بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    التنويه بإقالة المدرب العامري من العارضة الفنية للمغرب التطواني    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    مباراة الزمامرة والوداد بدون جماهير    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدارس الضجر لا تقبل الشرود : عندما يحتجز الخيال يفسد العقل ويختفي الوجدان
نشر في الأستاذ يوم 10 - 10 - 2010

المدرسة التي تسلب الحياة من أجساد الصغار هي حتما مؤسسة تكره الطفولة، وترفض السفر في عوالمها. لا يمكن لمثل هذا النموذج من الفضاءات أن يستضيف العقول، وينير القلوب، ويساعد الحلم على نيل مملكته، وإشباع رغبته في معاكسة الاستقامات المريضة.الضجر حتما سيخيم على سماء الساحات التي يدخلها التلاميذ وهم خائفون من أن يعاقبوا، إن هم تشبثوا بحقهم في ممارسة الشرود كلحظة مقتطعة من زمن التعليم، الذي لا يعترف سوى بالإنصات إلى الخطاب المدرسي الجاهز. الشرود لا يعني الشذوذ، أو التمرد على النظام الذي هو شر تكرهه الطبيعة البشرية التي تستطيب المشي بدون حواجز، بل يفيد الحق في تحويل هذه الرغبة إلى مستوى الخيال، الذي سيضمن للحياة التلقائية بأن تستمر وتحاكم مدى تجاوب هذا النظام الصوري مع أحوال النفس التواقة للتحليق في متاهات عوالمها الغامضة.هاهنا يداهمنا سؤال خطير ومغامر: هل ينبغي للحلم أن يختفي من التواصل بين المدرسة والطفل لكي تسود المعرفة وينتصر العقل الذي تم تطهيره من رجس الحياة، ودنس الخطأ الذي أصبح خطيئة تستحق الوعيد؟ما معنى الفعل التربوي الذي يصادر الخيال بعد أن يلوثه، ويشيطنه، ليبقيه خارج أسوار المدارس، وكل المؤسسات التي تختنق بروائح المنع وتفقير الرغبة في التحرر من جمود الأفكار والمعارف الجافة؟كل تلك الأجيال التي خبرت مدارس الضجر أصيبت بداء كراهية الحياة، في مقابل تمجيد معقولية الصور والنماذج النظرية التي لن تؤثر في الحياة، ولا في النفوس التي ستظل دوما تطلب شغبها وفوضويتها حتى وهي تمارس طقوس الخلوة والتقديس .الضجر من الحياة هو المقدمة النفسية للإقبال عليها بشراهة مرضية وعنف احتفالي مدمر للذات وللأخلاق معا. لهذا فمن نتائج طرد الخيال ومتعة التشويش على العقل من العلاقة التربوية ، تهييء الأجواء الباطنية في نفوس التلاميذ لكي يؤجلوا عيش الحياة بقوة واعتداد بالحيوية والنشاط، كلما تحللوا من النظام واستعادوا حريتهم، التي ستصبغها تيارات تمجيد الجسد بألوان خادعة ستقودهم حتما إلى الموت في جحيم المتع المحرمة.العنف سببه ممارسة العنف على الرغبة في قول الحياة والتغني بمجدها، في مقابل الرفع من قيمة المعارف المغلقة على نفسها، التي تقدم في شكل علب من الوصفات غير المسموح بالنبش في محتواها المخفي عن عيون الفضول الطبيعي، إلا لما تحل عاصفة الامتحانات الكاشفة لزيف هذا الإدعاء. لهذا أمسى الغش هو الأسلوب المباشر للتمرد على مدرسة الضجر التي تفضل النجاح في الامتحان على النجاح في الحياة.قول الحياة معناه السماح للذات بأن تكتب عن نفسها وهي تمارس الحلم على هامش البرامج التي تسوق لنماذج متعالية بقوة القانون واللغات الداعمة له. قول الحياة معناه هنا الاستمتاع بالشرود كوميض يخترق العقل وهو منهمك في حل المعادلات وتفكيك الخطابات. لهذا فعندما تختفي المتعة من درس العقل يموت الوجدان الذي هو الطاقة الحقيقية التي تمنح لهذا الأخير مبررات الوجود. ضد هذا النموذج قاد الفلاسفة المتشبعين بألوهية اللوغوس حربا ضروسا ضد النفس المبدعة لفنتازم الرغبة التي اعتبروها شيطانا مخلا بنواميس المنطق الذي سيعصف بتراث تقديس الجسد وقواه الباطنية الملتبسة بالحلم والجنون والسمو، والبحث عن المجهول في طقوس المرور عبر عوالم النفوس، وممالك الأسرار التي تخفي لغز الموت والخلود.لا زلنا إلى اليوم نعيش في مدارس الإغريق الذين تحفظوا على الشعر والخطابة والوجدان، حيث جعلوا هذه القوى في مصاف العوائق التي تحد من فعالية العقل وسعيه الحثيث نحو نيل المعارف المطلقة والمعقولة، أي تلك الحقائق التي لا تتبدى إلا عندما ينقطع أثر الوجدان والحواس، لكي يتمكن اللوغوس من العمل وحيدا دون قلق الرغبات أو ضغوط الجسد.سيظل الخيال ومنتجاته من حلم واستيهامات وشرود وأضغاث الأحلام والرغبات والانفعالات والعواطف والحب والفنون العاكسة لها، محكوم عليها بالتسكع في دروب التاريخ، وعلى هوامش المدن التي يحكمها العقل المتعالي أو النص المقدس. لن تعود إلى دائرة الضوء إلا بعدما يفسد العقل اللعبة، وينهار بنيانه على رؤوس عابديه، وذلك لما يفشل في تدبير الخلافات والقضاء على النزعات العنصرية، والنوازع الوطنية التي ستفجر حروبا كونية ستكلف البشرية ملايين القتلى والجرحى والمعطوبين والأيتام والأرامل. إنها الاستثناء الذي قلب الموازين في تاريخ الغرب وحرك فيه نزعة مراجعة العقل وتمتينه بمرجعياته الأخلاقية التي كانت بديلا لأخوة لاهوتية سرعان ما بدد فراغها ضوء الثورات التي