المدرسة التي تسلب الحياة من أجساد الصغار هي حتما مؤسسة تكره الطفولة، وترفض السفر في عوالمها. لا يمكن لمثل هذا النموذج من الفضاءات أن يستضيف العقول، وينير القلوب، ويساعد الحلم على نيل مملكته، وإشباع رغبته في معاكسة الاستقامات المريضة. الضجر حتما سيخيم على سماء الساحات التي يدخلها التلاميذ وهم خائفون من أن يعاقبوا، إن هم تشبثوا بحقهم في ممارسة الشرود كلحظة مقتطعة من زمن التعليم، الذي لا يعترف سوى بالإنصات إلى الخطاب المدرسي الجاهز. الشرود لا يعني الشذوذ، أو التمرد على النظام الذي هو شر تكرهه الطبيعة البشرية التي تستطيب المشي بدون حواجز، بل يفيد الحق في تحويل هذه الرغبة إلى مستوى الخيال، الذي سيضمن للحياة التلقائية بأن تستمر وتحاكم مدى تجاوب هذا النظام الصوري مع أحوال النفس التواقة للتحليق في متاهات عوالمها الغامضة. هاهنا يداهمنا سؤال خطير ومغامر: هل ينبغي للحلم أن يختفي من التواصل بين المدرسة والطفل لكي تسود المعرفة وينتصر العقل الذي تم تطهيره من رجس الحياة، ودنس الخطأ الذي أصبح خطيئة تستحق الوعيد؟ ما معنى الفعل التربوي الذي يصادر الخيال بعد أن يلوثه، ويشيطنه، ليبقيه خارج أسوار المدارس، وكل المؤسسات التي تختنق بروائح المنع وتفقير الرغبة في التحرر من جمود الأفكار والمعارف الجافة؟ كل تلك الأجيال التي خبرت مدارس الضجر أصيبت بداء كراهية الحياة، في مقابل تمجيد معقولية الصور والنماذج النظرية التي لن تؤثر في الحياة، ولا في النفوس التي ستظل دوما تطلب شغبها وفوضويتها حتى وهي تمارس طقوس الخلوة والتقديس . الضجر من الحياة هو المقدمة النفسية للإقبال عليها بشراهة مرضية وعنف احتفالي مدمر للذات وللأخلاق معا. لهذا فمن نتائج طرد الخيال ومتعة التشويش على العقل من العلاقة التربوية ، تهييء الأجواء الباطنية في نفوس التلاميذ لكي يؤجلوا عيش الحياة بقوة واعتداد بالحيوية والنشاط، كلما تحللوا من النظام واستعادوا حريتهم، التي ستصبغها تيارات تمجيد الجسد بألوان خادعة ستقودهم حتما إلى الموت في جحيم المتع المحرمة. العنف سببه ممارسة العنف على الرغبة في قول الحياة والتغني بمجدها، في مقابل الرفع من قيمة المعارف المغلقة على نفسها، التي تقدم في شكل علب من الوصفات غير المسموح بالنبش في محتواها المخفي عن عيون الفضول الطبيعي، إلا لما تحل عاصفة الامتحانات الكاشفة لزيف هذا الإدعاء. لهذا أمسى الغش هو الأسلوب المباشر للتمرد على مدرسة الضجر التي تفضل النجاح في الامتحان على النجاح في الحياة. قول الحياة معناه السماح للذات بأن تكتب عن نفسها وهي تمارس الحلم على هامش البرامج التي تسوق لنماذج متعالية بقوة القانون واللغات الداعمة له. قول الحياة معناه هنا الاستمتاع بالشرود كوميض يخترق العقل وهو منهمك في حل المعادلات وتفكيك الخطابات. لهذا فعندما تختفي المتعة من درس العقل يموت الوجدان الذي هو الطاقة الحقيقية التي تمنح لهذا الأخير مبررات الوجود. ضد هذا النموذج قاد الفلاسفة المتشبعين بألوهية اللوغوس حربا ضروسا ضد النفس