رئيس الحكومة يترأس الاجتماع الأول لمجلس إدارة الوكالة الوطنية للدعم الاجتماعي    الحكومة تشكل لجنة قيادة ولجان موضوعاتية لتفعيل قانون العقوبات البديلة    ارتفاع طفيف في أداء بورصة البيضاء    فيتو أميركي في مجلس الأمن على مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة    هذه تفاصيل اجتماع سلطات الدار البيضاء مع الرجاء والوداد بخصوص "ديربي" الذهاب والإياب    تلميذ يفارق الحياة في طنجة بعد تعرضه لطعن من زميل له    "حزب الله" يتوعد بقصف "وسط تل أبيب"    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الأربعاء    تفاصيل نجاة فنانة مصرية من الموت    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    أخبار الساحة    ""البيجيدي" يدعو مجلس المنافسة للتحقيق في شبهة تواطؤات بسوق الدواجن والبيض    رئيس موريتانيا يهنئ الملك بعيد الاستقلال    شركة يابانية تختار طنجة لتشييد أول مصنع لها في إفريقيا    رئيس الحكومة يترأس اجتماعا لمناقشة تفعيل قانون العقوبات البديلة    المداخيل الجبائية ترتفع في الجماعات    الخطوط والألوان في لوحة للفنان التشكيلي عبد الكريم بنطاطو    منظمة الصحة تصدر ترخيصا لأول لقاح لفيروس جدري القردة للأطفال    نادال مودعا ملاعب التنس: " أريد أن يتذكرني الناس أنني كنت شخصا طيبا قادما من قرية صغيرة قرب مايوركا"    طفلة تسائل الحكومة عن تسول الأطفال الذي يمس بسمعة المغرب قبل تنظيم المونديال    المغرب يطمح لدخول قائمة أفضل 15 وجهة سياحية عالمياً بحلول 2030    الجناح المغربي في مؤتمر (كوب 29): واجهة للتعريف بإنجازات المغرب في مجال المناخ        الفنان حسن الدالي بحصل على 5 نجمات في البرنامج الفني ستارلايت ويواصل التباري من اجل الدخول الى عالم أضواء النجوم        الشامي: 8.5 مليون مغربي ما زالوا خارج التغطية الصحية والقطاع الخاص يلتهم نفقات العلاج    تلاميذ مغاربة يحرزون 4 ميداليات في أولمبياد العربية في الراضيات    الجامعة تُهنئ نادي الجيش الملكي بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا للسيدات    سيناتور أمريكي يدعو لإنهاء تواطؤ بلاده في الإبادة الإسرائيلية بغزة    إلياس المالكي يعود إلى السجن..    "الهجرة السرية" تستنفر درك الجديدة    المجلس الاقتصادي: متوسط كلفة مريض في القطاع الخاص تفوف نظيره بالقطاع العام خمس مرات    حوادث تخلف 36 قتيلا في مدن المغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    أزروال يواصل تحفيز ودعم لاعبي المغرب التطواني للعودة من ديربي الشمال بانتصار    محاميان مغربيان يطالبان بإعتقال ومحاكمة نتنياهو بتهمة الإبادة الجماعية في غزة    السفارة المغربية ببلجيكا والقنصلية العامة بأنفيرس تنظمان حفل استقبال بمناسبة عيد الاستقلال    نقابة تعليمية تطالب بإسقاط الأحكام القضائية ضد أساتذة    زيلينسكي يحذر من أن بلاده "ستُهزم" إذا قطعت عنها واشنطن المساعدات العسكرية    إغلاق مئات المدارس بسبب التساقطات الثلجية القوية بالمملكة المتحدة    وقفة احتجاجية بالرباط للتنديد بالإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة        المنتخب الوطني لمواليد 2000 فما فوق يتعادل مع المنتخب الإيفواري في بنجيرفيل    الطريق السريع تزنيت–الداخلة.. شريان تنمية جديد للصحراء المغربية أبهر العالم    بسبب "فضيحة" عقد 62 مليون سنوياً مع فندق.. حماة المال العام يطالبون النيابة العامة بالتحقيق مع الميراوي    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    أوكرانيا تستخدم صواريخ "أتاكمس" الأمريكية في ضرب الأراضي الروسية..    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    ليدي غاغا سحبت قبالة واحدة من أفضل عروض الوقت الحقيقي من أي وقت مضى    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدبُ فِي خَطَر !
نشر في المساء يوم 23 - 12 - 2015


صلاح بوسريف
هذا العنوان، هو نفسُه، عنوان كتاب تزفيتان تودوروف، الذي فيه كان يَجُرُّ ناقوسَ الخَطَر إزاء ما يجري في المدارس والجامعات، من تَقَلُّص مساحة المُقْبِلين على الأدب، علماً أنَّ الأدب، جرتْ في نهره، وفي حقوله المختلفة، مِياهٌ كثيرة، ولم يَعُد هو الأدب نفسه الذي هاجَمَه وزير التعليم العالي، من حزب «العدالة والتنمية»، الذي ازْدَرى شُعَبَ الأدب، واعْتَبَر الأدب لا يصلُح لشيء. فهو اكْتَفَى، فيما قاله، وفي أكثر من مناسبة، بأنَّنا في المغرب، نحتاج للتقنيين، ولم يقُل العُلماء. وهذا فيه فرق كبير.
وزير التعليم العالي يرفض الخيال والعَقْل، ويُريد الآلَةَ والأداة. لا يُرِيد من يُفَكِّر وينتقد، ولا يُرِيدُ من يكون له وَعْيٌ نقدي، كما كان أكَّد الملك هذا في أحد خطاباته، وهو يتحدَّث من «مأساة» التعليم في المغرب. لا فلسفةَ، ولا علم اجتماع، ولا أنتربولوجيا، ولا علم نفس، أي كل ما يمكنه أن يخلق الحرية في الفكر، ويسمح بالمُساءلة، وبالنقد، وبالتحليل، والتفكير، وليس الإنسان التَّابِعَ، أو الآلة، الذي نقودُه، كالأعمى، دون أن يكون له حق في رؤية الشمس.
يقول تودورف: «لو ساءلتُ نفسي اليوم لماذا أحب الأدب، فالجواب الذي يتبادر عفوياً إلى ذهني هو: لأنه يُعينُني على أن أحيا»، فهو «يُوَسِّع من عالمنا، ويَحُثُّنا على تخيُّل طرائق أخرى لِتَصَوُّرِه وتنظيمه». ف «الأدب يفتح إلى اللانهاية، إمكانية.. التفاعُل مع الآخرين، وهو إذن، يُثْرِينا إلى اللانهاية».
هل من معنى للحياة، للوُجود، وللعقل، والإنسان بدون أدب، السيد وزير التعليم العالي؟
هل تعرف أنَّ أوَّل ما كَتَبَه الإنسان كان أدباً: «ملحمة جلجامش»؟ وهل تعرف أنَّ الخيال، فيما تُؤَكِّدُه كثير من نظريات المعرفة، هو الأساس في العقل، والفكر العلمي؟ وأنَّ «القرآن» هو كتابٌ آسِرٌ في أسلوبه، وأنَّ إعجازَه يوجد في لغته، التي خلقت أفقاً آخر للإنسان، في النظر إلى الحياة والوجود؟
الكُتَّاب والفلاسفة والشعراء والنقاد، الذين يقولون كلامهم في هذا السياق، لا يوجدون خارج الأدب، بل هم عقول، وأخيلة صنعها الأدب، فهل نضعُهُم في سجن التقنية، ونغلق باب المعرفة والحياة، يا معالي وزير التعليم؟
لا نريد جواباً، بل نُنَبِّه إلى ما اسْتَشْعَرْتَه من خَطَر في الأدب، وأنت تزدريه، لِتُسْكِتَ صَوْتَ الخَطَر فيه.