أعادت للإنسان وهجه الأرضي وهو يتقلد زمام عيشه في هذا العالم السفلي الذي هو عالمه الخاص. الموقف من العقل الحربي الجرائمي لا يعني ضياع العقل الأخلاقي بل هي مراجعة تاريخية للتطهير النقدي للعقل من جموح النزعات العنصرية القاتلة. لكن المدرسة ستظل في قلب المعترك الحضاري وعلى الرغم من حروب الحدود والهويات فإنها ستنتهي إلى إنتاج أجيال ستصنع أوروبا الموحدة والعملة الموحدة والمصالح المؤتلفة. إنه إنجاز تم التخطيط له تربويا لكي يخلق أجيالا من المسؤولين هم الذين سيحققون أحلام الجيل السابق الذي حلم بجمهورية أوروبية موحدة. إنها العملية التي صنعت ذكاء ملفوفا في فلسفة العلوم وفلسفة التاريخ، تحكمه رؤيا دينامية لعلاقة المعرفة بالمجتمع والوعي بالثقافة، إنها المعادلة التي سمحت للغرب بان يوطن العلم في عقل المجتمع ويجعله قوة صانعة للقرارات دون نسيان الكينونة التي سيستعيدها الفلاسفة الوجوديون من سباتها العميق منذ أن تذكرها هايدجر وجودا هنا تحت السماء و فوق الأرض كما كتبها له شاعر ألمانيا الكبير هولدرلين. لن ينفصل بعدها العقل عن الخيال الذي سيسترجع قوته كحامل لحقيقة إنسانية طالما تغنى بها نيتشه في شكل إرادة للحياة هي التي ستكتب شعرا وحدسا وذوق رفيعا وادبا رقيقا. وراء العقل الغربي فلسفة وحدوس إنسانية كثيرة ووجدان ذكي هو الذي صنع العالم الفيلسوف والمهندس الملتزم بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ لكن ما هو يا ترى الوضع في مدارسنا نحن الذي لا زلنا نتلمس العلاقات المرتبكة بين الفلسفة والعلم والتاريخ والحقيقة التاريخية والفهم الجدلي في مقابل الأحكام العامية.الرياضيات بدون فلسفة الحياة ضياع للعقلفي مدارسنا، يظل درس الرياضيات يزحف وحيدا في خلاء الرمز، وصحراء المجرد، بحيث لن ينتج سوى كائن بدون وجه، أو عقل بدون روح؛ إنه المشتل الذي يصنع المهندس المنقطع عن الثقافة، والمرح، والحياة، والشغب، والفن الذي يحتفي بهذه الألوان من منتجات الخيال الذي لا مكان له في درس العلوم. إنه قد يبدو كعدو يتربص بالدقة، أو كفاجر يبحث عن المتعة في كشف عورات اليقين النسبي. إنه الإرث القديم الذي ضاعف حجمه تراث المنع والخوف من العقل المتسائل.الرياضيات في صفاء تام هي خطر على المجتمعات التي سيظل عقلها الحسابي هذا منفلتا ما لم يتذوق شعرا، أو يقرأ أدبا أو يراجع تاريخ المعارف والمفاهيم الفلسفية، والمعارك الحضارية التي عرفتها الإنسانية قبل أن تستقر على قيم كونية بها ستضبط العلاقات وتتصدى للتجاوزات. الرياضي الجاف، أي التقني المتخصص في حل المسائل، هو مشروع حرفي قاتل بدون أن يدرك ذلك، قد يستعمل ضد العلم، ضد وطنه وضد تاريخه وهويته، لأنه لم يتعلم كيف يؤلف بين العقيدة والحساب، أو بين التاريخ والمعرفة العلمية. المدرسة التي تنتج مثل هؤلاء تقدم مجانا رجالها ونسائها لكي يصبحوا وقودا في محركات الذين يحترفون الغوغائية لنشر الفوضى في الكون باسم العقيدة المظلومة، أو تدفعهم لأن يبيعوا خبرتهم لمن يدفع أكثر حتى ولو كان الدافع من المتربصين بمستقبل البلاد وبمصيرها الحضاري. لا ينبغي أن نفاجأ إذا وجدنا عالما أو مهندسا يسكنه خيال ضعيف، أو يقتله حلم بئيس وهو يمارس نشاطا عقليا جد معقد؛ بل قد نراه أحيانا يؤتي أسوأ التصرفات وهو ينتقم لخياله الذي ضاع منه في المدارس التي علمته كيف يكره وجدانه، وكيف يتخلص من روحه إن هو أراد أن يستضيف في ذاته عقول العلماء وطيف العباقرة.كم مرة تعلم فيها أطفال مدارس الضجر كتابة شعرهم، بلغاتهم، وجنونهم، وبحروف دمائهم، دون أن تنال منهم عصا طاعة البرامج التي تقدس مبدأ غامضا لأنها ترفض حديث الوجدان الذي يخلق الأنس بين الطفل ومدرسته، أو بينه وبين هواجسه التي إن تعلم كيف يحولها إلى كتابة، لن يكتوي بنارها وهو كبير، ولن تستعمل ضده وهو مراهق يشق طريقه بين مخالب تجار الأجساد والمتع الخادعة. لا خوف من الشعر المتفجر بالحياة، ولا حصار على فلسفة تمجد الخيال والحياة، بل الخوف كل الخوف من النزعات الطهرانية المنافقة التي تمجد المعرفة لكي تقضي سرا على الحياة كشرود طبيعي في نفوس الصغار، قبل أن تتلقاهم صناعة الخدع لكي تحولهم إلى عبيد جدد للرغبات المكبوتة.يكبر الصغار وهم يتدحرجون مجرورين من المدارس النهارية إلى غرف ليلية التي ستسرق فيها جيوب أسر وضعت ثقتها العمياء في مدرسة الوطن، فإذا بها تفاجأ بأن ما يعلم في النهار هو مجرد ظل عليل لما ينبغي أن يتلقاه الصغير في إحدى الدور التي يكتريها المحترفون المتخصصون في اقتناص ضعف العقل الذي خانته الحياة. كيف ستكبر صورة الوطن في نفسية طفل ترهقه الدروس المجانية، وتستنزف ما تبقى من قوته الدروس الخصوصية. لمن نعد هذا الطفل، هل لتحقيق حلم أسرته بالنجاح الشخصي وليسقط كل شيء من بعده، أم من أجل نهب الآخرين عندما تعطى له فرصة للتحكم في معرفة ما، أو امتلاك خبرة نادرة، أو احتلال موقع مسؤولية يدر المنافع المالية. لن يجد يومها الشعراء ظلا لقول مجازاتهم، لأن بضاعتهم قد تم قتلها في منبتها الأصلي، أي في فرح الأطفال.