المبدعة لفنتازم الرغبة التي اعتبروها شيطانا مخلا بنواميس المنطق الذي سيعصف بتراث تقديس الجسد وقواه الباطنية الملتبسة بالحلم والجنون والسمو، والبحث عن المجهول في طقوس المرور عبر عوالم النفوس، وممالك الأسرار التي تخفي لغز الموت والخلود. لا زلنا إلى اليوم نعيش في مدارس الإغريق الذين تحفظوا على الشعر والخطابة والوجدان، حيث جعلوا هذه القوى في مصاف العوائق التي تحد من فعالية العقل وسعيه الحثيث نحو نيل المعارف المطلقة والمعقولة، أي تلك الحقائق التي لا تتبدى إلا عندما ينقطع أثر الوجدان والحواس، لكي يتمكن اللوغوس من العمل وحيدا دون قلق الرغبات أو ضغوط الجسد. سيظل الخيال ومنتجاته من حلم واستيهامات وشرود وأضغاث الأحلام والرغبات والانفعالات والعواطف والحب والفنون العاكسة لها، محكوم عليها بالتسكع في دروب التاريخ، وعلى هوامش المدن التي يحكمها العقل المتعالي أو النص المقدس. لن تعود إلى دائرة الضوء إلا بعدما يفسد العقل اللعبة، وينهار بنيانه على رؤوس عابديه، وذلك لما يفشل في تدبير الخلافات والقضاء على النزعات العنصرية، والنوازع الوطنية التي ستفجر حروبا كونية ستكلف البشرية ملايين القتلى والجرحى والمعطوبين والأيتام والأرامل. إنها الاستثناء الذي قلب الموازين في تاريخ الغرب وحرك فيه نزعة مراجعة العقل وتمتينه بمرجعياته الأخلاقية التي كانت بديلا لأخوة لاهوتية سرعان ما بدد فراغها ضوء الثورات التي أعادت للإنسان وهجه الأرضي وهو يتقلد زمام عيشه في هذا العالم السفلي الذي هو عالمه الخاص. الموقف من العقل الحربي الجرائمي لا يعني ضياع العقل الأخلاقي بل هي مراجعة تاريخية للتطهير النقدي للعقل من جموح النزعات العنصرية القاتلة. لكن المدرسة ستظل في قلب المعترك الحضاري وعلى الرغم من حروب الحدود والهويات فإنها ستنتهي إلى إنتاج أجيال ستصنع أوروبا الموحدة والعملة الموحدة والمصالح المؤتلفة. إنه إنجاز تم التخطيط له تربويا لكي يخلق أجيالا من المسؤولين هم الذين سيحققون أحلام الجيل السابق الذي حلم بجمهورية أوروبية موحدة. إنها العملية التي صنعت ذكاء ملفوفا في فلسفة العلوم وفلسفة التاريخ، تحكمه رؤيا دينامية لعلاقة المعرفة بالمجتمع والوعي بالثقافة، إنها المعادلة التي سمحت للغرب بان يوطن العلم في عقل المجتمع ويجعله قوة صانعة للقرارات دون نسيان الكينونة التي سيستعيدها الفلاسفة الوجوديون من سباتها العميق منذ أن تذكرها هايدجر وجودا هنا تحت السماء و فوق الأرض كما كتبها له شاعر ألمانيا الكبير هولدرلين. لن ينفصل بعدها العقل عن الخيال الذي سيسترجع قوته كحامل لحقيقة إنسانية طالما تغنى بها نيتشه في شكل إرادة للحياة هي التي ستكتب شعرا وحدسا وذوق رفيعا وادبا رقيقا. وراء العقل الغربي فلسفة وحدوس إنسانية كثيرة ووجدان ذكي هو الذي صنع العالم الفيلسوف والمهندس الملتزم بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ لكن ما هو يا ترى الوضع في مدارسنا نحن الذي لا زلنا نتلمس العلاقات المرتبكة بين الفلسفة والعلم والتاريخ والحقيقة التاريخية والفهم الجدلي في مقابل الأحكام العامية. الرياضيات بدون فلسفة الحياة ضياع للعقل في مدارسنا، يظل درس الرياضيات يزحف وحيدا في خلاء الرمز، وصحراء المجرد، بحيث لن ينتج سوى كائن بدون وجه، أو عقل بدون روح؛ إنه المشتل الذي يصنع المهندس المنقطع عن الثقافة، والمرح، والحياة، والشغب، والفن الذي يحتفي بهذه الألوان من منتجات الخيال الذي لا مكان له في درس العلوم. إنه قد يبدو كعدو يتربص بالدقة، أو كفاجر يبحث عن المتعة في كشف عورات اليقين النسبي. إنه الإرث القديم الذي ضاعف حجمه تراث المنع والخوف من العقل المتسائل. الرياضيات في صفاء تام هي خطر على المجتمعات التي سيظل عقلها الحسابي هذا منفلتا ما لم يتذوق شعرا، أو يقرأ أدبا أو يراجع تاريخ المعارف والمفاهيم الفلسفية، والمعارك الحضارية التي عرفتها الإنسانية قبل أن تستقر على قيم كونية بها ستضبط العلاقات وتتصدى للتجاوزات. الرياضي الجاف، أي التقني المتخصص في حل المسائل، هو مشروع حرفي قاتل بدون أن يدرك ذلك، قد يستعمل ضد العلم، ضد وطنه وضد تاريخه وهويته، لأنه لم يتعلم كيف يؤلف بين العقيدة والحساب، أو بين التاريخ والمعرفة العلمية. المدرسة التي تنتج مثل هؤلاء تقدم مجانا رجالها ونسائها لكي يصبحوا وقودا في محركات الذين يحترفون الغوغائية لنشر الفوضى في الكون باسم العقيدة المظلومة، أو تدفعهم لأن يبيعوا خبرتهم لمن يدفع أكثر حتى ولو كان الدافع من المتربصين بمستقبل البلاد وبمصيرها الحضاري. لا ينبغي أن نفاجأ إذا وجدنا عالما أو مهندسا يسكنه خيال ضعيف، أو يقتله حلم بئيس وهو يمارس نشاطا عقليا جد معقد؛ بل قد نراه أحيانا يؤتي أسوأ التصرفات وهو ينتقم لخياله الذي ضاع منه في المدارس التي علمته كيف يكره وجدانه، وكيف يتخلص من روحه إن هو أراد أن يستضيف في ذاته عقول العلماء وطيف العباقرة. كم مرة تعلم فيها أطفال مدارس الضجر كتابة شعرهم، بلغاتهم، وجنونهم، وبحروف دمائهم، دون أن تنال منهم عصا طاعة البرامج التي تقدس مبدأ غامضا لأنها ترفض حديث الوجدان الذي يخلق الأنس بين الطفل ومدرسته، أو بينه وبين هواجسه التي إن تعلم كيف يحولها إلى كتابة، لن يكتوي بنارها وهو كبير، ولن تستعمل ضده وهو مراهق يشق طريقه بين مخالب تجار الأجساد والمتع الخادعة. لا خوف من الشعر المتفجر بالحياة، ولا حصار على فلسفة تمجد الخيال والحياة، بل الخوف كل الخوف من النزعات الطهرانية المنافقة التي تمجد المعرفة لكي تقضي سرا على الحياة كشرود طبيعي في نفوس الصغار، قبل أن تتلقاهم صناعة الخدع لكي تحولهم إلى عبيد جدد للرغبات المكبوتة. يكبر الصغار وهم يتدحرجون مجرورين من المدارس النهارية إلى غرف ليلية التي ستسرق فيها جيوب أسر وضعت ثقتها العمياء في مدرسة الوطن، فإذا بها تفاجأ بأن ما يعلم في النهار هو مجرد ظل عليل لما ينبغي أن يتلقاه الصغير في إحدى الدور التي يكتريها المحترفون المتخصصون في اقتناص ضعف العقل الذي خانته الحياة. كيف ستكبر صورة الوطن في نفسية طفل ترهقه الدروس المجانية، وتستنزف