الخطر في الأدب
عبد الرحيم الخصار
كان فرانز كافكا يردد هذه الجملة الشهيرة : «كل ما ليس أدبا يقلق راحتي، وأشعر تجاهه بالكراهية». هل كان كافكا مهووسا بالأدب إلى هذه الدرجة؟ هل كان إيمانه بالكتابة أعلى من الجميع؟ هل ترسّخ لديه أن الأدب قد يكون معادلا موضوعيا للحياة أو بديلا عنها؟ بعبارة أكثر عمقا: هل كانت الحياة عند كافكا هي الأدب؟
إن الجواب عن سؤال كهذا يبدو أكثر وضوحا كلما تذكرنا أن كافكا لم يترك رفّا من الكتب، لم يغن خزانة العالم بمؤلفات كثيرة، وإنما بصفحات قليلة، صار كافكا أسطورة القرن الماضي والحاضر. وإذا كان كافكا عميق الإيمان بالأدب، فهل كان يؤمن أيضا بتأثير هذا الأدب؟ ما كتبه هو وما كتبه كبار وصغار الكتّاب في الجهات الأربع لهذا العالم، هل أثر في الكائنات التي تتلقاه؟ هذا الحشد من الروايات والمسرحيات والأشعار، هل غيرت شيئا في عالمنا؟ هل غيرت مشاعر الناس وأفكارهم؟ ما تأثير الأدب في حياة من يتلقى الأدب؟
لعل الكثيرين سيطرحون هذا السؤال: «ماذا كان سيقع للعالم لو لم تكتب كل هذه القصص والقصائد؟ وهل كانت الحياة ستغدو مستحيلة بدون أدب؟»
سنعود إلى الماضي القريب لنجد تعريفا للكاتب المصري أحمد هيكل، الأكاديمي الذي سبق له أن شغل منصب وزير الثقافة في مصر. يقول مؤلف «تطور الأدب الحديث في مصر»: «ليس الأدب مجرد كلام جميل، مختار اللفظ، محكم العبارة بليغ الصياغة، وإنما الأدب تعبير جميل بالكلمات عن تجربة صادقة، قادرة على التجاوز إلى الآخرين». طبعا تعريف كهذا لا يخلو من ذلك الطابع الكلاسيكي الذي يجعل هذه النظرة للأدب نظرة متجاوزة، فالأدب ليس بالضرورة كلاما جميلا، فعدد هائل من الروايات الحديثة تحاول التملص من الوقوع في «الكلام الجميل مختار اللفظ»، وبالتالي سيصعب، حسب هذا التعريف، تصنيف رواية جاك كيرواك «على الطريق» في خانة الأدب، لكن عبارة دقيقة توجد في هذا التحديد لمفهوم الأدب «التجاوز إلى الآخرين». إن رواية «على الطريق»، التي لم يكن كاتبها يختار الألفاظ التي يكتب بها ستؤثر بشكل كبير في الحياة الواقعية بأمريكا. إنها سترفع مبيعات ملابس الجينز، وستجعل ملايين الأمريكيين يتخلون عن كل السراويل التي ليست جينزا.
لا يمكن إجمالا أن ننفي عن الأدب وظيفته التأثيرية، فمنذ عهد هوميروس والشعر- أعرق أشكال الأدب- يمارس هذا السحر. إن قصائد صاحب الإلياذة والأوديسة كانت تركز على البعد الدرامي للكتابة، وبالتالي كانت تحرك المناطق الهادئة في الوجدان الإنساني، فلطالما رأى كل واحد ممن قرأ ملحمتي هوميروس أنه صار عليه لزاما أن يصير أحد أبطالهما. وفي الأدب الحديث لا يستطيع قارئ «زوربا» لنيكوس كازانتزاكيس أن يمر على الرواية دون أن تخلف فيه تأثيرا واضحا، لكن درجات التأثير طبعا ستختلف حسب سياق التلقي وحسب المكونات النفسية لكل قارئ، فقد تذكي في نفس أحدنا قيم الخير والتعمق في فهم الذات، وقد تدفع آخر إلى اعتزال العالم والتوحد في خلوة تشبه خلوة البطل في جبل أثيوس باليونان.
إن أعمالا أدبية كثيرة حوّلت وعي الناس وغيرت قناعاتهم، ويكفي أن نقف مثلا عند الأدب الروسي في فترته الأكثر توهجا. إن تأثير هذا الأدب امتد إلى العالم برمته، وساهم في تحريك عجلة تقدم هذا العالم عبر تحفيزه نحو الإعلاء من قيمة الإنسان وجعله يطرح أسئلة جديدة لم يكن يطرحها من قبل، تتعلق بمصيره وبجدوى حياته وبوظيفته داخل هذه الحياة. نصوص كثيرة أثرت بشكل مباشر فيمن يتلقاها، نستحضر مثلا الكتابات ذات الطابع النضالي والتحريضي وما يندرج ضمن مسمّى «أدب المقاومة» كقصائد بابلو نيرودا وكاميليو ولويس أراغون ومحمود درويش ومظفر النواب وناظم حكمت وأرنستو كاردينال وفريديريكو غارسيا لوركا وغيرهم .
ستركض سلطات ميتاكاس في اليونان سنة 1936 وراء قصيدة «المرثية» ليانيس ريتسوس من أجل إحراقها ومنعها من الوصول إلى الناس. لقد كانت تعرف مدى تأثيرها فيهم، فقصيدته جاءت كردّ على النيران التي أطلقها الفاشيون على عمال التبغ المضربين في تيسالونيكا.
إن قصائد ألكسندر بوشكين، مثلا، ومسرحياته كانت تصل إلى قلوب الناس قبل كلمات القيصر، وكانت تفعل فيهم ما لا يفعله طابور طويل من الجنود. إن روايته «دوبرفسكي» التي لا تتجاوز مئة صفحة، والتي تصنف كواحدة من أهم التحف في خزانة الأدب الروسي، أسهمت بشكل واسع في تحويل الهادئ والراكد في النفس البشرية إلى جيشان. لقد جعلت شباب روسيا يعيد النظر في علاقته بالطبقة الإقطاعية، وفي التفكير في إعادة ترتيب أثاث الغرفة الروسية، وتغيير بنية هذا المجتمع المغلف بالظلم والاستبداد. ولذلك حين بدا للإمبراطور أن بوشكين سيجعل الشعب يثور ضد نظامه القمعي فكر في نفيه إلى سيبيريا، تدخل وسطاء ومقربون ليحولوا دون هذا النفي، غير أنه سيتم التخلص من بوشكين عبر المؤامرة الشهيرة التي دُبرت له سنة 1838. ثمة أمثلة كثيرة لشعراء وكتاب كان مصيرهم الموت أو السجن أو النفي بسبب الخوف من كلماتهم، والخوف أكثر من تأثير هذه الكلمات.
دعونا نعود إلى كافكا، بعيدا عن الأدب الذي كان يوجد في مواجهة السياسة. ثمة أدب مهمته هي مواجهة الآخر، «رسالة إلى الوالد» هي واحدة من روايات كافكا ينتقد فيها تسلط الأب، ويحاكمه لكونه سببا فيما يحمله من عقد وأمراض داخلية، فهو الذي جعله يشعر دائما بالفشل والعجز والضعف والدونية. إن قارئ هذا العمل سيستحضر بالضرورة تاريخ علاقته بالمؤسسة الأبوية، وستكون بالتالي «رسالة إلى الوالد» سببا في ثورة الكثيرين على آبائهم وأفكارهم الميتة.
هذه الرواية ستساعدنا على فهم رواية أخرى للكاتب أكثر شهرة منها، أقصد طبعا عمله الرائج «المسخ» الذي كتبه في عامه الثالث والعشرين، حيث يريد البطل غريغوري سامسا أن يتحول إلى حشرة. لقد صارت الرغبة في التحول إلى حشرة موضة ورغبة فئة كبيرة من شباب العالم في القرن الماضي، بسبب الإحساس باللاجدوى جرّاء ما يعانيه الفرد من إهمال وتخلّ وتهميش ونكران من طرف الجماعة، وقبل كافكا لا أحد يستطيع أن ينسى ما فعلته «آلام فرتر» للألماني يوهان غوت، بعشاق الماضي، أولئك الذين يصطدمون في الطريق إلى محبوباتهم بجدار اسمه الزوج.
إن رواية «المطر الأسود» للكاتب الياباني ماسوجي إيبوزي عن هيروشيما ستكون أكثر تأثيرا في النفس البشرية من كل التقارير الصحفية التي كتبت عن هذه الكارثة الإنسانية، إذا استثنينا طبعا ما كتبه الصحافي الأمريكي جون هيرسي، الذي استفاد في كتابة تحقيقه من تقنيات السرد. تحكي رواية المطر الأسود قصة الفتاة ياسوكو، التي اعتقد أهلها أنها نجت من إشعاع القنبلة بسبب وجودها بعيدا عن مكان الحدث، غير أن أمطارا مسمومة ستنزل على القرية بعد فترة من سقوط القنبلة ستحول حياة ياسوكو وعائلتها إلى جحيم. ثمة أحداث موجعة وأسلوب مؤثر لا يبيح لقارئ الرواية أن ينتهي منها دون تعميق روح الكراهية والرفض لكل القوى التدميرية في هذا العالم.
إن وظيفة الأدب، حسب أنطونيو غرامشي، هي التأثير في الآخر. وحين يتوقف هذا الأدب عن مهمة التأثير يتوقف عن كونه أدبا. سيتبنى النظرية الغرامشية مفكرون جاؤوا بعده أمثال ديفيد هارفي وإدوارد سعيد وميشيل فوكو ونعوم تشومسكي.
