يعتبر فرانز كافكا، دون شك، من أهم الكتاب والمبدعين الاستثنائيين الذين ميّزوا النصف الأول من القرن العشرين، بل إن أثره يتجاوز، بكثير، السياق الزمني الذي عاش فيه، ليطال العديد من السياقات والأزمنة. تتجلى فرادة كافكا في الوضع الاعتباري المركَّب الذي ميّزه، فقد انتمى إلى أقلية دينية، بحكم أنه كان يهودي الديانة وسط محيط مسيحي، وانتمى إلى أقلية لغوية، بحكم أنه كان يكتب بالألمانية وسط محيط لغوي يتحدث التشيكية. ورغم لغة التعبير الألمانية فقد كانت قصصه وحكاياته ورواياته ويومياته شديدة الارتباط بمدينة براغ، التي عاش فيها طيلة حياته. لقد انتمى كافكا (1883 1924) إذا شئنا القول إلى أقلية الأقليات، أي إلى الكتابة التي كانت منحة ومحنة بالنسبة إليه، والتي حالت دونه وممارسة الحياة الفعلية، حيث إنه كتب في «يومياته» أنه مجرد أديب وأنه خارج الكتابة «لا شيء». لقد كتب كافكا ما يسمى «الأدب القاصر»، الذي يرتبط بالممارسة الإبداعية للأقلية، لأن الأدب القاصر، كما يرى دولوز وغاتاري، ليس هو الذي يُكتَب بلغة قاصرة، بل الأحرى بلغة الأسياد وأدبهم. تحيل الأقلية تحديدا على الوضع الاعتباري للغة ما، وهو ما شكّل، إلى حد ما، الورقة التي وجد كافكا نفسه داخلها، ورطة ذات متكلمة في مدينة براغ في القرن العشرين، في العاصمة التشيكية، التي شكّلت جزءا من الإمبراطورية النمساوية الهنغارية. لكن هذه الورطة تبدو مثل نظرية الشر عند سبينوازا، حيث إن الحرمان الظاهر ليس، في واقع الأمر، سوى تحديد إيجابي. إن ورطة كافكا ليست أبدا حرمانا، إذ قادته إلى اجتراح طرق بديلة وإلى البحث عن مخارج وحلول وابتكار مصادر لغوية وإبداعية جديدة. ذاك ما عبّر عنه كافكا في «اليوميات» بالاستحالات الثلاث: استحالة عدم الكتابة، مصاحبة باستحالة الكتابة بالألمانية وباستحالة الكتابة بطريقة ولغة أخرى. لقد عاش علاقته المضطربة بالكتابة بين هذه الاستحالات الثلاث، التي تتوافق مع وضعيته كمتكلم، وبتمثله للحقل الأدبي، وبطبيعة القوى الوجودية والإبداعية التي اخترقته، وبالضغوط الذي مارسها عليه الواقع (العمل، الأسرة، العزوبة، الزواج، المرض، العزلة... إلخ.). لا يمكن قراءة كافكا بدون تمثل خط الانفلات أو الهروب الذي تبنّاه، وجوديا وإبداعيا، والذي صار بالنسبة إليه بمثابة معيار أسلوبي، مرتبط بوضعية سياسية معينة، خصوصا أن كافكا هو من بين أكثر الكتاب الذين «صاغوا عبر الكتابة تجارب عديدة على الآلة البيروقراطية التي كان جزءاً منها، بحكم أنه قضى جل حياته موظفا في شركة تأمين، ومرتبط أيضا بوضعية لغوية، لأن كافكا كان ملزَما، دائما، باستعمال اللغة الألمانية في الكتابة كما لو أنها لغة أجنبية. إن قارئ كافكا، عموما، لا يمكنه سوى الشعور بالقلق الذي أطلق عليه النقاد والمؤولون العديد من الأوصاف، انطلاقا من تأويلاتهم، التي حددت هوية هذا القلق ومعناه ومحتواه. أثناء