واهِمُون، مَنْ ظَنُّوا أنَّ التِّقْنِيَة تنوبُ عن الإنسان في التفكير، وفي تنظيم الحياة، وتدبيرها. وواهِمُون، مَنْ اعتقدوا أنَّ الثقافة والفَنَّ، أو الفكرَ لا دَوْر له في حياة الاستهلاك التي باتَتْ هي ما يتهافَت الناس عليه، ويتسابقون لامتلاك آخِر هَبَّاتِ الهواتف، والألواح الإلكترونية، أو الشاشات المُسَطَّحَة، التي تضمن فُرْجَةً عاليةَ الجودة. كما أنَّ من يحرص اليوم، على اعتبار «الأدب»، بشكل خاص، لا طَائِل من ورائِه، وأنَّ الدراسة، والتَّعلُّمَ، أصبحا مُرْتَبِطَيْن، بسوق الشُّغْل، أي بما يمكن أن يضمن العمل في الشَّرِكات المتعددة الجنسية، أو في غيرها من الشَّرِكات التي يتحوَّل فيها الإنسان إلى مُجرَّد آلةٍ، أو إحْدَى مُسَنَّنات آلات الاستثمار، وكَسْب المال، هو أيضاً واهِمٌ، وغارق في الوَهْم، إذا ما بَقِيَ خارج الأدب، والفكر، والفن، أي خارج العقل والخيال البَشَرِيَيْن، وخارج الإنسان، عموماً، باعتباره المُحَرِّكَ للوجود، والفاعِلَ فيه، أو هو من يصنع فيه المصائر، ويضمن صيرورةَ هذا الوُجود، والموجودِ أيضاً. حين نَتوَهَّم أنَّ الشِّعْرَ بضاعة فاسدةٌ، لا تَصْلُح لهذا التَّهافُت على الآلة الذي غرِقْنا فيه، إلى الدرجة التي جعلتْ من الإنسان آلةً في يَدِ الآلة، فنحن، حتماً، نكون خَرَجْنا من جلودِنا، وخرجْنا من نفوسِنا، وخَرَجْنا من وُجودِنا كبشرٍ، لنتحوَّل إلى جلودٍ، أو نفوس، فارغة من بَشَرِيَتِها، وفارغة من هذا العَقْل الذي كان، دائماً، وراء كل هذه الصيرورات التي تجري، وما يحدُث من ابتكاراتٍ، باعتبار الخيال، هو ركيزة العقل، أو الأساس الذي يسمح للعقل أن يِبْدِعَ، ويخرج من وضع الصمت، أو البَيَات، أو ما نعتبره كَسَلاً، إلى وضع الاختلاق والابتداع. فجول فيرن، الذي كان كاتِبَ رواياتٍ، فهو لجأ إلى الخيال لبناء فكره العلمي، أو تصوُّرِه لِما يمكن أن تكون عليه الحياة في غير زمَنِ جول فيرن. رواياتُه كانت نوعاً من الخيال المُفْرِط في تخيُّلاتِه، أي بما يمكن اعتباره شَطَطاً، أو جنوحاً نحو الجنون. فما كان جول فيرن يفكِّر فيه، أو يتخيَّلُه، أصبح حقيقةً، وأصبحت رواياته، أفقاً لمن جاؤوا بعده، من العُلماء، ومن غيرهم ممن أعْمَلُوا عقولهم، ونَقَلوا الخيال من التَّوَهُم، أو من هذا الشَّطط المفرط في تخيُّلاته، إلى مكائِنَ، وآلاتٍ، منها ما اخْتَرَق البَرَّ، ومنها ما اخترق الجَوَّ والبحْر، مثل المَناطِد الهوائية التي حلَّقَت في الرِّيح، والغَوَّاصات التي سمَحَت للإنسان أن يحيا تحت الماء لمُدَّة من الزَّمَن، لم يكن التفكير فيها، أو تصوُّرها مُمْكِناً. الجامعات والمعاهد العليا، اليوم، وحتَّى كليات العلوم، والطب، وغيرها، هي فضاءاتٍ لتكوين المهندسين، والأطباء، ولتخريج التقنيين في الحواسب، وفي تدبير أعطاب المكائن والآلات، أو ما قد يحدث من مشكلاتٍ في الاتصال، بقدر ما حَرِصَت، على التكوين العلمي الصِّرْف، فهي تجاهَلَت دَوْر العلوم الإنسانية، ودَوْرَ الفكر والفن والأدب، في تشييد الوَعْيِ النقدي، والحس الجمالي، وفي وَعْيِ الطبيب، والمهندس، والتقني، بوجوده كإنسانٍ يخرج من نَسَق «الدَّرْس» و «الجامعة»، وما تعلَّمَه من تقنيات، إلى ذاتِه هو، هذه الذَّات المُفَكِّرَة التي لا تخرج من شرطها الإنساني، في التَّعامُل مع الأجسام، كيفما كانت طبيعتُها، وحتَّى الأرواح. أعني، أنَّ دراسة الفلسفة، وعلم الاجتماع، والأنتربولوجيا، وعلم النفس، ستسمح، لهذه الشَّرِيحة من الناس، أن يكونوا عارفين بطبيعة واجبهم، ليس كأطباء، ومهندسين، وتقنيين، أو تقنوقراط، وفق العبارة التي نستعملها حين نعمل على تفويت شؤون السياسة والاقتصاد، لهذه الفئة من المواطنين، بل كعقول، لا تفكر فقط، في حَلِّ المشاكل والمُعْضِلات، أو في إطفاء الحرائق، بل وفي تفاديها، أو استباق حدوثها. هذا ما تعلَّمْناه، في عبارةٍ قيلتْ لنا ونحن في مراحل التَّعلُّم الأولى «الوقاية خير من العلاج»، بما تعنيه، في وجهها الذي لم يُقَل لنا، دَرْءُ الخَطر قبل حدوثه، لا أن ننتظر وقوعه، لنشرع في البحث عن حلول له. الذين يحكمون علينا بالآلة، أو يعملون على تحويل الإنسان إلى آلةٍ في يَدِ الآلة، ويسعوْن لإفراغنا من الشِّعر، ومن الموسيقى، ومن الفن، ومن الجمال، هؤلاء، هُم من فقدوا الإحساس بالإنسان في نفوسهم، وفقدوا الوعي بوجودهم كبشر، كان العقل والخيال، هُما ما صنع به الإنسان هذا الوجود، وما جعل الطبيعة، لا تكون مُجرَّد زُروعٍ نأكُلُها كُلَّما نضجت، أو حان قِطافُها، بل باعتبار الطبيعة، هي هذا الإحساس الفني والجمالي الدَّفين في نفس الإنسان، والذي ما فتئت الديانات، والمعتقدات، نفسها، تَحُثُّ عليها، أو تسثمرها، لاجْتلاب الإنسان، وحَفْزه على تصديقها. أليس القرآن، في أسلوبه ولغته، هو تعبير جمالي، قبل أن يكون كلاماً يقصد إلى معنى الإيمان، أو دَرْءِ الشَّرِّ في مقابل الخيْر؟ أليس هو، في جوهره، قصصاً، وتاريخاً، وحِكَماً، وبناء شعرياً، يفوق الشِّعر نفسَه في بنائه، ونثراً يفوق النثر في تَفَكُّكِه، أو نثريته؟ لنتأمَّل هذا النص الديني، ولنتأمَّل التوراة، والإنجيل، وغيرهما من الكُتُب التي هي اليوم، مفاتيح لكثير من المشكلات التي ترتبط بوجود الإنسان، وبعلاقته بالكون، فهي كلها جاءت من خارج الوجود الاستهلاكي، المادي، الذي يأكُل الإنسان، ويمتصُّه، ليجعل منه وجوداً بلا وُجود، أو كائناً بلا كينونة، وفق التعبير الهايدغيري المعروف. ليس الشِّعر، مُجرَّد كلامٍ، أو عبارتٍ، وصُوَر، أو إيقاعاتٍ، يكتبها الشَّاعر للتَّرفيه على الناس، أو لِمُواساةِ الرَّاحلين منهم، على فجيعة الغياب، أو الرَّحيل، أو تمجيد الملوك والرؤساء، أو التَّزلّف لهم، أو لغيرهم، ممن يمتلكون سُلطاتٍ تسمح لهم بالإغداق على الشَّاعر بالمال، والمناصب، والأُعْطياتِ. ليس هذا هو الشِّعر، وليس هذا هو المعنى الذي به وُجِدَ الشَّاعر على الأرض. الشِّعر هو الوُجود نفسه، وهو كينونة الإنسان، لأنَّه اختراق لهذا الوجود باللغة، التي اعتبرها هايدغر «أخطر النِّعَم». واللغة، ليست هي الكلام العامّ الذي نتقاسم به الحديث، وما قد يصدر عنَّا من لَغَطٍ وضجيج، إنَّها هي الإنسان نفسه، وهو يخرج