دروس في النهار وأخرى في الليل تباع لكي تقضي على الخلل الذي يقال أنه يسكن الحجرات العمومية، وكلها هرولة نحو تجفيف روح الطفل من حب الخيال الذي سيدفنه بين هذه الخطوات المتعثرة، التي تارة تلبسه زي التلميذ المدني، وتارة تحوله إلى زبون يبحث عن الصعود بأي ثمن. إنه الجسد المذنب على الدوام، المرشح للتفكيك والتمزيق باستمرار، لكنه يتمسك بعناده ككيان مقاوم شرس، لا ينفك عن طلب المعرفة والنجاح حتى ولو قضى حياته على سرير الحلم الذي سيطرد النوم من رموشه إلى الأبد. كيف يمكن أن يكون المستقبل ممكنا لبلد تخلى عن صغاره لكي يتركهم فريسة سهلة بين أنياب ذئاب المال التي تنقض عليهم من كل الجهات، ولكي يسمح لمنطق الاختلال بأن يمعن في إطعامهم ذوق الكذب من كل فنون المكر والخداع؛ كل هذا من أجل أن ينتصروا مؤقتا على الامتحان، لعل بعضهم أو الأقلية منهم ستظفر بمقعد خشبي مزيف في حجرة جديدة تلمع فيها علامات الشرف أو النخبوية الساذجة. أقسام تحضيرية، أو أقسام تأهيلية، أو تصفيات أولية. الكل سيان مادام الإقصاء هو معيار المرور والانتقاء هو قانون الفرز والصعود. الناجون من هذا الجحيم قلة هزيلة، أما المكتوون بنارها ففيالق من الملعونين الذين ستلفظهم الآلة المدرسية بعدما تقضي وطرها منهم لكي تسلمهم جثتا محنطة ستنقش عليها الأسقام كل الشعارات التي تتغنى بالعبثية والعدمية، والسخط ، والتبرؤ من العلم والمعرفة، والأسرة والدولة والدين وكل أنواع السلط التي كانت تقدم وصفاتها لهؤلاء لما كانوا صغارا أملا في أن تقيهم شر رفض القدر باسم الرضي بالمصير.صغار اصفرت وجوههم وهم في بداية الصعود، منهم من انتفخت أوداجه وأصابته السمنة من شره الخوف من كل ما يراه أو يقال له عن المدرسة والنجاح. وآخرون تعلموا فن الرقص المتطرف على الطوار بدل ارتياد حجرة باردة لا مكان فيها للغة الجسد الضئيل. إنه الموت الجميل الذي سببه نسيان الخيال الذي هو صنو الحرية والتحليق الرشيق لجسد يحلم بأن يقلد العصافير ويرحل إلى أعشاش الحلم في سماوات المجد الذي لا تراه سوى عيون الصبا، أو المراهقة المتوثبة نحو شباب يتأجج قوة واندفاعا لتحقيق المستحيل في عرف الشيوخ القائمين على مدرسة أنهكها مرض الخوف من الحرية.وسواس الامتحانالتحضير للامتحان، تجريب الامتحان، التخويف بالامتحان، النوم على هواجس الامتحان، الساعات الإضافية من أجل التمرن على القضاء على الامتحان. الحفظ لغة الامتحان، الغش وسيلته، الفوضى مجاله، العنف هوامشه، النسيان مآله. لهذا لا مكان للمعرفة وللتعلم وللحياة في مدرسة الامتحانات والتقويمات المتتالية.نفكر في القياس، في المعايير، في الموازين
في كل البضاعة الإحصائية التي حملتها لنا موضات المقاولات المريضة بتحرير العالم من الإنسانية والجمال لصالح الآلية، والأجساد المستعبدة، والقلوب المنفطرة بحب الأسياد ومالكي الأرصدة المجمدة في كل الأبناك التي منها نتسول لبناء حجرة، أو ترميم جدار، أو تمرير بيداغوجية صفراء، أو طبع قصيدة لشاعر مات قبل أن يؤلفها؛لكن قلما نتألم ونحن نرى جموع المنبوذين من المستقبل وهم يتكورون فرقا وشيعا بحثا عن مساحة ليمارسوا فيها الصياح والتبرؤ من مدرسة كانت سببا في الإلقاء بهم على هوامش العطالة، والتآكل البارد بين العمر الذي لا يرحم، والوظيفة التي ترحل باستمرار عن أفق الانتظار. مدرسة الامتحانات هي التي تعلمهم تلمس الحياة بكل الوسائل حتى القذرة منها لأنهم لا ينظرون سوى إلى النتائج. الامتحان اختصر التربية في أسئلة نمطية وامتص الزمن المدرسي كله، وحكم على المدرس بالتفكير فقط في إنهاء برنامجه والتخلص من دروسه ؛ الامتحان حافز على نسيان المعرفة وتمرين فقط على تجاوز عائق، لكنه لا يسمح بتأمل الخبرة المتعلمة، أو المعادلة المنتصبة، أو الفكر ة الفلسفية التي جاءت منتصرة على السذاجة من أفلاطون إلى اليوم؛ الامتحان هاجس المقاولين الذين يبحثون عن النسب المائوية بعد نهاية كل سنة دراسية؛ الامتحان هاجس دولة ورهان سياسة، لكنه سكين به تنحر المعرفة، وتسلخ البيداغوجيات، وتقطع الحقائق إربا إربا لكي تلتهمها عقول الصغار في شكل أكلة خفيفة يعقبها إسهال حاد بعد نهاية كل امتحان.برمجة العقول على تقنيات الامتحانات هو منطلق كل الدروس التي تعطى اليوم في مدارسنا، حتى الجامعات التي يعول عليها في تحرير التعليم من الضمور قد غذت بدورها مرتعا خصبا لترسيخ منطق الامتحان الذي لم يعد مناسبة سرية يعبر فيها الطالب عن قدراته ويشرح فيها أطروحته، بل أصبحت كتابته ورقة بين يدي مدرس يقرا الأسماء ويتعرف عليها كشخوص لكي يمنح النقط بعد ذلك، هل هذا هو الامتحان الجامعي، أو هو مجرد مراقبة مستمرة لا ترقى حتى للتقويم الابتدائي. جامعات لا أقول كلها بل اغلبها تنتج أطرا من نوع خاص، عارفين بقشور المعارف، لأنهم درسوا بالتقسيط، ونجحوا بالاستدانة، وتخرجوا وهم مدينين للوحدات الدراسية بعودة متكررة لإنهاء الامتحانات التي تظل تطاردهم وهم في متم مسارهم الدراسي.كيف نتعلم في الجامعات اليوم، ما هو المنطق الذي تنظم وفقه المعارف، ما دور مدرس التخصص، ما أفق انتظار الطلبة، هل تراهن مدرستنا على منتوج جامعي يعاني اختلالات بنيوية يوجد على رأسها فقر المستوى العلمي و ضعف الأداء اللغوي، مع عدم قراءة المراجع التأصيلية في التخصص، إلى جانب هيمنة العموميات، ونقص في الأعمال التطبيقية والبحوث والدراسات، حيث تمتلئ المدرجات بمن أقصاهم امتحان المدرسة ليجدوا أنفسهم في مسار جديد من الامتحانات التي سيكون فيه المدرس هو الحاكم بأمره والمتحكم في مصير هؤلاء الذي سيعملون بمطبوعاته التي لا ينبغي شراء القديم منها لأن المدرس الجامعي يضع عليها طابعه حتى لا يعاد استعمالها من لدن الطلاب الجدد؛ إنها بضاعته التي ينبغي اقتناءها وترك بضائع الآخرين، أي ترك ما كتبه الآخرون في نفس الموضوع لان الامتحان سيحسم المعركة لصالح منطق الاتجار في المعرفة وتحويل الطلبة إلى مجرد زبناء لمن تعلموا كيف يختصرون العلم في كتيبات تكرر نفسها لتحتل كل مساحة التفكير والاجتهاد الذي غادر كلياتنا منذ أن فكرنا في إصلاحها بمنطق المقاولين. كيف يمكن إذن الرهان على مدرس خرج من رماد هذا الفرن الهزيل، هل به يمكن صناعة مستقبل بلد ومصير امة، ما موقفنا من الجامعيين الذي لا يطالهم الحساب وهم الذين يمنحون الشواهد والدبلومات التي بدأت تعطى خصوصية على هامش العمومية التي القليل من المحظوظين هم من سينال مجدها، خصوصية الماستر تمنح المرور للكثير من هواة تسلق المناصب والمواقع على حساب حرمة منابر العلم ورصيدها الجليل. لنا عودة لهذا الألم في مقالات مقبلة بحول الله.سخرية المصيرعندما يقال لشاب اعتصر الانتظار كل ما تبقى له من نبض في الدماء، أنك لا تتقن حس المبادرة ولا عشق المقاولة، وأنك مليء بالعيوب التي تثقل كاهلك المعرفي بدون جدوى، وأنك قضيت خطأ عمرك في مسيرة مدرسية مختلة المقاصد، وأنك لا تصلح للوظائف العصرية لأنك قديم كمعارفك ، وساذج كقيم مدرستك ، وصادق كقلب أجدادك، وواضح كشمس بلادك، ومصمم العزم كدماء ثوارك، وباق كتاريخ وطنك، ورقيق كحنان أمهاتك، ورجل صنديد لا أثر للأنوثة الباذخة على جسدك، إنك أحمر كتربة بلادك ، «بوري» جدا كنبات السدرة المبارك، جاف كشجر الأركان، قوي البنية كشجر الأرز الأطلسي، هش كالمحبة والإيثار، مخيف كالقدر، لا يليق وجهك العبوس ليملأ ويؤثث واجهات المكاتب الكاذبة ، ولا تحتمل الكراسي المخملية جثتك البدوية الخشنة، ولا يمكنك الابتسام على الدوام في وجوه زبناء يكرهون الرجولة والفحولة حتى الغثيان. عندما يعرض في وجه شاب اعتصره الانتظار كل هذا الصك من الاتهام فلن يبق له ساعتها سوى أن يرحل إلى السباحة ليلا دون انتظار لكي يعبر الأطلسي، أو ليغوص في ظلمات المتوسط ليثبت لهم أنه فعلا لا يخاف الموت، ولا يرضى المسكنة، وأنه كآبائه الأولين سيرحل في قمة الصمت دون أن تراه عيون الذين يكرهون رجولة البلد.أبسط قول هو الإدانة، لكن أعسر إنجاز هو فهم الأزمة، وتقويم النكسة على ضوء العقل المستند لوجدان إنساني رفيع المقام الذي لا مفر من قبول حكمه والإصغاء لبيانه. التمويه والعجرفة والسير في الطرق المظلمة خوفا من نور الشمس الساطعة هو الذي سيمنح الدفء للكذب الذي سيبيح بدوره الإذن للرداءة لكي تمر، وتحتل المناصب، لتصدر القرارات الخاطئة لأنها جافة كالحجر، ومتداعية الأطراف كالأسوار العتيقة، ومنخورة بالارتشاء والنفاق ومداراة الغش والرياء، وفاقدة السند كالنخيل الذي يحمل من الواحات لكي يزين الجنبات قبل مرور الزوار، وانهمار المطر الذي سيكشف زيف الثمار، وكيد الرجال الذين يحملون على أكتاف العائلات والأقربين والمقربين والمتوجين لكي يسطروا المستقبل ويخططوا المآل لأجيال منتكسة قبل البدء.حديثنا عن الخيال قادنا إلى مقابر السقوط؛ إنه الغياب الذي تحل محله الصلابة البليدة والجرأة الوقحة. لا يتعلم الإنسان الصدق بالقول والنصيحة، بل بالقدوة والمصاحبة. أين هي إذن المدرسة التي ستمنح له فرصة معاينة القيم وهي تمشي الخيلاء على قدميها مرفوعة الرأس، منتصبة القامة، لا تفتر أمام الجبناء أو الأجساد التي أنهكها الغش والتدليس. إنها اليوتوبيا المستحيلة، أو التعلق بالمدن الفاضلة التي قادت الفلاسفة إلى جحيم الانتحار على أبواب المدن الضالة.طفل مشاغب هو رجل شجاع في المستقبل. هو ذلك المبادر الذي تبحث عنه المقاولة العصرية لكي تمارس به الحرب بلغة أخرى وبوسائل عصرية لم يألفها إنس أو جان. تتغير الأسماء، لكن تظل القيم ثابتة صالحة لكي تحافظ على التوازن بين الخير والشر، والصلاح والفساد، والحسن والقبح، والزيف والصدق، والحقيقة والوهم. إنهما عالمان يتنافسان منذ الأزل على من ستكون له السيادة على الأرض من خلال امتلاك عقل وقلب وخيال الإنسان. لكن الإله أقسم في كل كتبه أن الأرض لن يرثها إلا عباده الصالحين وفي مقام آخر إلا عباده المستضعفين.