ما تبقى من قوته الدروس الخصوصية. لمن نعد هذا الطفل، هل لتحقيق حلم أسرته بالنجاح الشخصي وليسقط كل شيء من بعده، أم من أجل نهب الآخرين عندما تعطى له فرصة للتحكم في معرفة ما، أو امتلاك خبرة نادرة، أو احتلال موقع مسؤولية يدر المنافع المالية. لن يجد يومها الشعراء ظلا لقول مجازاتهم، لأن بضاعتهم قد تم قتلها في منبتها الأصلي، أي في فرح الأطفال. دروس في النهار وأخرى في الليل تباع لكي تقضي على الخلل الذي يقال أنه يسكن الحجرات العمومية، وكلها هرولة نحو تجفيف روح الطفل من حب الخيال الذي سيدفنه بين هذه الخطوات المتعثرة، التي تارة تلبسه زي التلميذ المدني، وتارة تحوله إلى زبون يبحث عن الصعود بأي ثمن. إنه الجسد المذنب على الدوام، المرشح للتفكيك والتمزيق باستمرار، لكنه يتمسك بعناده ككيان مقاوم شرس، لا ينفك عن طلب المعرفة والنجاح حتى ولو قضى حياته على سرير الحلم الذي سيطرد النوم من رموشه إلى الأبد. كيف يمكن أن يكون المستقبل ممكنا لبلد تخلى عن صغاره لكي يتركهم فريسة سهلة بين أنياب ذئاب المال التي تنقض عليهم من كل الجهات، ولكي يسمح لمنطق الاختلال بأن يمعن في إطعامهم ذوق الكذب من كل فنون المكر والخداع؛ كل هذا من أجل أن ينتصروا مؤقتا على الامتحان، لعل بعضهم أو الأقلية منهم ستظفر بمقعد خشبي مزيف في حجرة جديدة تلمع فيها علامات الشرف أو النخبوية الساذجة. أقسام تحضيرية، أو أقسام تأهيلية، أو تصفيات أولية. الكل سيان مادام الإقصاء هو معيار المرور والانتقاء هو قانون الفرز والصعود. الناجون من هذا الجحيم قلة هزيلة، أما المكتوون بنارها ففيالق من الملعونين الذين ستلفظهم الآلة المدرسية بعدما تقضي وطرها منهم لكي تسلمهم جثتا محنطة ستنقش عليها الأسقام كل الشعارات التي تتغنى بالعبثية والعدمية، والسخط ، والتبرؤ من العلم والمعرفة، والأسرة والدولة والدين وكل أنواع السلط التي كانت تقدم وصفاتها لهؤلاء لما كانوا صغارا أملا في أن تقيهم شر رفض القدر باسم الرضي بالمصير. صغار اصفرت وجوههم وهم في بداية الصعود، منهم من انتفخت أوداجه وأصابته السمنة من شره الخوف من كل ما يراه أو يقال له عن المدرسة والنجاح. وآخرون تعلموا فن الرقص المتطرف على الطوار بدل ارتياد حجرة باردة لا مكان فيها للغة الجسد الضئيل. إنه الموت الجميل الذي سببه نسيان الخيال الذي هو صنو الحرية والتحليق الرشيق لجسد يحلم بأن يقلد العصافير ويرحل إلى أعشاش الحلم في سماوات المجد الذي لا تراه سوى عيون الصبا، أو المراهقة المتوثبة نحو شباب يتأجج قوة واندفاعا لتحقيق المستحيل في عرف الشيوخ القائمين على مدرسة أنهكها مرض الخوف من الحرية. وسواس الامتحان التحضير للامتحان، تجريب الامتحان، التخويف بالامتحان، النوم على هواجس الامتحان، الساعات الإضافية من أجل التمرن على القضاء على الامتحان. الحفظ لغة الامتحان، الغش وسيلته، الفوضى مجاله، العنف هوامشه، النسيان مآله. لهذا لا مكان للمعرفة وللتعلم وللحياة في مدرسة الامتحانات والتقويمات المتتالية. نفكر في القياس، في