قراءاته لا يمكن الإحساس بالراحة والدعة، لكنه عبر نصوصه وقصصه وروايته يلزمنا، بالضرورة، بتوظيف كل قدراتنا على الإذكاء. إن ذكاء القراءة يمتاح وجوده وفاعلية من ذكاء النص. لقد شيّد كافكا، عبر كتاباته، ما يمكن تسميته الخرافة الحديثة والنبوئية في آن، إذ ارتبط بالزمن الحديث الذي كُتِبت فيه، ولكنها أيضا وعبر نصوص مثل «التحول» و«المحاكمة» و«القصر» و«معسكر العقاب» وغيرها، تنبأت بالكثير من الكوارث والفواجع والمجازر التي طالت القرن العشرين، مثل المحرقة النازية ومعسكرات الاعتقال النازية و«الغولاغ» الستاليني وغيرها. تنهض هذه الخرافة التي نسجها كافكا على معايير تقول إن عزلتنا في الزمن الحديث ستكون لا نهائية وإن المجتمع فقد مرجعيته المتعالية وإن الإنسان يقمع الإنسان الآخر وإن السياق التاريخي هو الزمن الذي سيحوز فيه القتلة والجلادون السلطة... لكنْ، داخل هذه العتمات، يُبقي كافكا على بصيص ضوء، يلوح من خلال فجوات في مشروعه الإبداعي. يترك كافحا لمتخيله، الكابوسي، الحرية ويرخي له العنان، لكنْ من أجل تنبيهنا إلى المخاطر التي تتهدد وجودنا وإنسانيتنا، سواء كان مصدرها برانيا أو جوانيا. يكفي في هذا السياق الوقوف قليلا عند روايتيه الكبيرتين «المحاكمة»، التي كُتِبت سنة 1914، و»القصر»، الرواية غير المكتملة، التي يعود تاريخها إلى 1922. تبدو شخصية جوزيف كافي في الرواية الأولى كضحية للإجراءات ومساطر صارمة، ولمنطوق حكم مرعب. أما في الثانية، أي رواية «القصر»، فإن المهندس يجابه الإدارة الأخطبوطية للقصر: «داخل القصر.. يبدو المرور الخالص إلى الزمن هو الحكم الوحيد»... يتعلق الأمر، في الروايتين معا، بقضية خاسرة وبمحكمة خفية لا يمكن معرفة أعضائها وبانتخاب غامض الأطراف. ليس هناك من كاتب استدعت نصوصه المتميزة ذلك الكم الهائل من التأويلات والتحليلات كما وقع مع كتابات كافكا، إذ يكفي أن نذكر من بين مؤوليه بلاتشو، دولوز، نابوكوف، مارط روبير وآخرين، حيث تم تجريب الكثير من المناهج النقدية في قراءته، ناهيك عن أن المخرج العبقري أورسون ويلز أخرج فيلما انطلاقا من رواية «المحاكمة»، حتى إن الكثير من مفاصل ومراحل التجربة الإبداعية «الكافكاوية» تبدو معروفة بالنسبة إلى القراء المتتبعين. لكن، رغم ذلك، لا يمكن إزاء أعمال كافكا أن تتخذ وضع القارئ العارف، الذي يفهم النصوص ويحتويها ويهيمن عليها. يجب، على العكس، أن نصير القارئ الذي يتخلص من كل زاده المعرفي والنقدي وينمحي ويقرأ سطرا بسطر، وبدل أن يعلن استنتاجاته في النهاية، أن يكتفي بأن يفهمه النص ويتجاوب مع ذكائه. أمام نصوص كافكا، تماما كما يقع للقارئ الحصيف أمام نصوص روبير موزيل وهرمان بروخ وبول تسيلان وغيرهم، يجب أن نشعر بالامتنان للنصوص الإبداعية المقروءة، وهو الامتنان الذي يضفي على عمل القراءة النقدي كل النبل الباذخ ويجعله بمثابة الضرورة العميقة التي لا مفر