حلم الطفولة بمدرسة أليفةطفل حالم، يسمح المعلم لحلمه بأن يقال، ليصاحب المفهوم، أو ليتآلف مع الفكرة التي تؤسس الدرس واللحظة البيداغوجية، هو رجل قادر في المستقبل كمسؤول أو مهندس أو مقرر ميزانية أو صانع قرارات سياسية على أن يتحرر نسبيا من ثقل المعطيات، وضيق المحددات، لكي يتخيل حلا أو نموذجا، أو عالما أو تصميما يضع فيه ذكاءه المتحرر من خوف الوقوع في الخطأ لحل معضلة أو التنبؤ بأزمة، أو التخفيف من انعكاسات اختلال ما على التوازنات التي قد تهدد البناء ككل بالانهيار. إنها المغامرة التي يفترض في المدرسة أن تكون برامجها ومناهجها هي التي تتكلف باستنباتها في نفوس الصغار كعادة مقبولة وممارسة مرغوب فيها. عندما لا يتكلم الطفل إلا نادرا ليترك المجال لخطاب الكبير والمعلم والراشد والمخطط والمقوم والمصحح، لينالوا حصة الأسد من مجال الحرية التي لا تعطى إلا لمن له سلطة، أو موقع، أو منبر قوي بالمال أو بالحشود ، فإننا نعلمه أن يصمت لما يرى السرقة تمر أمام عينيه وهو موظف، أو مسؤول، أو محاسب، وبأن يصم أذنينه لكي لا يسمع أنين المظلومين وهم يكتوون بنار التهم عندما يصبح شرطيا، أو دركيا، أو قاضيا يقف الناس أمامه لكي ينالوا حقوقهم التي أخذت منهم ظلما وجورا، لن يشعر بألم الضمير، أو بوخز الوازع الأخلاقي الذي مات فيه لما كان صغيرا وهو ممنوع من المشاركة في الحكم على الأشياء، والجهر برأيه البريء في وجه الخطأ حتى ولو ارتكبه الكبار أو المعلمين أو الحكماء.الطفل الجريء ممنوع من الإقامة بمدرسة لا تحب من يشوش على ثوابتها، أو يقلق راحة معلميها الذين يستهويهم جلال مهنتهم حتى تخيلوا أنفسهم فعلا أنهم أنبياء لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم أو من خلفهم. الجرأة مؤامرة ضد المدرسة التي تسير وفق منهاج يضع الحدود، ويرسم الهوامش، ولا يترك للمدرس والمتعلم سوى هاجس الخوف من الامتحان.الطفل المحروم من الجرأة على القول والاقتحام لمجال الممنوع، هو في المستقبل الرجل العاجز الذي لن يتحرك إلا إذا توفرت له الضمانات الكافية لكي لا يخطئ، أو يخسر، أو يموت، أو يعطب، أو حتى أن يتعلم من خطئه. إنه الشاب الذي لن يغامر أبدا بارتياد المخاطرة للحصول على مجد، أو بطولة في فن، أو رياضة أو غناء أو تجارة.طفل أمريكا يعلمونه في المدرسة المبدأ التالي: « المغامرة بداية الطريق»، لهذا سيخرج من بيته، ومن حيه، ومن ولايته ثم من بلدهن لكي يذهب للبحث عن فرص النجاح، والثروة، والغنى، وتحقيق الذات في دول أخرى، أو في أمكنة نائية لن يتردد عن مناداتها وطني الثاني بدون حرج أو تردد، أو هاجس ندم على مبدأ أخلاقي مثالي لا وجود له إلا في نفسية المنهزمين والجبناء الذين لا يحبون أن تنتج مدارسهم سوى أناس يشبهونهم في الصورة والروح؛ لكنه سيحمل هوية بلده لكي يجعلها علما مغريا، وفاكهة مطلوبة لأنه تعلم المغامرة من أجل الوطن وليس بالوطن. التربية هنا جوهر أولي فيه تصان جمرة الوطن.الطفل الفرنسي تعلمه مدرسته أن الحياة لا معنى لها بدون حرية التفكير والقول والفعل. إنه وريث الأنوار والوصي دوما على تراث الفلاسفة العقلانيين الذين علموا الناس أسلوب التجرؤ على استعمال العقل بشكل عمومي للخروج من حالة القصور، وتحقيق الاستقلال عن الآخرين. إنها الدعوة الجهرية التي وضعها كانط في شكل تنظير بياني لمفهوم التنوير كما فهمه الألمان بعد الفرنسيين. الاعتراف بالخطأ أو بالذنب جزء من هذه التربية الأنوارية التي يتحفظ عليها الممسوسون بداء الخوف من نور العقل كأعدل قسمة بين الناس هبة من لدن إلاه عادل.الجرأة على استعمال العقل هي التربية التي تؤسس أخلاقيا لمواطن محصن ضد الخوف والتردد. لا مكان في هذا الخيار لأية وصاية على عقول الناس، ليس هناك إكليروس أو عقول متصلة بالسماء، أو كهنوت عالم بعوالم الغموض، أو موهوبين يتوهمون أنهم أقرب الناس إلى الحق لكي يسمحوا لأنفسهم المعتلة بأن تضع على العقول ضوابط المنع والحجر حتى يخلوا لهم المجال ليمارسوا التضليل والتعتيم باسم التخويف من غيب يحسبون، خطأ، أنهم يمتلكون وحدهم مفاتيحه السرية. الجرأة على استعمال العقل هي حرب مفتوحة ضد الأقلية التي تريد أن تحكم العباد باسم المقدس طمعا في نيل متاع المدنس. لن يمكنها أن تنجح في مشروعها ا»لتأثيمي» عندما نبادر، وبقناعة بيداغوجية، لكي نصنع بسلطة الخيال المبدع مدرسة الطفل التي ستعلمه فنون التحليق في العوالم المنفلتة، والأسرار المنزوية في عتمات العقل المحاصر بحدود شائكة.منهاج متخيلإن أخطر ما يهدد كيان التربية ومآل المجتمع هو أن نسمح للمناهج بأن تجعل التلاميذ يستشعرون أن المعرفة العلمية حاجز في طريقهم نحو الحياة والنجاح. إنه الإحساس الذي قد يراكمه الطفل خلال مساره الدراسي بحيث لن ينفك أن يأخذ شكل موقف نهائي من المعرفة ككل، و ذلك باستعدائها كسموم قاتلة، وبالنظر إلى أصحابها كأعداء للحياة، وكتماثيل بالية ينبغي التخلص منها. هنا ستسرع الخطى الإيديولوجيات السطحية لكي تقدم خدماتها المجانية في شكل انتقام لهم من هذه «الخورذة» التي قضت على طموحهم، وشلت خيالهم، وكانت سببا كافيا، تبعا لاستهاماتهم، لجعلهم بؤساء عصرهم . باعتماد هذه المسوغات المدبجة بالنقد السطحي، والتآمر الباطني ضد العقل والحرية والعلم و الخيال المنتج لمساحات الفرح، ستقترح عليهم مشروعا تطهيريا، ضخما، حماسيا، مناوئا لهذه «المعرفة المميتة «التي لا مفر اليوم من «هدمها»، أو «تقويض بنيانها» بمعاول فتاكة لا تترك أثرا لأي ذرة من الخيال أو الفلسفة أو الفن، أو كل تلك المعارف التي تخاطب عقل ووجدان الإنسان الجميل، لكي تنجز عملية الإبادة لكل التراث التخييلي والجمالي والبرهاني والعرفاني نيابة عنهم، بل و باسمهم وهي توهمهم بأنها تضع حدا «لثقافة فاسدة» و»علوم مجردة» و»أفكار منحطة».