المعايير، في الموازين في كل البضاعة الإحصائية التي حملتها لنا موضات المقاولات المريضة بتحرير العالم من الإنسانية والجمال لصالح الآلية، والأجساد المستعبدة، والقلوب المنفطرة بحب الأسياد ومالكي الأرصدة المجمدة في كل الأبناك التي منها نتسول لبناء حجرة، أو ترميم جدار، أو تمرير بيداغوجية صفراء، أو طبع قصيدة لشاعر مات قبل أن يؤلفها؛لكن قلما نتألم ونحن نرى جموع المنبوذين من المستقبل وهم يتكورون فرقا وشيعا بحثا عن مساحة ليمارسوا فيها الصياح والتبرؤ من مدرسة كانت سببا في الإلقاء بهم على هوامش العطالة، والتآكل البارد بين العمر الذي لا يرحم، والوظيفة التي ترحل باستمرار عن أفق الانتظار. مدرسة الامتحانات هي التي تعلمهم تلمس الحياة بكل الوسائل حتى القذرة منها لأنهم لا ينظرون سوى إلى النتائج. الامتحان اختصر التربية في أسئلة نمطية وامتص الزمن المدرسي كله، وحكم على المدرس بالتفكير فقط في إنهاء برنامجه والتخلص من دروسه ؛ الامتحان حافز على نسيان المعرفة وتمرين فقط على تجاوز عائق، لكنه لا يسمح بتأمل الخبرة المتعلمة، أو المعادلة المنتصبة، أو الفكر ة الفلسفية التي جاءت منتصرة على السذاجة من أفلاطون إلى اليوم؛ الامتحان هاجس المقاولين الذين يبحثون عن النسب المائوية بعد نهاية كل سنة دراسية؛ الامتحان هاجس دولة ورهان سياسة، لكنه سكين به تنحر المعرفة، وتسلخ البيداغوجيات، وتقطع الحقائق إربا إربا لكي تلتهمها عقول الصغار في شكل أكلة خفيفة يعقبها إسهال حاد بعد نهاية كل امتحان. برمجة العقول على تقنيات الامتحانات هو منطلق كل الدروس التي تعطى اليوم في مدارسنا، حتى الجامعات التي يعول عليها في تحرير التعليم من الضمور قد غذت بدورها مرتعا خصبا لترسيخ منطق الامتحان الذي لم يعد مناسبة سرية يعبر فيها الطالب عن قدراته ويشرح فيها أطروحته، بل أصبحت كتابته ورقة بين يدي مدرس يقرا الأسماء ويتعرف عليها كشخوص لكي يمنح النقط بعد ذلك، هل هذا هو الامتحان الجامعي، أو هو مجرد مراقبة مستمرة لا ترقى حتى للتقويم الابتدائي. جامعات لا أقول كلها بل اغلبها تنتج أطرا من نوع خاص، عارفين بقشور المعارف، لأنهم درسوا بالتقسيط، ونجحوا بالاستدانة، وتخرجوا وهم مدينين للوحدات الدراسية بعودة متكررة لإنهاء الامتحانات التي تظل تطاردهم وهم في متم مسارهم الدراسي. كيف نتعلم في الجامعات اليوم، ما هو المنطق الذي تنظم وفقه المعارف، ما دور مدرس التخصص، ما أفق انتظار الطلبة، هل تراهن مدرستنا على منتوج جامعي يعاني اختلالات بنيوية يوجد على رأسها فقر المستوى العلمي و ضعف الأداء اللغوي، مع عدم قراءة المراجع التأصيلية في التخصص، إلى جانب هيمنة العموميات، ونقص في الأعمال التطبيقية والبحوث والدراسات، حيث تمتلئ المدرجات بمن أقصاهم امتحان المدرسة ليجدوا أنفسهم في مسار جديد من الامتحانات التي سيكون فيه المدرس هو الحاكم بأمره والمتحكم في مصير هؤلاء الذي سيعملون بمطبوعاته التي لا ينبغي شراء القديم منها لأن المدرس الجامعي يضع عليها طابعه حتى لا يعاد استعمالها