منها. ليس بإمكاننا فهم كافكا إذا لم نأخذه على محمل الجد بطريقة حَرْفية، في كل القوة الكامنة والمعلنة في نصوصه والتضمينات والإحالات التي تحبل بها. إن حَرْفية النصوص هي، وحدها، التي ستضعنا في إطار علاقة مباشرة معها، لامتلاك قوتها، التي تقودنا، بالضرورة، إلى حدود الفهم والإدراك. انطلاقا من هنا، تبدو كل صفحة من صفحات «المحاكمة» و«القصر» دقيقة جدا، بشكل مرعب، وكاشفة لكَمّ هائل من القوى الغامضة واللا مسماة، التي حسبها أو انطلاقا منها يقوم البطل بأفعال أو يندحر وينهزم. يتحدث كافكا عن عالم يسبق كل انفصال أو تسمية، ليس العالم المقدَّس أو الأزليّ، بل العالم الذي يبحث عن مكان للمقدس داخله. داخل هذا العالم، يتداخل الخير والشر ويتكاملان، وهذه الكتلة التي يصعب التمييز بين مكوناتها والفصل بينها هي كتلة القوى التي تخترق كتابات كافكا وتسكنها كخطر وكإنذار وكنبوءة. لقد أغرق الكثير من مؤولي أدب كافكا في التأويل الرمزي لكتاباته، كما فعلت مارت روبير في كتابها: «وحيدا مثل فرانز كافكا»، الذي اعتبره دولوز غاتاري بمثابة تأويل طفولي لأدبه. إنه التأويل الرمزي والاستعاري الذي يروم اكتشاف معانٍ ورموز ودلالات سرية كامنة في النصوص، بعيدا عن الالتزام بحَرْفيتها ومنطوقها، المتقشف والعاري، لغة وأسلوبا ودلالة، ثم إن نصين كروايتي «المحاكمة» و«القصر» ليستا، أبدا، مجرد استعارتين كبيرتين. لقد سبق لكافكا أن قال، في «اليوميات»، إن استعمال الاستعارة في الكتابة هو ما يدفعه إلى فقدان الثقة في الأدب، لذا فإن حكايات كافكا لا تتضمن أي رسالة أراد الكاتب إخفاءها داخل حبكة قصصية أو روائية. لكن الأسئلة العديدة والمربكة التي تحبل بها هي التي تستدعي ضرورة هذه التعليقات، اللا نهائية. إن قلق التأويل يأتي من قلق النصوص وينبغي له، حتماً، أن يتحول إلى فهم ومعرفة، شرط أن يصير القارئ اليقظ والمنخطف قائد نفسه داخل المتاهة «الكافكاوية». لقد عثر كافكا على الماهية السردية التي اشتغل عليها، داخل عالم أصيل وداخل سديم عميق جدا، تعجز معايير قراءتنا، أحيانا كثيرة، في إضاءة سراديبه. تتشكل هذه التركيبة الجديدة عند كافكا من عناصر ثلاثة: لغوي وأسلوبي وسياسي. إذا كانت أعمال كافكا متميزة واستثنائية، فلأن جِدّة الأسلوب وفرادته لا تنفصلان عن رحلة اكتشاف قصوى وغير مسبوقة للنسيج الاجتماعي الفعلي. هكذا تحول الأدب لدى كافكا إلى فيزياء ترصد المدركات الحسية وإلى علم يدرس السلوكات الاجتماعية، ولم يعد الكاتب يتحدد بقدرته على تغيير المعايير الأدبية والجمالية ولا بقدراته اللغوية والسوسيو ثقافية، بل بقدرته على التعبير عن الطريقة التي بها يتأثر بالفيزياء الاجتماعية لزمنه، دون اللجوء إلى استعارات أو أحاسيس زائفة. هناك شيئان يُشعِران كافكا بالشغف إزاءهما، وهما متى يمكن القول إن ملفوظا ما من الملفوظات جديد، ومتى تنرسم تركيبة جديدة. هذه التركيبة