المنهاج الدراسي هو صانع المعجزات أو باعث الجائحات، له روح لا نكاد نتلمسها إلا عندما تبدأ علامات الذبول أو النشاط تعلو محيا الأطفال، لتمسح عنهم الحزن أو لتملأ قلوبهم بالأدران التي لن يشفوا منها حتى ولوا نالوا المراتب العلا والشواهد والتقديرات المميزة. بالمنهاج الدراسي نصنع الحياة، أو نبث الموت في نفوس الأجيال. أخطاؤه نقطا إضافية في سجل الذين يتربصون بفشل العقل وانهيار التخييل ليعلنوها حربا تطهيرية ضد «فساد الروح واختلال النواميس».يركب التلميذ قطار زمن مدرسي يسير بسرعة جنونية نحو محطة نهائية تعتبر بمثابة آخر طقس من «شعائر» العبور لحقول جافة، وأروقة تعرض سلعا معلبة عليها علامات جودة زائفة، وبراري طويلة يملؤها الحجر الأصفر والرمال المتحركة في كل الاتجاهات. بين الفينة والأخرى تظهر لعين راكب هذا القطار المخيف أثرا لبعض الواحات المنعزلة التي تغري بالمقام، لكن القطار الهارب لا يمكنه تخفيض سرعته حتى يسمح لممتطيه التملي، ولو قليلا، بمنظر الجمال النادر التي تختزنه البرامج والمقررات التي يخترقها هدير قطار مدرسة لا تفكر سوى في أن يصل هذا الأرعن، المنفلت من زمن التلميذ، بسلام إلى محطة الامتحانات . لن نصل أبدا إلى محطة ما بعد الامتحانات بسلام، أي محطة الحياة التي هي التقويم الحقيقي للخبرات المكتسبة في المدرسة، ما دمنا لم نركب بعد قطار التلاميذ، وأجنحة الأطفال التي تحلق بسرعة مغايرة، وتندفع بإيقاع حثيث نحو اكتشاف فضاءات أخرى قد تخبو إلى الظل عندما يمر قطار المدرسة بسرعته الهوجاء دون أن يقف لكي ينزل المسافرون، ويسمح لهم بلمس كائنات وأشياء قد تبدو لهم مجرد خيالات بدون وجه وهم محتجزون وسط غرف هذا الهارب من هدوء الحكمة، والذي لا يحب التوقف لأنه مبرمج على محطة نهائية، هي ديدنه، وهي ضالته التي يهجر كل العوالم الممكنة في طريقه من أجل الوصال بها، لتقبيل جبينها، وتسليمها بالتالي، ما حمله من حشود لم تشحن فيه إلا من أجل زيارة هذه المحطة المقدسة من بين كل الأمكنة المتعددة التي لا مجال لارتيادها لأن زمن المدرسة لا يسمح بذلك . الكل يتحدث إلا التلميذ، الكل يكتب بيانه، ويغني نشيده، ويحلم بمملكته المتوجة في خياله إلا التلميذ. يظل صامتا طوال السنة وهو قابع داخل غرف هذا القطار الداهم لكل الحواجز النفسية، والاعتبارات البيداغوجية، والعلامات التي تحد من السرعة في بعض التقاطعات التي تفترض الترجل، والسير على الأقدام قصد التحلي بالرؤيا الدقيقة، لتبين معالم لوحة فنية أو صورة مجازية، أو لفهم معادلة رياضية، أو التعرف على مفاتيح خريطة جغرافية.وجدت المدرسة أصلا لغرض مد الأجيال الجديدة بفرص السفر في عوالم الأجيال السابقة بدون إكراه أو عجلة، أو حتى مجرد الإلحاح على حفظ ما لا تود العين رؤيته، أو لا يميل القلب للتملي بصورته. يسرح التلميذ في تجارب الأولين لا طمعا في محاكاتهم والسير على منوالهم ، بل لكي يتعلم أساليب جديدة في البحث والفهم والتفكير والتنظيم والاستدلال.المدرسة الناجحة هي التي توفر لمريديها فرص الاختلاف عن الأولين دون لعنهم، أو التبرؤ من انتاجاتهم. بهذا فهي ستسمح للمتعلم بأن يستشعر ضرورة الابتكار دون خوف من مخالفة السلف، أو مصادمة الجد المقدس القابع في نصوص لا تقبل الاختراق أو حتى التسويد بقلم المراجعة والتدقيق. يستحيل التخيل الحر وعين الرقيب الميت لا تفتر عن حراسة فضول الخلف، ورغبته في ارتياد آفاق جديدة لم يطرقها خياله، أو السير في رحاب واحات مكتشفة لم تطأها أقدام القدماء بحكم افتقارهم يومها للوسيلة المناسبة والكفاية العقلية الكافية . ستنجح المدرسة في أن تكون يوما ما جزيرة مغرية بالاكتشاف لما ترفع القيود عن الذكاء، والحذر عن الزمن، والرقيب عن الإبداع الذاتي للمعلم والمتعلم، ولما أيضا تدفع الكل لكي يتحرر من إحباطاته وعيوب طفولته، وجروح تنشئته، ووساوس شيوخه، ولواعج سياسييه، ومرض الاحتفال بالأصالة البائدة أو المعاصرة المتسكعة في العلب المستوردة، والابتسامة الصفراء في وجه الرداءة المتكبرة التي تحتفي بالمناصب والامتيازات أكثر من انشغالها بالفعل التربوي الذي لن يكون إلا رحلة أبدية في تاريخ البشرية وسفر ضوئي في مستقبلها.المربي الحقيقي هو صنو للمربية الحاضنة لهشاشة الطفولة، صديق الأمومة، حفيد النبوة، رفيق الديمومة، خليل الحدوس الإنسانية، رقيق المشاعر، متعفف عن المال وزاهد بالضرورة الوجودية في أواني الحياة، إنه رمز الحقيقة التائهة، منذ الأزل، بين الكتب والعقول والدهاليز السرية، حكيم لأنه يعلم الطفل معنى عمارة الأرض والمرور من الحياة بأمن وآمان، صادق لأنه وريث النبل والحفاوة الضائعة على عتبات التسول التقنوقراطي ال»حداثي» جدا.هيهات لم يبق منه سوى عبير الذكريات.