مهمة المثقف، حسب النظرية الغرامشية، هي الالتحام ب»الجماهير» وتبني قضاياها، غير أن هذا الأمر سيجعل الكاتب يرتدي لباسا فضفاضا عليه، ذلك أن مهمة المثقف لم تعد بالضرورة هي التكلم باسم الجماعة، لقد صار الكاتب في الأدب الجديد غالبا صوتا يمثل نفسه فحسب ويمتلك مشروعيته من فردانيته، ويعمل جاهدا على أن يمحو عنه كل طابع جمعي أو مهمة تنويرية. لكن يوكيو ميشيما، بالمقابل، كان يقول: «لنؤثر قليلا في التاريخ». إنه هنا يتجاوز عتبة التأثير في الآخر ويدرك أن الأدب قادر أحيانا على التأثير في مجرى نهر العالم. ربما تكون نظرة طوباوية، لكنّ العيون التي كانت تصدر منها هذه النظرة لم تكن عينا كاتب عادي، فميشيما كان له دور كبير في تعميق إيمان اليابانيين بضرورة العودة إلى الجذور اليابانية وعدم الذوبان في النموذج الغربي الراهن.
الروائي كارلوس فوينتس سيخصص وقتا هاما لتأليف كتاب يحاول من خلاله إقناع الأمريكيين من أصول لاتينية بضرورة إسقاط نظام الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش. لقد كان يدرك أن كلمة الكاتب – تحديدا في المجتمعات التي تقرأ الكتب – لها أثر خاص يتجاوز أحيانا أثر منافسَيْه: رجل السياسة ورجل الدين. حين سئل الكاتب الإسرائيلي آساف غافرون عن تأثير الأدب في السياسة قال: «أعتقد أنَّه لا يؤثر في السياسة، سيكون من السذاجة بمكان أن نعتقد أنَّ الأدباء يمكنهم أن يغيِّروا العالم»، لكنه يستطرد: «غير أنَّ هناك تأثيرًا على الرأي العام.. أنا أعتقد وبكلِّ تأكيد أنَّ الأدب يستطيع التأثير في الناس».
لكن الكاتبة أناييس ناين ستعود بنا إلى هواء كافكا الأول «كل ما ليس أدبا يقلق راحتي»، حيث سنجدها تقول: «يحتاج الآخرون إلى الثياب والموسيقى واللعب على القيثارات والرسم بأقلام الفحم أو الألوان المائية، يحتاجون إلى اللعب بالكلمات وممارسة ألعاب الفن، يحتاجون إلى الخبز، ولكنني في الواقع أريد التخلي عن كل المتع التي نلتها في حياة الترف، أريد التنازل عنها مقابل المتع الرائعة التي توفرها لي حياة الإبداع والمنجزات الفنية التي تؤطر حياتي».
إن الأدب هو الذي يصنع إطارا لهذه الكاتبة ويحدد مسالك حياتها. إن الكتابة هي التي تعطيها مشروعية الوجود وجدواه، وعليه فالتأثير هنا فردي. إن حياة العديد من الكتّاب تغيرت فور وصولهم إلى أرض الكتابة، وإن هذه الكلمة الساحرة «أدب» جعلت كل كائن ابتلي بها «سدهارتا» مستقلا، ودرويشا زاهدا لا يتطلب من الخارج أكثر مما يتطلب من ذاته، جددت لدى البعض إيمانه بالحياة، وملأت غرف البعض بالمتع، وجعلت الكثيرين يكتشفون كنوزهم الداخلية، وقادت الكثيرين أيضا إلى الانتحار.
خطورة الأدب مستمرة وتأثيره كان وسيظل مسألة أبدية. إن الأدب إن لم يغير العالمَ، وإن لم يؤثر في الآخرين، إن لم يؤثر في قارئه، فهو في أقل الدرجات سيؤثر في كاتبه.
يكفيني قولك يكفوني
إدريس كثير
لقد ابتلينا بفئة من السياسيين الوافدين على المجال العمومي من التيولوجيا (علم الكلام واللاهوت) يتقنون الطنز (لا السخرية) ويتشدقون بأهمية العلوم الحقة والتقانة والوسائطية.. في حين لا يكفرونها ويسفهونها لكونها من إبداع الكفار.. جل أعضاء هذه الفئة تربى وتعلم وتثقف في جامعاتنا العلمية، في حين أفرغت إكراها وابتزازا من الفلسفة والعلوم الإنسانية والإبستمولوجيا.. فباتت الإشكالات العلمية، رياضية كانت أو بيولوجية أو من مسائل علوم الحياة والأرض، تجد لها أجوبة من السماء. آنذاك صح لهذا «العالم» «التيولوجي» أن ينتقل من التقانة إلى اللاهوت (سبحان الله العظيم) ويعود من اللاهوت إلى ناسوت التكنولوجيا، محبذا لها مثنيا عليها . لما تكبر وتجبر التيار الانتهازي داخل اليسار المغربي وتحمل مسؤولية تسيير البلاد، نجح في أمر مهم هو نقل السلطة من ملك قضى نحبه إلى ملك كل المستقبل أمامه. لكنه خسر كل الأمور الأخرى، ففشل مشروع الحداثة المغربية وفقد دعامته السياسية وانهارت كل الدعامات الأخرى، ومازالت تنهار يوما بعد يوم .
آنذاك انتقلت تلك الفئة، التي لم تعرف الفلسفة طريقا إليها، إلى تيار إسلامي، ضمن مد عقائدي، ليس وطنيا فقط، بل أمميا، واكتسب مصداقية سياسية وتدبيرية بدعم شعبي، جعلته يسير البلاد في شتى المجالات، من ضمنها التعليم العالي والبحث العلمي والأكاديمي . ضمن هذا السياق جاء تبخيس الآداب والعلوم الإنسانية أكثر من مرة، وطي هذه العقلية التيولوجية الانتقائية تم تحقير حتى العلوم القانونية والحقوقية والسياسية ..يبقى إذن التبجيل كل التبجيل للعلوم الحقة والطب والتكنولوجيا وجاراتها..المقصود بالجارات ليست الهندسة ولا الميكانيكا، وإنما التيولوجيا بشتى فروعها.
يراد لنا إذن أن نستبدل الآداب والعلوم الإنسانية (التي لا فائدة من ورائها) بالدراسات الإسلامية (التي فائدتها هي تربية الناس وضبط أخلاقهم) والانكباب على التخصصات العلمية (مستقبل الأمة). براغماتية هذا التوجه واضحة للعيان، تريد ربح السماء والأرض، ولا ترى فيما بينهما نبتة فائدة . والحال في «المابين» (البينونة) تكمن كل معضلاتنا: بين السماء والأرض، بين المجهول والمعلوم، بين الغائب والحاضر.. يوجد الإنسان. فأي إنسان نريد؟ التيولوجيا مهما تعصرنت وتأقلمت حتى مع العلم يبقى مطمحها العبد الخنوع الزاهد في متاع الدنيا، والعبد الضعيف صاحب الإيمان والتصديق. والعلم الحق المتخصص يفتقر دوما للتأويل وللإديولوجيا الطوباوية، وينتج بالتالي الأخصائي التقني. إقران العالم المتخصص بالعبد الضعيف يولد الدوغما، وجمعهما يولد التطرف. لقد كانت تيولوجيا المعتزلة رغم تقدميتها آنذاك (العقل قبل النقل، حرية الفرد، المنزلة بين المنزلتين) تيولوجيا لم تنسلخ من أفق كلام الله إلى أفق كلام الفلاسفة.. وخسرنا إرهاصات العقلانية العربية مع الكندي والفارابي..
حتى العبد الملحاح ملحاح في عبوديته لا في إنسانيته، لذا يجب الاهتمام بالإنسان (إكسي هومو)، والإنسان هو أولا وقبل كل شيء الآداب الإنسانية.
خارج الإجابات التيولوجية النمطية على المعضلات الإنسانية الكبرى (أصل الوجود، الموت، الحرية، المصير..) هناك مقاربات الآداب الإنسانية: الشعر، الفن، السينما، الرقص، الفلسفة. كل جنس من هذه الأجناس يقترح تصورا أو تصورات لمعضلاتنا العظمى، تارة يعتمد على الرؤيا والإيقاع، وتارة على اللون وما إليه، وتارة على الصورة واللقطات، وأحيانا يتم ذلك من خلال الجسد وشطحاته، وأحيانا أخرى من خلال المفهوم والاستشكال والتمثل.. ناهيك عن العوالم الخيالية للرواية والقصص والاستمارات السوسيولوجية والمقابلات التحليلنفسية ..
لعمري حضارة الأمم تقاس بهذه الفنون والمحتذيات. حضارة اليونان تجسدها الفلسفة، وحضارة الرومان تجسدها القوانين والتشريعات، وحضارة العرب يجسدها الشعر.. وتبقى التيولوجيا الاختيار الرديء في التعبير عن حضارة أمة من الأمم أقل بكثير من الإثنولوجيا والأنتروبولوجيا..لأنها شأن خاص، في حين الآداب الإنسانية شأن عام كوسموبوليتي .تنظيم العلاقات فيما بين الناس والعباد لا تكفي فيه الشريعة، إذ لا بد من القانون الوضعي. الشريعة هي أساسا علاقة الله بعبده، وهذا أمر خاص (لا رهبانية في الإسلام)، وما استنبط منها لتنظيم علاقات الناس والمواطنين هو للتيولوجيا، وهذه الأخيرة لا تفي بالغرض، لذا نستعين بالقوانين الوضعية، خاصة في علاقتنا بالأجنبي، وإلا ما معنى التسامح، وما معنى الاختلاف، وما معنى الاعتراف.. فلم تعد مقبولة ولا لائقة ضريبة الجزية لأهل الذمة وما شابهها.