من حيوانيته، أو بهِيمِيَتِه، ليكون العقل الذي يُعيد تدبير الوجود، وصياغة مصيره، أو التأسيس للوجود بما هو وُجود، لا بما هو «آلة»، وفق تعبير الفارابي، الفيلسوف العربي الذي اعتبر الوُجود بالآلة، هو لا وُجودَ، أو هو افتقار الإنسان لإنسانيته، ليصير وجوداً خارج الوجود، وهو ما عبَّرْتُ عنه، بخروج الإنسان من جلده، ومن نفسه، أي خروجه من بشريته التي هي ما يمنح الوجود معناه، ويجعل، من اللغة بالتالي، هي إعادة تفكير الوجود بالشِّعر، أي تفكيره بالجمال، وباستعادة الإنسان لشرطه الإنسانيّ. كثيراً ما أتأمَّل ما يقوم به الطبيب، والمهندس، والتقني، وغيرهم، ممن احتكموا في عملهم إلى «الآلة»، أو إلى توظيف المعرفة بالتكرار، فأتساءل عن معنى أن يكون الإنسان خالياً من التَّجديد، ومن الابتكار، ومن النَّظر إلى الحياة باعتبارها انتقالا، وصيرورة، لا باعتبارها اجترارا واستعادة، كما أتساءل عن معنى أن يعيش هذا الطبيب على نفس الوتيرة، ولا يفتح مهنته، وفكره، على السؤال، أو قلق السؤال والمعرفة. الطبيب، النَّاجِح، هو من يكون شاعِراً، أو فناناً، في مهنته، وهو ما ينطبق على المُدَرِّس، وعلى الميكانيكي، وعلى السياسي، وعلى المهندس، والتقني. فمن لا يسْتَلِذُّ الموسيقى، ويُدْرِك ما تختزنه في قاعها من انشراح، ومن توليد للمعاني والدلالات، لا يمكنه أن يُدْرِك، ما يختزنه الشِّعر في صوره، وإيقاعاته، من كثافة، وعُمْق، وبُعْد نَظَر. نفس الشيء يمكن تعميه على السوسيولوجيا، وعلى الأنتربولوجيا، وعلى الفلسفة، وعلم النفس، فهذه كلها علوم ترتبط بالإنسان، وبحياة ووجود الإنسان، وحين نفكر، أو نعمل، دون أن يكون الإنسان حاضراً في عملنا، وفي فكرنا، هذا معناه أنَّنا نُفَكِّر في الوجود خارج كينونته، أو نفكر في الوجود باللاَّمَوْجود، أو سنكون مثل من يبني بيتاً لتسكُنَه الأشباح، أو لا نوافذ، ولات أبواب فيه، أو بعبارة أخرى، لا داخِلَ إليه، ولا خارج منه. التفكير في الوجود، هو تفكير في الموجود، هو تفكير كينونة الكائِن، وما تحتمله هذه الكينونة من دلالاتٍ، ومعانيَ. لا وُجود دون موجود، الوجود بدون لغة، هو وجود بدون إنسان، بدون فكر، وبدون شعر، وبدون فلسفة، وبدون جمال. فاللغة، هي التعبير الذي أتاح للإنسان أن يخرج من نفسه ليعْبُر إلى نفوس وعقول الآخرين، ولِيُدَوِّن وجوده على الأرض، لا ليعيش على إيقاع الغَيْب، رغم أنَّ الغيْبَ نفسَه، هو تفكير الغَيْب باللغة، أي بهذه الكُتُب التي نزلتْ من السَّماء، لِتَكْتُب شَكْل الوجود كما تراه، أو كما تريده، وترغب فيه. لن أخرج من جلدي، لأنني، وأنا أكتب، أُفَكِّر في وجودي، وما يقتضيه هذا الوجود من فكر، وشعر، وجمال، لا ما يقتضيه هذا الوجود من تَمْكِينِ، أو مكْنَنَة الإنسان، بدل أن يكون كائناً، بشرط كينوته، أو بشرطه الإنساني، الذي يَنْأَى به عن الآلة، التي هي مجرد أداة، ومجرد شيء، وجوده، أو شَيْىئِيَته، لا معنى لها دون هذا الإنسان، المبدع، الخالِق، المبتكر، الذي وُجِد لِيُضيف، لا لِيُعيد، ويستعيدَ، أو يكون أداةً، تسير بغيرها، لا بذاتها.