لغات المجتمع ولغة المدرسة لغة مدرستنا تقتلها الغربة والبعد عن روح مجتمعها، إنها تقرأ التربية بالعربية الفصحى أو بالفرنسية الشاعرة، لكي تمارسها كفعل يومي بدارجة مفضوحة، متهتكة، لأنها لسان منبوذ في خطاب التربية الرسمي. تربية تقال بلغة غير متوجة هي تربية بدورها متهتكة، لهذا سينتقل التوصيف الاجتماعي السلبي للدارجة أو الأمازيغية لكي يسم أيضا الفعل التربوي الذي سرعان ما سيخر من عليائه الخطابي لكي يصبح قولا مبتذلا في لغة حارس يكلم تلميذا في الساحة، أو معلم يستشيط غضبا بدارجة جريحة، أو مدير يشتم عونا، أو يؤدب قسما، أو يستفسر مدرسا. إنه اللسان الحقيقي الذي يفجر زيف اللغة التي تحتفي بمعقولية أخلاقية داخل حجرات منفصلة روحا عن منطق الحياة وألسنه.ليس العيب في اللغة العربية التي اختارها أجدادنا لكي يجعلوا منها لغة المعرفة والعلوم بكل أنواعها، بل المشكل هو في عدم الارتقاء بلغاتنا الوطنية لكي تزول عنها كل الأوصاف القدحية التي تأسرها في صورة شيطان يشوش على العربية الفصحى. لن يتقن أبناؤنا العربية كلغة للتعبير وكلغة للتواصل داخل الفصول الدراسة والمدرجات الجامعية إلا بإعادة النظر في تدريسها والاجتهاد في تطويعها لكي تتصالح مع اللغات الوطنية بدون تعالي أو تشويه. وعلى فقهاء العربية أن يتعلموا كيف أن اللغة إذا لم تعانق حياة الشعوب اليومية لن يمكنها أن تكون سوى تحفة يمجدونها ويتملقون كبريائها بقرابين تنحر القلب النابض للغات اليومية التي تعتبر حقا هي لغات الأم لأطفال مدارس بلادنا، وتقديسها بطريقة فجة هو الذي سيجعلها تأسر وعينا دوما داخل أنساقها التي لا تساير منطق العصر وعولمة الاتصال.ليس هناك ما يبرر التخلي عن العربية لأنها لغة تجذرت في لا وعينا كحاملة للوحي والتاريخ المقدس الذي تحيكه الكتب التي صيغت ببيانها، بل المطلوب هو مساءلة أدوراها البيداغوجية والإعلامية والتحسيسية حتى تسمح لنا بتعديل علاقتنا بها ونحن ننتظر منها أن تنساب في منطق الحياة والتفاعل مع الحاجات التي تفرض نفسها علينا. السؤال الذي يثيرنا هنا هو فهم لماذا لا يتعلمها أبناؤنا حتى وهم في نهاية الدروس الثانوية التأهيلية، حيث تندر الإنشاءات التي تحضر فيها اللغة العربية سليمة أنيقة معافاة من كل الإصابات واللوثات التي يبدو أنها لن تغادر كتابات التلاميذ وهم يغادرون المدرسة برصيد ضعيف من لغة قضوا في تعلمها أكثر عشر سنوات.مأخذ اللغة يرحل بنا لسؤال تعريب المواد العلمية التي ومنذ أن تعرضت لهذا الذي يسمى، ظلما، تعريبا لم تكف عن إنتاج الانتكاسات تلو الأخرى، بدء بتفكيك المادة العلمية بين لغتين متجاورتين فرنسية وعربية، ومرورا بتقويض البنية المنطقية للبراهين والاستدلالات، وانتهاء بتمرين التلاميذ على ازدواجية فجة لا هي بالعربية السليمة ولاهي بالفرنسية المدرسية، بل يكونون بصدد تعلم تخريب رؤيتهم الفكرية وبنياتهم المعرفية التي لن تتشكل من هذا التنافس المختل بين لسانيين تمارس بهما عملية تدريس العلوم والرياضيات في نفس اللحظة مع اعتماد الترجمة لتدارك النقص في معجم التلاميذ الاصطلاحي.التعريب خيار إيديولوجي أملته ظرفية سياسية كانت لها علاقة بمرحلة هيمنة الفكر القومي العربي على مصادر المعرفة واحتكاره عملية توزيعها وبلوغها، مع تنميط رواده ووسمهم بالنخب المناضلة والطليعة الحاملة لثقافة المعارضة للغات المستعمر وهوياته المتكبرة. اليوم نعيش عصرا آخر، بمعادلات أخرى، ومدرستنا تسير نحو الاختناق بهذا التعريب الذي لا معنى لبقائه كابوسا مسلطا على رقاب أبناء الفقراء والقرى وغير المحظوظين الذين ليس بإمكانهم أداء فواتير الساعات الإضافية؛ ينبغي التفكير في عقد مناظرة وطنية للبث في لغات التدريس من جديد بما يكفل الحق لجميع التلاميذ في أن يستفيدوا من الدراسات العليا باللغات التي تقدم بها الدروس في كليات العلوم والمدارس والمعاهد العليا وذلك حتى نحقق بالفعل شيئا من هذا الذي نسميه، زيفا، بتكافؤ الفرص.ليس هناك من يجادل في أن التعريب أدى إلى تراجع نسبة التلاميذ، المنحدرين من البوادي الأمازيغية بالخصوص، في الالتحاق بالمدارس العليا المتخصصة في إنتاج المهندسين؛ وذلك عكس النسبة التي كانت سائدة قبل التعريب، هي ملاحظة لها ما يبررها لما يتبين لنا أن المفرنسين الذين استفادوا من تدريس العلوم بالفرنسية خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي يتشكلون في معظمهم من أبناء الصحراء والأطلس ومناطق قروية أخرى. إنها فرضية قابلة للتفنيذ والتصديق، لكنها تفرض نفسها لما نرى نسبة المدرسين بمدارس المهندسين الآتين من منطقة الهامش كالراشدية وقبائل الجنوب والشرق هي نسبة مهمة ومثيرة بالمقارنة مع الأجيال الجديدة التي يهيمن فيها العنصر القادم من المدن الكبرى، أي أبناء الطبقات المتوسطة التي تدفع ثمن الساعات الخاصة، أو تلك التي تدرس أبناءها بالمدارس الخصوصية التي تعطى فيها دروس الرياضيات باللغتين الفرنسية والعربية منذ الابتدائي، أو الذين يدرسون أبناءهم بمدارس البعثات الأجنبية. التلاميذ العلميين من أبناء الشعب المهمشين الذين لا يحصلون على معدلات مرتفعة ومنهم المتخصصين في العلوم الرياضية يفضلون اللجوء إلى كليات الآداب أو القانون كحل وسط بعدما يتبين لهم أنهم لا يستطيعون متابعة دروس كليات العلوم بلغة فرنسية يجهلون أسرارها.