تدبير المدينة لا يتم بالدين وإنما بالسياسة والسياسة لائكية. أردنا ذلك أم لم نرده. السياسة هي تدبير المصالح واستئصال الممكن من المستحيل، وهي فن التنازل والمناورة. السياسة لا ملة لها، وليس هناك من دولة إسلامية أو حزب إسلامي يمارس السياسة دون خلفيتها العلمانية (ميكيافلي)، والدول أو الأحزاب التي تتنكر لهذا المبدأ تمارس الهمجية أو الديماغوجية.. أجل لا بد من بعد روحي يطال كل هذه الأجناس والمواد، إلا أن البعد الروحي لا ينحصر في التيولوجيا ولا في الدين ولا حتى في التصوف.. هناك بعد روحي إنساني حر في شعر هوميروس، في شاعريته وبلاغته، وشعر جلال الدين الرومي في السماع والموسيقى، وهناك بعد إشراقي هرمسي في فلسفة ابن سينا، وبعد حيوي في فلسفة نيتشه.. يمكن للإنسان من خلال كل هذه الآداب أن يبدع أجوبة جديدة وتصورات عديدة للمعضلات التي تؤرقه ويمد جسورا بينه وبين السماء والغائب والمجهول والمتعالي.. فلماذا نضيق على أنفسنا ونخنقها وأرض الله واسعة؟
دفاعاً عن الأدب
نجيب العوفي
أستعير هذا العنوان، من عنوان كتاب شهير للكاتب والروائي الفرنسي جورج ديهاميل، نشره سنة1936، في فترة حرجة – ملغومة بين الحربين، استقْوى فيها الزحف الرأسمالي – الأمبريالي الآتي على الأخضر واليابس، واللّوّاح للقيم الإنسانية النبيلة والجميلة، وفي مقدمتها قيمة الثقافة والأدب. وثمّة كتاب بالعنوان ذاته «دفاعا عن الأدب» للكاتب الفرنسي كلود روي، ينحو المنحى ذاته ..بما يعني أن الفرنسيين مدافعون جيّدون عن الأدب، وهم أهل ثقافة وأدب، وأن الأدب أضحى، في الأزمنة الحديثة، في موقع قلق وحرج، تهبّ عليه رياح العصر بكل طارف وجديد، تزعزع مكانته وحصْنه التّليد ..مما اقتضى هذه الحملة الأدبية للدفاع عنه وردّ الاعتبار إليه .
وتبقى مرافعة ديهاميل التاريخية في هذا الصدد، عالقة بالذاكرة، لأنها تثير أسئلة حساسة وساخنة، ما يفتأ صداها قائما إلى الآن، في مشهدنا العربي بعامة ومشهدنا المغربي بخاصة..ولعل هذا ما حذا بالناقد المصري الكبير محمد مندور إلى ترجمة الكتاب في الستينيات من القرن الفارط .
أسوق هنا هذا العنوان – الدفاعي، والمناسبة شرط، بعد التصريح الهجومي الأخير لوزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، على الأدب، وجدوى الأدب، وخرّيجي الأدب، وكليات الآداب والعلوم الإنسانية ..معزّزا ومبرّرا هجومه ن بأن الدولة عاجزة عن استيعاب خرّيجي الآداب ،وكأن الوطن بما رحب، يضيق عن استيعاب خريجي الآداب، من حيث يتسع لاستيعاب باقي الخرّيجين، من كافة المِلل والنِحل الجامعية . وعجبا لهذا الميْز الجامعي – الجائر، محدودِ الرؤية والأفق .
حرام على بلابله الدّوح / حلال على الطير من كل جنس .وندع جانبا، الأخطاء اللغوية الفرنسية التي تلاها السيد الوزير من رسالة الطالبة..لأن التعليم المغربي في حدّ ذاته وبقضّه وقضيضه، أكبر الأخطاء – والخطايا للمسؤولين المغاربة، والسيد الوزير واحد منهم . وصدق القائل: «يُبصر أحدكم القذَى في عين أخيه، ويعْمى عن الجذع في عينه». هذا الهجوم على الأدب، ليس جديدا ولا مفاجئا، بل هو هجوم جديد – قديم، بل هو هجوم مستمر لا تهدأ رحاه، ولا يسكن صداه .وممّا يضاعف من وقعه، أن يصدر من أصوات ومواقع نافذة في الدولة، يُفترض فيها أن تكون في خدمة الوطن، ورعاية قيمه الرمزية والأدبية والوطنية . لكن يبدو أن المنطق البراجماتي – التكنوقراطي – النفعي، هو الذي يحكم باستمرار وإصرار الدولة، وبرامج الدولة، ورجال الدولة . والأدب، في ضوء هذا المنطق، لا يغني ولا يسمن من جوع .
إن الأدب والعلوم الإنسانية، بعبارة، غير مرغوب فيهما وغير مُحتفى بهما في المغرب الحديث –المعاصر، بل يُنظر إليهما دائما شزْراً، كبابٍ مشرع تأتي منه الريح .
والباب الذي تأتي منه الريح، اغلقه واسترح .
وليس ببعيد عن الذاكرة، ذلك الهجوم الضاري على الفلسفة في ثمانينيات القرن الفارط وفي الفضاء الجامعي بخاصة، لإخماد شعلتها التنويرية ولجْم صوتها النقدي، ممّا فسح المجال بعدئذ للسلفية –الماضوية لتكتسح المشهد الجامعي وتحتلّ قلاع الحداثة والتنوير ..وتعود بشبابنا – الطلاب إلى المستقبل الماضي، حسب عبارة عبد الله العروي .
وفي السياق ذاته، وعلى الإيقاع ذاته، جاءت بالأمس القريب، الحملة المغرضة – الصفيقة على اللغة العربية والدعوة إلى جعل العامية بديلا عنها في التعليم المغربي..هكذا بملء الفم وصفاقة الوجه والضمير.
وحقّا، إن البُغاث بأرضنا تسْتنسر . وإذا خلا لك الجو فبيضي واصفري /ونقّري ما شئت أن تنقّري. هي ،إذن، حلقات في سلسلة أخطبوطية – ماكرة، هدفها غسل الذاكرة وإفراغها، وتمييع الهوية ومسخها وإصابتها في مقْتل، عبر أكثر مناطقها حساسية وأهمية، وهي اللغة والأدب .واللغة مَسْكن الذات، والهوية، يقول الفيلسوف هايدجر . والأدب كان وما يزال، عبر العصور وعند الأمم المتحضرة، حامل وحامي القيم الرمزية ومستودع الرأسمال المعنوي للأمة .ومؤسسات الآداب والعلوم الإنسانية في العالم، هي ذاكرة الأمة، وضميرها النابض، وحسّها النقدي اليقظ، وحارس لغتها وثقافتها، ومعْقد التواصل والاستمرار بين الأجيال، بين الأسلاف والأخلاف .
إن الأدب ثابت من ثوابت الأمة (من الركائز الثابتة الضاربة في الوجدان) .والعِلْم متحوّل من متحولات الأمة (من الركائز المتحولة المتغيرة مع الزمان). وكِتابُ التاريخ مفتوح أمامنا، يقدّم الحجة والبرهان. وأضرب هنا مثالين: فهذا العصر اليوناني – الهيليني، أمسى في خبر كان ..لكنه حضاريا وأدبيا حاضر باستمرار، من خلال رموز فلاسفته وشعرائه وأدبائه الأفذاذ .وهذا العصر الجاهلي عربيا، بعُجَره وبُجَره، كما قيل، أمسى هو الآخر في خبر كان. لكنه أدبيا، ما يزال حاضرا زاهرا، من خلال شعرائه ومعلّقاته وقصائده .
لِقائل – معترض هنا أن يقول، إن في هذا الكلام بكاءً على الأطلال، وحنينا نوستالجيا إلى ماضٍ ولّى .والحال الآن غير الحال .
لكن العبرة هنا كامنة في هذه القدرة الخارقة للأدب على اختراق العصور، وصوْن الذاكرة والوجدان .ولا جدال في أن مستوى التعليم بمدارسنا وجامعاتنا، أصبح مُضْغة في الأفواه .ولا دخان بلا نار . والذي ينُوء ويبُوء بأوزار هذه الحال المتردّية، على امتداد العقود والسنوات العجاف التي تعاقبت على على تعليمنا المترنّح الشقي، هم بالدرجة الأولى، المسؤولون – القيّمون عن هذا التعليم، الموجّهون لدفّته، والرّاسمون لخرائط طريقه.. وهم أساسا، لا علاقة لهم إطلاقا بالمشاكل الحقيقية – والجذرية للتعليم.. ولا تربطهم صلة بشؤون الفكر والثقافة والأدب . وإذا أُسندت الأمور إلى غير أهلها، فانتظروا قيام الساعة (ساعة التردّي والانحطاط وبئْس المصير) كما نعاين الآن، ونعاني منه . وليس أخطر على الأمة من معاول الهدم تُوجّه إلى أهم معاقلها وقلاعها الرمزية والمعنوية .
