من تلك الوثائق، ولكنني أستطيع القول إن الولاياتالمتحدة تأسف بشدة للكشف عن أي من تلك المعلومات التي كان المفروض أن تكون سرية"، وأضاف السفير في مقاله بأن أصحاب النيات الحسنة يدركون أن التقارير الدبلوماسية الداخلية لا تمثل السياسة الخارجية الرسمية للحكومة (الأميركية) موضحا أن تلك السياسات موضوع تحتويه السجلات العامة وموضوع لآلاف الصفحات من الخطب والبيانات والأوراق والوثائق الأخرى، التي تجعلها وزارة الخارجية متاحة مجانا على شبكة الإنترنت وفي مواقع أخرى. إلا أن الاتصال الهاتفي للسيدة كلينتون مع وزير الخارجية الليبي، ونشر مقال من السفير الليبي لم يكن كافيا بعد نشر الوثائق السرية المتتالية، وهو ما يعدّ بالنسبة للنظام الليبي أمرا خطيرا ويشكل تهديدا مبطنا لمستقبله السياسي، وأن الإدارة الأمريكية ترصد تحركاته ليلا نهارا، وأنها تعلم خفاياه وأسراره الشخصية وكل شيء عنه، مما أوحى إلى اللجان الثورية بالتحرك ضد السفير وتهديده، ومماسرة مضايقات عليه وصلت إلى حد منعه من ممارسة رياضته اليومية في ميدان الفروسية بمنطقة "أبوستة" بالعاصمة طرابلس، بعدما فوجئ بمواطنين قد يكونون من رجال "موسى كوسا" أو رجال عمر اشكال،أي اللجان الثورية، بتهديده علنا وطلبهم منه مغادرة البلاد وإعلامه بأنه شخص غير مرغوب فيه في ليبيا، وأيضا محاولتهم رميه بالحجارة، حسب ما نشرته الصحف. ونشرت صحيفة ليبية تدعى "قورينا" وأيضا صحيفة "الشرق الأوسط" بأن السفير السيد "كيرتز" قد تعرض أيضا لهجوم وبعبارات قاسية في أحد الفنادق بمدينة طرابلس، ومن المعروف عادة أن المقيمين والمترددين على هذه الفنادق ذات الخمسة نجوم هم أعضاء وخلايا الأمن الخارجي التابعين ل"موسي كوسا" و"بوزيد دوردة" وآخرين تابعين للجان الثورية التي يترأسها عمر أشكال، وهؤلاء جميعهم يعتبرون من منتهكي حقوق الإنسان في ليبيا. السفير الأمريكي السيد "كيرتز" تلقى ردا ليبيا رسميا من القيادة الليبية مفاده أن السلطات الليبية لا توعز إلى أشخاص بالتعرض له أو لسبه، وأنها في المقابل مستعدة للبحث في الأمر بشكل قانوني، إذا ما تقدم السفير الأميركي بمذكرة رسمية في هذا الصدد، وهو أمر لا يمكن لأي سفير أن يقوم به، لأن مثل هذه التهديدات تعالج وفقا للقواعد الدبلوماسية والأعراف الدولية في القانون الدولي، ولا تعالج أمام قضاء الدولة المضيفة خصوصا وأن السفير والسفارة يتمتعان بالحماية الدبلوماسية، وهو ما أعتقد أن السفير اعتبره نوعا من الهراء والكذب، وزاد في الخلاف والنزاع بين السفير والنظام الليبي، خصوصا بعدما أطلقت اللجان الثورية صفحة خاصة على موقع ال«فيس بوك» الاجتماعي الشهير للمطالبة بطرد "كيرتز" نتيجة ما وصفوه بخروجه عن المهام الدبلوماسية المنوط بها، ولتدخله في الشؤون الداخلية لليبيا، وتطاوله على شخص القذافي من خلال تحليلاته الشخصية على حد تعبيرهم. مستقبل العلاقات الأمريكية الليبية بالرغم من أن الولاياتالمتحدة قد سحبت آخر سفير لها لدى ليبيا عام 1972، وسحبت جميع موظفي السفارة وغلقها نهائيا إثر قيام اللجان الثورية بالهجوم على السفارة وإضرام النيران فيها في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 1972، وبالرغم من التاريخ المثير، وبالرغم من الهجوم على طرابلس وبنغازي عام 1986 استأنفت الولاياتالمتحدةالأمريكية وجودها الدبلوماسي المباشر مرة أخرى في الثامن من فبراير (شباط) 2004 إلا أن هذه العلاقات مهددة من جديد بالفتور والتوتر لأنها علاقات تم استئنافها على مبدأ الزواج بالقرصنة، وكلا الطرفين يعلمان ذلك، وهم دائما في مرحلة الشك والخلاف الدائم بالرغم من المصالح المشتركة. ومن ثم نعتقد بأنه سوف لن تكون هناك علاقات طبيعية بين ليبيا وأمريكيا إلا بعد أن يتغير النظام السياسي في ليبيا، حيث يمكن بعد ذلك قيام علاقات دبلوماسية جديدة، تسودها مبادئ القانون الدولي والعلاقات الدولية التي تبني على الاحترام والتعاون المشترك،أما الآن فإن العلاقات الأمريكية الليبية ما هي إلا علاقات يمكن تشبيهها بعلاقات الزواج القسري، أو علاقات الزواج بالاغتصاب. *خبير في العلاقات الدولية والقانون الدولي والقانون الجنائي الدولي وعضو المحكمة الجنائية الدولية لاهاي [email protected]