لقد أدى التعريب إلى خلق أجيال تابعة بشكل وجداني للشرق وقنواته الفضائية ، حيث شاحت بوجهها عن أوروبا وثقافتها العقلانية التي كانت من نصيب جيل قبل الاستقلال وبعده بقليل. التشريق كان مفتاحه التعريب؛ واستقطاب العقول من لدن الخطابات المتطرفة مهد له هذا التعريب المجاني الذي دفع بميولات الشباب إلى تمجيد الخطابات العاطفية الآتية من الشرق لأنها سهلة وانفعالية وتخاطب الوجدان، في حين غاب من مشهدنا منظر التلاميذ الذي يتهافتون لاقتناء كتب «زولا او فيكتور ايغو، أو قصيدة للمارتين، او رامبو او غيرهم من روا الحداثة الأدبية في الغرب. خسارات إيديولوجية كان التعريب مقدمتها، بل و ممونها الروحي. التعريب فتك بروحنا المغربية، وقبر خيال أطفالنا وطلق ثقافات مجتمعنا، وفقر لعب صغارنا، وداس على هويتنا الاحتفالية بشعارات مزيفة، وجفف ينابيع الضحك فينا ، ومسح من طاولاتنا كل ما ألفنا أكله أو شربه من عادات مطبخية كونية. التعريب ليس شيطانا رجيما، بل عاصفة رعدية زلزلت فينا قدرتنا المغربية على الحلم والسفر والتخييل.ليس هناك شك في أن مدرستنا تستحق أن تدرس فيها كل اللغات عربية و أمازيعية وفرنسية وانجليزية ، لكن تدريس العلوم ينبغي أن يحظى بمقاربة أخرى مع تطليق الخيارات القومية المشبعة بروح شوفينية التي لم يعد لها وجود سوى في بعض النداءات المنفلتة من تاريخ يحتضر في بقع معزولة عن التحولات العالمية الجديدة. قرارات حاسمة تحتاجها مدرستنا بعيدا عن الديماغوجية وحرب المواقع التي أفسدت مسارنا التعليمي في بنياته النفسية والتخييلية، إنها المقدمات التي مهدت لقتل العقل الذي طالما حلم به مفكروا الرعيل الأول بعد الاستقلال منهم العروي والجابري وأمليل وأركون وغيرهم من المنظرين الذين خاب طموحهم وهم يتابعون مدرسة تستعين بالمراهم البيداغوجية لتدليك أطرافها التي أصابها تصلب عضلي من قلة التمرين على الحيوية اللغوية وتغيير المسارات في أفق ملامسة المعارف من داخل المعاجم التي احتضنت مسارها التاريخي الأصيل.إنه العقل المنبعث من مخيال نشيط وبداهة لطيفة تفهم اعقد المعادلات وتحلل أعتى المعضلات؛ لكنه انفلت من وعينا لما اسلسنا القياد لتقليد الآخر الغارق في سبات مشرقي فيه العجيب والغريب أكثر من الواضح والظاهر.إنها الأسرار غير المرئية التي تجثم على أسوار المدارس المتهرئة، والحجرات المكتئبة، والشعارات المنتكسة، والأقاويل اليابسة التي فقدت بريق المجاز، ونور الحق الذي لا يتجلى إلا في العبارات التي تدل على الجرح والنزيف. بين هذا العراء وذاك المعنى الحالم بمجد معلم قضى في أزمنة التعاويذ والرقى التي تعالج كل شيء إلا الموت، لا يملأ الفراغ سوى حفيف الأفاعي التي اغتنت بمأساة روح مجتمعنا، وسموم الكراهية التي تنقض على الأرقام والمعادلات الجوفاء لتصنع منها مهرجانات الانتصار على الحقيقة المؤلمة، والانتقام من الإعاقة التي لن تقدر العبارات المسكوكة عل مواراتها التراب.لقد قرر تاريخ الكون تأجيل موعدنا مع ربح رهان مدرسة لكل الناس، مدرسة قادرة على أن تمنح العلم ملفوفا في كراسات حية، تنتفض فيها الحياة، وتتدفق منها رائحة طفولة حالمة بالمغامرة والاكتشاف، دون خوف من امتحان يكره العقل ويمقت الذكاء، ويؤجل حديث الوجدان، ويطيح بمجد الشرود الذي يحرر الطفولة من أسقام الجمود، و لا ينتصر سوى للتكرار والاجترار. أجل مؤجل على الدوام، لأن التربية فعل بسيط أخف من الهواء، وأثقل من الرياء. لا يستحيل أمرها إلى صناعة يتفنن فيها دعاة التقنية والتقنين، لأنها نفس عاقل يحمل ريحا رقيقة لتغذية الروح بالطمأنينة وبالرغبة في الكمال الخلقي والرشد العقلي.المدرسة المنتظرة لن تجبر المعلم على أن يكون حكيما وهو منشغل بعلله وخصاصه الذي لا يريد أن ينتهي، ولن تفرض على المتعلم نظاما لكي يصير بصيرا متبصرا قبل رشده، إنها الأم التي تعطي بدون أن تقبض، وتمنح لكي تموت ويحيا الصبية سعداء طلقاء كسحاب صيف جميل. هي الصفاء الذي يطهر المجتمع من رجس المال وعوائد الملل. لكنها ستظل مجرد طيف هارب لأن كرم الروح قد جف من مشاتل التربية تاركا الفضاء برمته حكرا لسماسرة العلم والنجاح المعلب بين أنياب الدفع المسبق أو الرسوب اللامشروط. لكن الحياة تتكلم لغة أخرى سيظل الشعراء والفنانون والفلاسفة يحفظونها كجمرة النار المقدسة في انتظار بزوغ فجر مدرسة بدون مقابل.
عبد الإله حبيبي
الاتحاد الإشتراكي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.