وعودة إلى جورج ديهاميل، الذي افْتتحتُ به هذه السطور، لأجعل منه خاتمة لهذه السطور . ذلك أن ملاحظاته القديمة في الدفاع عن الأدب، تكاد تنسحب بالتمام والكمال، على واقعنا الثقافي – الراهن، الملتبس البئيس .. وما أشبه الليلة بالبارحة . ما أحوجنا في غمرة هذا الطوفان الإعلامي – الإلكتروني العارم، وفي غمرة هذا المَتاه الروحي واللغوي والأدبي، إلى استعادة بعض تأملات وتوجّسات جورج ديهاميل .تأملاتٌ وتوجّساتٌ، كانت تحدس وتُحس بالنّذر الأولى لأزمة القراءة والكتاب، التي هي أحدُ تجليات أزمة الأدب، ومصير الأدب . عند ديهاميل ليس ثمّة مكان مريح في العالم من دون كتب. وهذا يذكّرنا بالقولة الطريفة والدالة للعقاّد: «إذا لم يكن في الجنة مكتبة، فأنا زاهد فيها». يقول ديهاميل في ذلك اليوم البعيد من ثلاثينيات القرن الماضي: «تمسّكوا بالقراءة واحذروا الراديو إذا أردتم أن تثّقفوا أنفسكم».
كان ذلك أيام زمان .فما قولنا الآن، في العشرية الثانية من الألفية الثالثة، حيث الفضاء الثقافي – الإعلامي» برج بابل» جديد بأزرار إلكترونية؟
هنا بالضبط، تتضاعف الحاجة إلى الأدب، ومؤسسات الأدب .ويستطرد ديهاميل، في نبرة رثاء: «كلما رأيت مكتبة تفلس أو قاعة قراءة تُغلق أبوابها، قلت إنها ..هزيمة للروح». وإن ما نسمعه الآن، وما نراه، وما يُحاك للغتنا العربية، وآدابنا وعلومنا الإنسانية، وذاكرتنا، وهويتنا، من مؤامرات ومناورات في السرّ والعلَن، يجعلنا مُشرفين على ما أسماه ديهاميل «هزيمة الروح».
أستعيد هنا، وعلى الشّجَن ذاته، كلماتٍ مُضيئات لأديب العربية أحمد حسن الزيات، في وصف حال الأدب وضرورته: «وحال الأدب مقياسٌ صحيح لحال الشعوب، فحيثما كثر علاجه ووفَر نتاجه ونبُل غرضه، دلّ على سموّ الروح ولطف الحس وشرف العاطفة وقوّة الإنسانية .أما نكد الخواطر وخَدر المشاعر وجدْب الخيال واجْتواء الأدب (أي كرهه) فهي أمراض المادية وأعراض الحيوانية وشواهد البلادة وآثار المنفعة». وكذلك هي الحال . في تراثنا العربي، قولة أدبية مأثورة: أدركتني حرفة الأدب) بضمّ الحاء). والحُرفة لغة، هي العوَز وسوء الحظ .
وهي الحُرفة – الحُرقة التي قال فيها الشاعر:
مالي خمَلتُ وضاع مُكتسبي /هل أدركتني حُرفة الأدب؟
وكأن هذه اللعنة مكتوبة على جبين الأدب..وملازمة لأهله وبنيه على الدوام .
إلى إشعار أدبي آخر..في طيّ الغيب .
ولا كرامة لنبي، وحكيم، وأديب، في قومه .
ضرورة الأدب
عبد الله شريق
يتوهم بعض التكنوقراطيين أن العلوم والصناعة والتكنولوجيا وما يرتبط بها من علوم تجريبية هي وحدها التي يمكن أن تحقق التنمية والرقي للإنسان والمجتمع لما لها من فوائد مادية مباشرة في الحياة، وما تحققه من إنجازات وتغييرات ملموسة في الواقع المادي المباشر للإنسان، وأن الأدب مجرد تخيلات وأحلام، ولا علاقة له بواقع وحاجيات الإنسان التنموية ولا يحقق منافع ملموسة للمجتمع. والدراسات الأدبية والثقافية والعلوم الإنسانية ترف ذهني ونظريات لا تحقق أي منفعة مادية..لذلك ينبغي إعطاء الأولوية والأهمية في التربية والتعليم للعلوم البحتة والهندسة والتكنولوجيا، والتقليص من دراسة الآداب والعلوم الإنسانية في البرامج التعليمية المدرسية والجامعية. وغير خاف على القارئ النبيه قصور هذا التصور وخطورته، لما ينطوي عليه من جهل بالتاريخ والمجتمع والإنسان وطبيعة التنمية، لأن الإنسان لا يعيش بالعلم والتكنولوجيا وحدهما، فهو ليس جسدا بحتا وليس آلة، بل هو كائن متميز مركب متعدد المكونات والأبعاد…والتنمية عملية شاملة لا تتحقق بالإنجازات المادية والأنشطة الاقتصادية والصناعية فحسب، بل هي عملية شمولية مرتبطة بجوانب وشروط متعددة، متقاطعة متشابكة ومتعاضدة..أولها التنمية الثقافية للإنسان أولا..فبدون تنمية ثقافية وأدبية للإنسان والمجتمع لا يمكن أن تقوم تنمية اقتصادية أو صناعية أو اجتماعية حقيقية وناجحة. وقد أثبت التاريخ أن كثيرا من مشاريع التنمية والإصلاح والنهضة في العالم الثالث ودول العالم العربي فشلت بسبب افتقارها إلى هذه الرؤية الثقافية الشمولية وإهمالها أو تهميشها للعامل الثقافي والتاريخي والأدبي. والذي يمكن أن يقوم بدور هذه التنمية الثقافية ونشر الوعي الثقافي هي الآداب والفلسفة والعلوم الإنسانية والدراسات الثقافية وليس العلوم التجريبية. الأدب، في مختلف أجناسه وأشكاله، نشاط فني ومعرفي إنساني مشترك بين جميع الأمم والشعوب. كان ولا يزال ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية إلى جانب أشكال ثقافية وفنية أخرى مثل الموسيقى والغناء والرقص والتمثيل والرسم وغيرها… يتميز بمخاطبة الوعي التخيلي الرمزي والوجداني في الإنسان، وبالتعبير بطريقة فنية ورمزية عن قضايا وحالات الإنسان والمجتمع والوجود، وعن مواقف وصور ومشاعر تعجز اللغة العادية ولغة العلم عن التعبير عنها. ويجعل الإنسان- المبدع والمتلقي – يتحرر من عالم الواقع المادي المحدود ليسمو بذهنه وخيالاته ومشاعره إلى مستوى الإدراك الفني، الرمزي والجمالي، لمظاهر ومواقف ظاهرة وخفية في الحياة والطبيعة والمجتمع. وإذا كان هذا النمط من الإدراك يتسم بالرمزية والغموض قياسا إلى الإدراك العقلي أو العلمي الذي يتسم بالدقة والوضوح، فلأنه إدراك خاص ومتميز يحقق لذة الكشف والإدراك العميق والباطني لظواهر الحياة والكون، ويجسد معاناة الإنسان وقلقه إزاء الغموض والغرابة، اللذين يكتنفان كثيرا من ظواهر الحياة وأسرارها وآفاقها… ويعبر عن أرقى وأسمى القيم التي كافح الإنسان، ولا يزال يكافح، من أجل تحقيقها في حياته: الحرية – الحب – الخير – الحق – الجمال العدل التسامح… الأدب ليس خيالا وعواطف فحسب أو لعبا باللغة كما قد يظن البعض، بل هو معرفة متميزة ونظرة خاصة للحياة والوجود والإنسان والطبيعة والمجتمع. معرفة من نوع خاص لها قوانينها ومميزاتها التي تميزها عن غيرها من الأنشطة الفكرية والعلمية. والإنسان في هذا العصر ما يزال في أشد الحاجة إلى الأدب لما يؤديه من وظائف إنسانية عميقة، روحية جمالية، وجدانية ووجودية، نفسية