هي البيروقراطية وعلاقات السلطة التي وصفها كافكا وصفا دقيقا، والتي تتماهى والتركيبة الاجتماعية والتركيبة الجماعية للتلفظ، التي تعبّر عنها أعماله، والتي تجعل من الوظيفة مؤلف مجردَ وظيفة جماعية. إن نثر كافكا، المتقشف والمحايد، يمسك بالظاهرة البيروقراطية ويترجم، عبر الآلة النصية، تلك التركيبة الاجتماعية غير المسبوقة، وهنا بالذات يتجلى البعد الثوري لكتابة كافكا، لأنها ليست احتجاجا فرديا على النظام الاجتماعي، ولكنها اكتشاف لحقول القوى الاجتماعية، التي تلزم كافكا بتبني هذا النظام، المتقشف والمحايد من اللغة. هنا بالذات يتجلى اللقاء بين كافكا وفوكو، الفيلسوف الذي يقترح تحليلا للسلطة يجدد اليوم كل المشاكل الاقتصادية والسياسية، وهو التحليل الذي لا يخلو من أصداء كافكاوية، كلاهما، أي كافكا وفوكو يعيدان اكتشاف الجسد الاجتماعي، الأول يرسم، طبوغرافيا، المناطق الحديثة للبيروقراطية النمساوية الهنغارية، والآخر يقوم في كتابه عن السجن «المراقبة والعقاب» سنة 1975، بالوقوف عند علاقات القوى التي تحرك الفضاء الأملس للمعرفة. إن جِدّة التحليل الفوكَوي للسلطة تظهر جدة وفرادة الآلة السياسية التي ابتكرها كافكا. يبدو كما لو أن فوكو، عبر اشتغاله على الأرشيف، يستخرج نوعا من الأصداء والنبرة الكافاوية، لأن كلاهما يرفضان الطرح الذي يقول إن السلطة والقانون ينجمان عن الدولة، التي هي العضو المركزي السائد، ويصفان نوعا من السلطة الجهوية والمتناثرة، الغامضة والمتعذرة الإمساك بها. تتمثل غرابة أعمال كافكا في تحليله للسلطة البيروقراطية وانتشارها وانتثارها داخل الحقل الاجتماعي، رافضا النموذج المحلي لسلطة تبدو كفعل تقوم به سلطة مالكة (الدولة) ويمارس على ذوات اجتماعية، هكذا يقوم كافكا بتحويل الحبكة الروائية وتغيير مواصفاتها. إن السلطة ليست عنفا برانيا يُمارَس على الذوات ولا آلية جوانية تستعبد هذه الذوات، ولا يمكن اختزالها في الخيار رالكلاسيكي الثنائي «العنف أو الإيديولوجيا، الإقناع أو الإكراه». لا تبدو تبدو السلطة في رواية «المحاكمة» كملكية لطبقة محددة، رغم وجود الطبقات، ولا تبدو منسجمة. إن السلطة عند كافكا وفوكو ليست ذات موقع محدد داخل الدولة ولا يحددها المستوى الاقتصادي، في المقام الأخير، ولا ماهية ثابتة لها، لأنها مجموعة من الوقائع والإجراءات... تقوم هذه السمات، كلُّها، بتغيير التحليل الكلاسيكي للقانون وتمنع من اختزال أعمال كافكا إلى مجرد قانون متعالٍ وعصابي أو إلى مجرد هروب نحو التخييل، نظرا إلى انعدام القدرة على مقاومة النظام السائد صراحة، كما أنها (أي السمات) فضح لتلك القراءات، التحليلية النفسية وللتحليلات السوسيولوجية لأعماله. إن الجوار الهامّ بين كافكا وفوكو يؤول إلى أنهما، معا، يملكان رؤية نبوئية ثاقبة ويعزى، أيضا، إلى روعة أسلوبهما، الذي أسهم، بشكل وافر، في خلق نوع من الضحك السياسي...