واجتماعية خاصة في حياة الإنسان، بطريقة خاصة ومتميزة لا يمكن أن تقوم بها العلوم التجريبية أو غيرها. ومن هنا تأتي ضرورة الأدب في حياتنا. نحن، في العالم العربي، في أشد الحاجة إلى الآداب والعلوم الإنسانية لمعرفة شخصيتنا ومجتمعاتنا وتاريخنا وتراثنا الثقافي والديني الذي تم تشويه حقائقه وطمس وجوهه المشرقة والمضيئة، ما أدى إلى انتشار تصورات ومواقف تتسم بالتعصب والتطرف والتخلف تسببت في حالة التردي التي نعيشها اليوم بسبب إقصائنا وتهميشنا للفلسفة والتاريخ والمواقف الفكرية العقلانية، التي يمكن أن تحصن شبابنا ضد تيارات التطرف والنكوص. فوائد الأدب ليست مادية مباشرة ولا يمكن أن تقاس بمقاييس الاقتصاد أو الصناعة والتكنولوجيا، لأنها فوائد داخلية أو باطنية تمس النفوس والوعي والسلوك والأذواق والعقول التي هي أساس نجاح النهضة والتنمية، ورحم الله عباس محمود العقاد الذي قال: «هات لنا الشاعر الذي ينظم قصيدة واحدة يحبب بها الزهرة إلى المصريين، وأنا الزعيم لك بأكبر المنافع الوطنية وأصدق النهضات وأهنإ مسرات المعيشة ومباهج الحياة، فإن أمة تحب الزهرة تحب الحدائق، وتحب التنظيم والتنسيق، وتحب النظافة والجمال، وتحب العمارة والإصلاح، ولا تطيق أن تعيش في الفاقة والجهل والصغار». صحيح أن الأدب يعاني اليوم بعض المشاكل والصعوبات بسبب قلة إقبال الناس على قراءة واقتناء الأعمال الأدبية. وهي ظاهرة أصبحت شائعة؛ نتيجة التحولات الحضارية الكبرى التي حصلت في هذا العصر، وخاصة مع انتشار وتنوع وسائل الإعلام والاتصال، المكتوبة والسمعية والبصرية، التي استقطبت العيون والآذان والعقول، فضلا عن طبيعة الحياة الاستهلاكية التي أصبحت تتعامل مع الثقافة والإبداع الأدبي والفني وفق قاعدة الفائدة والمنفعة المادية المباشرة. لكن مع ذلك يظل الإنتاج الأدبي والثقافي، بمفهومه الواسع، ضروريا للحفاظ على التاريخ والذاكرة واللغة والعلاقات والقيم الإنسانية، ولتوعية النفوس والعقول، ومواجهة سلطة المادة والآلة وحضارة الحديد والإسمنت والاستهلاك والاغتراب. «الأدب يستطيع الكثير. يستطيع أن يقودنا نحو الكائنات البشرية الأخرى من حولنا، ويجعلنا أفضل فهما للعالم (…). الأدب، مثلما الفلسفة، مثلما العلوم الإنسانية، هو فكر ومعرفة للعالم النفسي والاجتماعي الذي نسكنه. والواقع الذي يطمح الأدب إلى فهمه هو، بكل بساطة، التجربة الإنسانية. لذا يمكن القول إن دانتي وسرفنتيس يعلماننا عن الوضع البشري على الأقل مثلما يعلمنا أكبر علماء الاجتماع وعلماء النفس، وأنه لا تعارض بين المعرفة الأولى والثانية. ذلك هو «الجنس المشترك» للأدب».
السرغيني: إذا قُدِّرَ لي أن أكتُب شعراً «إسلامياً» سأكتُب شعراً فيه الإنْسِيَة الإنسانية
قال إن كل محاولة لتقعيد أو تثبيت البناء الشعري محاولة فاشلة
حاوره – صلاح بوسريف
غم بُلُوغِه من العُمُر عُتيّا، لا يزال يَقِظاً، يحْيا حياتَه بالشِّعر. لا يُؤمِن بالشيخوخة، أو هو يعمل بذكائه، وبمعرفته، التي لا أرْضَ ولا وَطَنَ لَها، على مُراوَغَتِها، بكتابةِ شِعْرٍ في جُرْأتِه وتجريبه، يفوق حماس كثير من الذين اسْتقَرُّوا في شكلٍ شعري واحد، لم يَخْرُجوا منه، أو أنه القفص الذي فيه سَكنوا، وأصبح الطيران بالنسبة لهم حُلُما بعيد المنال. محمد السرغيني، حين الْتَقَيْتُه، أصرَّ على أن نلتقي باستمرار، لأنَّ هُناك أشياء في الشِّعر والثقافة والفكر، لا بُدَّ أن نتبادَل فيها الرأي والحوار. لا تليق بهذا الرجل صفة شيخ الشُّعراء، التي هي صفة قاصِر، في كُل الحالات، بل إنَّه الشَّاعِر وكَفَى، وهذه الصفة هي بين أعز ما يُطْلَب.
- أريد أن أبدأ من أعمالك التي تكتبها اليوم، فأنت اخترتَ أن تكتب بطريقة، أسميها، في ما أكتبُه، ب»الكتابة الدينامية المفتوحة». فأنت لا تُجَنِّس كتاباتك، لا تُسمِّيها، علماً أنَّ القارئ يجد نفسَه مرتبكاً أمام هذه التجربة، التي تتداخل فيها كتابات بأنماط ومستوياتٍ مختلفة، أيضاً، وحتَّى اللغة، فأنت تُعَدِّدُها، فلا تكتفي بالعربية، وحْدَها، بل تستعمل الفرنسية والإسبانية. هذه التجربة، التي أنت فيها اليوم، هل يمكن اعتبارُها انتقالاً إلى مرحلة شعرية أخرى جديدة، أم أنَّك مقتنع بأنَّ الكتابة لا أرض ولا حُدود لها، وأنَّها مفتوحة على الرِّيح.
هذا يرجع، أساساً، إلى مفهومي للشِّعر، ذلك المفهوم الذي لا يُعِيرُ أدنى اهتمامٍ لكل المفاهيم السَّابِقَة التي يُقَدَّمُ الشِّعر معها على أساس أنَّه إبداع، يبتدئ مِنْ، وينتهي إلى. هذا من جهة، أما في ما يتعلَّق بما ذَهَب إليه كُلّ الذين يتحدَّثُون عن الشِّعر بأنَّ الكتابة الشِّعرية يمكن أن تَخْضَع لمجموعة من المعايير التي لم يدعُ إليها الشُّعراء أنفسهم الذين يُمارسون الكتابة، وإنَّما يذهبُ إليها من يُسَمُّون أنفسهم بالنُّقّاد، فأقول شخصياً إنَّك لا تستطيع أن تكتُبَ شعراً باللُّغَةِ وَحْدَها، أيّاً كانت هذه اللغة، إذ هُناك الألوان، والأشكال، والمُوتيفاتِ. ويمكن أن تَكْتُبَ شعراً بالصَّمْت، أيضاً، الذي تُعَبِّر عنه حركةٌ ما. أمَّا اللغة الشِّعريَةُ فهي لُغَات. وكُلّ الذين يُحاوِلُون أن يجعلوا الشِّعرَ في قُمْقُم، ويُغْلِقُوه عليه، إنَّما هُم أناس يتنكَّرون لِلشِّعر. وأنت تُحَاوِرُنِي قد تكون حركة يَدِكَ تُمْلِي عَلَيَّ، أنا المُخاطَب، عالَماً شِعرياً غير محدود، والسبب في ذلك أنّه إلى جانب اللغة، التي هي عمل محسوس، تُحَدِّدُهُ الحروف والكلمات والجمل، وغيرها، هناك لغَة الحَدْس. ولغة الحدس، هذه، حاول عدد من الشُّعراء الغربيين، بصفة خاصة، وقبلهم المتصوفة، وأهمُّهُم ابن عربي، استغلالها واسْتِبانَتها، لكنهم لم يستطيعوا أن يصلوا من وراء ذلك إلى فائدة كبيرة. وأنا أُؤَكِّدُ، في هذا المضمار، أنَّ اللغةَ الشِّعريةَ لُغات: لُغَة الحروف، ولغة الأشكال، ولغة المفاهيم. هذه اللغات، كاملةً، تجتمع، وتخْتلِط في ما بينها، فتنتهي إلى الشِّعر. وهذا ما يدفعُنِي إلى استعمال عبارات، أو جمل، أو فقرات باللغة الأجنبية، التي أستطيع أن أكتُبَ بها.
- أريد، أيضاً، أن أعود معك إلى مشكلة أخرى. فإلى جانب اللغة، وتداخُل الأصوات، وتداخُل الموتيفات، والألوان، والصمت، والبياض، وغيرها من الأشياء التي تشتغل عليها، إلى المُكَوِّن الثقافي، أو الفكري في عملك، تميل إلى التفكير بالشِّعر، والتفكير في الشِّعر، ثم إنَّك تُوَظِّف ثقافتَك، بمرجعياتها المختلفة. ألا ترى أنَّ مستوى اللغة من جهة، والمستوى الثقافي من جهة أخرى، يُصَعِّب على القارئ أن يَجِدَ فيك شاعراً يقبل قراءَتَه، وهو مُطْمَئِن لِما يَقْرأ؟
أنا أفترض، إجابة عن سؤالك هذا، أنَّ القارئ الذي يقرأُ الشِّعْرَ، مهما كان بسيطاً، ومهما كان واضحاً، يجب أن تكون له القدرة الكافية، والحب الكافي للشِّعر، لأن يقرأهُ في أغلب حالاتِه، ومهما كانت المُشْكِلات التي يطرحُها. ألا ترى معي أنّ كثيراً من الشُّعراء، حتَّى لو كان أفقهم المعرفي محدوداً، تستفزُّهُم الكتابة الشِّعرية في بعض الأحيان، فيخرجون عن نطاق ما هو مألوف. الخروج عن هذا المألوف هو الشيء الذي أتمنَّى أن أتوفَّقَ فيه. أفترضُ أنَّ القارئ الذي يقرأ ما أكتُبُه، مهما أغْرَقْتُ في الكتابة، له من القوَّة والحَصَافة ما يكفي ليَسْتَكْنِهَ النَّصّ، ولذلك فهذه المشكلة لا تشغلُنِي، أبداً، فأنا أكتُبُ مِمَّا أنا عليه، أو ما أنا فيه
- هذا يعني أنَّ القارئ الذي تتحدَّث عنه، هو قارئ تاريخي، هو القارئ الذي كنتَ تُدَرِّسُه في الجامعة، هو القارئ الذي كان يقرأ الشِّعر العربي القديم، وهو الذي قرأ الشِّعر الفرنسي والشِّعر الغربي، عموماً، سواء في لغته الأصلية، أو من خلال الترجمات، وهو القارئ الذي تمكَّن في الجامعة من أدوات التحليل والقراءة، ومن فَكِّ شفراتِ النصوص. لكن القارئ، اليوم، يجد صعوبةً في التعامُل مع اللغة، فكيف تريدُه أن يدخُلَ مَعَك إلى عالم مليء بالمعارف، وما تحمله خلفها من رموز ودلالاتٍ؟ ألا ترى أنَّ هذا يُضاعِفُ عزلة الشِّعر، علماً أنَّنِي أفعل بالنص نفس الشيء، وهذا جوهرُ ما أنا فيه من شعر اليوم، ولستُ معنياً بالوضوح، والإبانة.
مبدئياً، لا أكتُبُ من أجل إنسانٍ ذائقَتُه الشِّعرية ذات مستوًى معين، عالٍ، أو متوسط، أو بسيط. أكتُبُ أساساً من منطلَق ما أُريدُ أن يُكْتَبَ الشِّعْرُ به. كيف تسمح لإنسانٍ وافِدٍ مستواه المعرفي متوسط أو دون المتوسط أن يقرأ شعْراً، يزعُمُ أنَّه غامض، وهو لا يستطيع أن يُوَضِّح في كلامه وُجُوهَ غُموضِه. ثم ما المانع من أن يبلُغ الشِّعر مستوًى من المعرفة، تجعله يستقطب المعرفة الإنسانية، وكثير من الشُّعراء القُدامَى، مثل أبي تمام والمعري، كانوا أصحاب معرفة وتفلْسُفٍ في شعرهم. فلن تصِل كقارئ إلى هذا المستوى، الذي ذكرناه، في قراءة الشِّعر ما دام حَيِّزُك المعرفيّ مُخْتَنِقاً. في بداية علاقتي بالشِّعر، اتَّصَلْتُ بمدرسة المهجر، وأهم ما اسْتفَدْتُه منها أنَّ الإنسانَ يجب أن يأخُذَ حَيِّزاً كبيراً جِدّاً في المقولة الشِّعرية، فالإنسان الذي كانت تحلم به هذه المدرسة، إنسانٌ مُتسامِحٌ، إنسانٌ يكاد يكون نبياً. انفصالي عن هذه المدرسة وضعني أمام منطقة أخرى، سايَرَتْ مسيري الأكاديمي، وهي التصوف. بدأتُ أقرأ المتصوفة الذين كتبوا بالعربية، والذين كتبوا بالفارسية، وبالتركية، وبدأتُ أقرأ ما كُتِبَ عن هؤلاء بالفرنسية. اكتَشَفْتُ أنَّ بالإمكان استعمال إمكانيات لا حَصْرَ لها، تجعلُنا نتصوَّرُ الإنسان على كيفية ما، لم يسبق أن رأيناه عليها. هذا صادفَ ارتعاشات الأسئلة الأولى، ليبرز السؤال حول وضع الإنسان، باعتباره سَيِّد المخلوقات، ولكي يكون بهذا المعنى ينبغي أن يُعادَ إليه الاعتبار، وهذا الاعتبار هو اعتبار مِيسْتِيكِيّ، ثم اعتبار الوُجود الفعلي، بدل اعتبار الوجود التخييلي، ولعل المرحلة التالية هي مرحلة الصراع الدائم، الذي لا يزال مستمراً إلى اليوم، بين وجهات النظر اليسارية، ووجهات النظر اليمينية، ووجهات النظر الوسطية. وكلها لها حُجَجُها ودلائلها، ولكن اليسارية، في وَقْتٍ ما، هيمنت على كُلّ الأفكار، وتولَّدت من هذه الأفكار بعد ذلك الوطنية. الوطنية ليس بالشكل الجغرافي. فالوطنية تطوَّرت بعد ذلك، خصوصاً في جزئها الأيديولوجي، وجزئها النضالي.
- داخل هذا القلق والتوتر السَّائِدَيْن خلال هذه المرحلة، كيف كنتَ ترى وضع الشَّاعِر؟ وكيف كان وضع الشَّاعر، وأيضاً العلاقة بين الشاعر والإنسان؟
العلاقة بين الإيديولوجيا والشِّعر، أنَّ كثيراً من الشُّعراء، في مرحلة ما، انْتَسَبُوا إليها، وأوْهَمُونا بأنهم يتحرَّكُون في هذا الإطار، فبدأتَ تجد الشِّعر الوُجودِيّ، والشِّعر الماركسي، وبدأتَ في نفس الوقت تجد الشِّعر الإسلامي. لي على هذه المقولة ملاحظات: الملاحظة الأولى هي أن هذه الأنواع الثلاثة يجتمع أصحابُها في إطار ثنائيّ، في إطار العامل ورَبّ العَمَل. أما أصحاب الشِّعر الدينيّ، فجَمَّعُوا العالَم في إطارٍ واحِدٍ، هو الألوهية. فيما الطرف الثالث يرى الشِّعر كوسيلة لفضح التَّغيُّرات التي تقع في الكون. هذه الأشياء، كلها، يمكنني أن أقول، بدون خجل، إني وَقَعْتُ تحت تأثيرها..
- وقَعْتَ تحت تأثيرِها انْسِياقاً وتبعِيَةً، أم اتِّفاقاً واقْتِناعاً؟
قَعْتُ تحت تأثيرها، شعرياً. الدليل على ذلك أنني ما زِلْتُ أُعَقْلِن ما أريد قَوْلَه، فأنا بدأْتُ، في وقتٍ سابق، أتخلَّص منها شيئاً فشيئاً..
لاحَظْتُ، منذ سنواتٍ، وأنا أُجَمِّع نصوصك الشعرية الأولى، التي لم تنشرها، أنها كلها كانت تحت تأثير الوعي الأيديولوجي المُتَحيِّز، تحديداً، إلى اليسار، أما ما تتحدث عنه الآن، فهو مرحلة تالية، جاءت في سياق مغاير. لماذا أَخْفَيْتَ هذه النصوص الأولى؟
أعتقد أنني نشرتُ كُل ما أمْكَنَنِي نَشْرُه، من جميع المراحل. تحت يدي قصائد كتَبْتُها مُؤَخَّراً، تُبَلْوِر هذا المفهوم الجديد للشِّعر كما أراه، بصورة واضحة وظاهرة. من الأشياء الرائعة جداً في حياة الشِّاعر أن يَتغَيَّرَ مع الوقت، ليس تغيُّرَ التَّسْويق marketing، بل يتغيَّر تَغَيُّراً هو، في جوهره، ضرورة مبنية على اقتناع تامٍّ بالتَّغيُّر، أي بما يفرضه هذا الاقتناع، وما يجري من تحوُّل في كل شيء. هذه الأيام الأخيرة بدأتُ أقرأ شعراء دينِيِّين، يدافعون عن الدِّين، أو يبحثون عن الإنسية في الدِّين، وخصوصاً بعض الشُّعراء الفرنسيين، فهُم كانوا يُلِحُّون على إنسية المسيحية. وجَدْتُ شاعراً آخر، وهو يهودي إيطالي، عاش في مصر، ويتكلم العربية، كتب ديواناً عن إنسية اليهودية، بَقِيَ أن نبحث عن شاعرٍ كتب عن إنسية الدين الإسلامي. فالذين يتبجَّحُون بالإسلاميات، وبغيرها مما له علاقة بهذا الموضوع، عليهم أن يعطونا شعراً من هذا القبيل. هناك واحد لو قرئ شعرُه بما يلزم، كان يمكن أن يدخُل في هذا الباب، هو محمد إقبال.
- ألا ترى أن هذا فيه، ربما، بعض التناقُض مع ما قُلْتَه قبل قليل عن تجربة المهجر، أو التجربة الرومانسية التي فتَحَتْك على الأفق الإنساني، إذ تتحدث عما يُسَمّى الشِّعر الإسلامي الذي يبحث عن الإنسية، أليس هذا نُكوصاً، وعودة إلى الوراء، في الوقت الذي كان ينبغي أن نُبَلْوِر تجربة الرومانسية، وتجربة الحداثة الشعرية، في أفق هذا الإنسان، الذي هو نقطة الكون، كما يقول بعض الصوفية؟
حين قلتُ لك ذلك، كنتُ أُشير إلى ما أدْرَكَه هؤلاء مِنْ أنهم، من خلال الشِّعر، يمكنهم أن يعثُروا على مَنْفَذٍ منه يعطون الأحقية لوجودهم في شعرهم. أنا لستُ من هؤلاء. حتى إذا قُدِّرَ لي أن أكتُب شعراً «إسلامياً»، سأكتُب شعراً فيه الإنْسِيَة الإنسانية. حاول شُعراء المهجر أن يُقَدِّمُوا إنسية الإنسان، ولكنهم قَدَّمُوا مكانها صورةَ المسيح، وهناك من الشعراء الفرنسيين من أدْخَل هذه الإنسية في إطار كاثوليكي صِرف.
- نعود إلى النص، ألا ترى أن الشَّاعِر، منذ بدأ يكتُب بتلك الرَّعَشات الشِّعرية الأولى، منذ ملحمة جلجامش، كان الإنسان في هذه الكتابة يبحث عن أفق جمالي، داخل الأفق الجمالي الشِّعري، كان الأساس فيه هو الإنسان، فالبحث عن الخلود هو سعي لتثبيت وجود الإنسان على الأرض. هل تُفَكِّر وأنت تكتب اليوم في تجربتك الأخيرة في هذا السياق الجمالي، بإيقاعاته، وصوره، وبنائه، وغيرها مما هو أساس الجوهر الشِّعري؟
مبدئياً، وكما قلتُ سابقاً، كل محاولة لتقعيد أو تثبيت البناء الشِّعري محاولة فاشلة.
- لكن كل شاعر له تَصَوُّرُه للبناء، وأنا أتحدَّث هنا عن الشَّاعِر الذي له تجربة، ويُدْرِك خطورة التَّصَرُّف في الشِّعر.
طبعاً، فالشاعر، بهذا المعنى، يُؤَرِّقُه ما يمكن أن يُؤَدِّيَ به إلى بناء خاصٍّ به. يبقى أنَّ هذا البناء مُزدَوِج، بناء يتعلَّق بالحمولة الفكرية التي يريد أن يقدمها، وبناء يتعلَّق باللغة التي يمكن أن يُؤدي بها هذه الحمولة. كل محاولة لفَرْزِ الوجه القديم لِلُغَةٍ ما عن وجْهِها الجديد، مُحاولة ظالِمَة. أنت إذا حاكَمْتَ اللغة القديمةَ التي كتب بها الجاهلي بعقلية اللحظة الراهنة تَقْتُلُها وتجني عليها. إذن، ماذا يبقى من هذه اللغة، تلك الحالة الإنسانية العامة المُشْترَكَة التي لا يحكمها زمن دون آخر، ولا مكان دون آخر. الإنسان المعاصر، اليوم، مُحَاصَر بتعدُّد اللُّغات، هذا شيء يمكن اعتباره جميلاً، ولكن في حدود ما إذا اسْتَطَعْتَ أن تَطْرَبَ لسماع قصيدة بالإيطالية، ولو أنَّك لا تفهم الإيطالية.
- هنا نعود إلى الإيقاع.
نعم الإيقاع، الذي يسمح لك بهذا الطَّرَب. هناك من يُحِسّ الإيقاع، ولكن حين يَسْعَى لاسْتِدْراكِه، يستدركُه بشكل بَبْغاوِيّ. الشكل الببغاوي هو نوع من الترقيع.
- هناك اليوم من يعتبر الشِّعر هو الإيقاع، وهناك من يخلط بين الشِّعر والوزن، في حين أن الوزن ما هو إلا أحد مكونات هذا الإيقاع الشامل، الذي يمكن أن نُوَسِّعَه باعتبار اللِّقاء الذي يمكن أن يكون بين اللُّغات، في طَرَبِها، كما تقول، في البصر، كما في حركة اليد، في اضطراب الجسم، في ملامح الوجه..هذا الإيقاع المُركَّب الشامل، كيف تتعامل معه وأنت تكتُب نصَّك الشِّعريّ؟
بالنسبة إلَيّ انْتَهَيْتُ من هذه القضية، يمكن أن أكتُبَ عشرة أسطُر بشكل متتابع، وبعد قراءتي لهذه الأسطُر أكتشف إيقاعاً. الإيقاع لا حَصْرَ له، وتختلف قضية شُعوري بالإيقاع مع شعورِكَ به. الشِّعر العربي إيقاعي، لكن هنا ماذا نعني بالإيقاع؟ هل هو إيقاع موسيقي، أم إيقاع عام يستطيع أي إنسان أن يَصِل إليه؟ الشِّعر التفعيلي شعر موسيقي، لأنه خاضع إلى عَروض، وهذا العَروض يمكنك أن تطبقه على كتابة قصيدة بالفرنسية. أساس العَروض حَرَكَة وسُكون، جميع اللُّغات التي خلقها الله، بما في ذلك الوجود، قائمة على حركة وسكون (هُنا يشرع محمد السرغيني في تطبيق وزن الرجز على قصيدة فرنسية، غناءً وتصفيقاً، لتأكيد فرضية الحركة والسكون).
- أنا أسيرُ معك في نفس هذه الرؤية لمفهوم الإيقاع، وهذا ما دَافَعْتُ عنه دائماً، ومارَسْتُه فيما كَتَبْتُه من شِعر إلى اليوم. لكن يبدو لي أنَّ من يرغب في توسيع مفهومه للإيقاع، وهو مُقْبِل على كتابة الشِّعر، أو يكتُبُه، لا يستطيع ذلك إذا لم يكن مُدْرِكاً لأصوات اللغة، وللعلاقات التي تكون بين الحروف الكلمات، من حيث التواشج والتنافُر. نصوص شعرية كثيرة مما نقرؤه اليوم، فيها مشاكل كبيرة في هذا الإطار، وهذا أمر لا علاقة له بالوزن ولا بالنثر.
أنا شخصياً، كتاباتي الشِّعرية تتدخَّل فيها اللغة، يتدخَّل فيها سمْك الحرف، والنقطة والفاصلة، والنقطتان، تتدخَّل فيها الفراغات. هذه كلها تعمل عملها في بناء الإيقاع. وقد تكتُب سطراً دون أن تحتاج إلى النقطة وإلى الفاصلة، ويكون فيه تعبير إيقاعي عميق
- تتذكَّر السي محمد، منذ سنواتٍ، أثناء مناقشتي أطروحتي، وأنت كنتَ بين من ناقشوني فيها، كنتُ انْتَقَدْتُ الشعرية المعاصرة، وانْتَقَدْتُ هنري ميشونيك، ومن تبعه من المغاربة، حين اعتبر الإيقاع هو الدَّال الأكبر، دون اسْتِحضار الصورة والخيال، أي أنَّ الشِّعر يقوم على دالَّيْن وليس على دالٍّ يتيم، فيه خَنْق للشِّعر وللشِّعرية.
الصورة الشعرية والإيقاع يمكن أن نُخْضِعَهُما لإحساس ملموس، هذا إذا اسْتَطَعْنا أن نُحدِّدَهُما رياضياً. لكن ما رأيُك في أننا لا نريد أن نحددهما، بل أن نتركهما مفتوحيْن، وهُنا تبقى الحرية للشِّعر للإبداع والإضافة. الصورة الشِّعرية لم نهتم بها كما ينبغي، فما قيل فيها على كثرته، لم يَتَعدَّ شكلَها الظاهر. فالصورة الشِّعرية ذات عمق وكثافة، وإذا أردنا إخراجها من حالة الكمون إلى الوضوح، يحتاج منا ذلك أن نغوص في بِحار الشِّعر العميقة. وحتَّى هذا الوضوح الذي نسعى إليه، لا يكون وضوحا إلاَّ عندي وعندك لأننا نُمَيِّز الكتابة، لنا دراية بالشِّعر، وليس عند آخرين. هذه مسائل لا يمكن أن يقول الإنسان فيها قولاً نهائياً، كلما تطوَّرَت الكتابة الشِّعرية. فالباب لا يزال مفتوحاً للكشوفات في الشِّعر، فقط، علينا أن نكون عارفين بهذا الشِّعر، لا أن نكتبه، ونقوله من فراغ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.