من لدن الطلاب الجدد؛ إنها بضاعته التي ينبغي اقتناءها وترك بضائع الآخرين، أي ترك ما كتبه الآخرون في نفس الموضوع لان الامتحان سيحسم المعركة لصالح منطق الاتجار في المعرفة وتحويل الطلبة إلى مجرد زبناء لمن تعلموا كيف يختصرون العلم في كتيبات تكرر نفسها لتحتل كل مساحة التفكير والاجتهاد الذي غادر كلياتنا منذ أن فكرنا في إصلاحها بمنطق المقاولين. كيف يمكن إذن الرهان على مدرس خرج من رماد هذا الفرن الهزيل، هل به يمكن صناعة مستقبل بلد ومصير امة، ما موقفنا من الجامعيين الذي لا يطالهم الحساب وهم الذين يمنحون الشواهد والدبلومات التي بدأت تعطى خصوصية على هامش العمومية التي القليل من المحظوظين هم من سينال مجدها، خصوصية الماستر تمنح المرور للكثير من هواة تسلق المناصب والمواقع على حساب حرمة منابر العلم ورصيدها الجليل. لنا عودة لهذا الألم في مقالات مقبلة بحول الله. سخرية المصير عندما يقال لشاب اعتصر الانتظار كل ما تبقى له من نبض في الدماء، أنك لا تتقن حس المبادرة ولا عشق المقاولة، وأنك مليء بالعيوب التي تثقل كاهلك المعرفي بدون جدوى، وأنك قضيت خطأ عمرك في مسيرة مدرسية مختلة المقاصد، وأنك لا تصلح للوظائف العصرية لأنك قديم كمعارفك ، وساذج كقيم مدرستك ، وصادق كقلب أجدادك، وواضح كشمس بلادك، ومصمم العزم كدماء ثوارك، وباق كتاريخ وطنك، ورقيق كحنان أمهاتك، ورجل صنديد لا أثر للأنوثة الباذخة على جسدك، إنك أحمر كتربة بلادك ، «بوري» جدا كنبات السدرة المبارك، جاف كشجر الأركان، قوي البنية كشجر الأرز الأطلسي، هش كالمحبة والإيثار، مخيف كالقدر، لا يليق وجهك العبوس ليملأ ويؤثث واجهات المكاتب الكاذبة ، ولا تحتمل الكراسي المخملية جثتك البدوية الخشنة، ولا يمكنك الابتسام على الدوام في وجوه زبناء يكرهون الرجولة والفحولة حتى الغثيان. عندما يعرض في وجه شاب اعتصره الانتظار كل هذا الصك من الاتهام فلن يبق له ساعتها سوى أن يرحل إلى السباحة ليلا دون انتظار لكي يعبر الأطلسي، أو ليغوص في ظلمات المتوسط ليثبت لهم أنه فعلا لا يخاف الموت، ولا يرضى المسكنة، وأنه كآبائه الأولين سيرحل في قمة الصمت دون أن تراه عيون الذين يكرهون رجولة البلد. أبسط قول هو الإدانة، لكن أعسر إنجاز هو فهم الأزمة، وتقويم النكسة على ضوء العقل المستند لوجدان إنساني رفيع المقام الذي لا مفر من قبول حكمه والإصغاء لبيانه. التمويه والعجرفة والسير في الطرق المظلمة خوفا من نور الشمس الساطعة هو الذي سيمنح الدفء للكذب الذي سيبيح بدوره الإذن للرداءة لكي تمر، وتحتل المناصب، لتصدر القرارات الخاطئة لأنها جافة كالحجر، ومتداعية الأطراف كالأسوار العتيقة، ومنخورة بالارتشاء والنفاق ومداراة الغش والرياء، وفاقدة السند كالنخيل الذي يحمل من الواحات لكي يزين الجنبات قبل مرور الزوار، وانهمار المطر الذي سيكشف زيف الثمار، وكيد الرجال الذين يحملون على أكتاف العائلات والأقربين والمقربين والمتوجين لكي يسطروا المستقبل ويخططوا المآل لأجيال منتكسة قبل البدء. حديثنا عن الخيال قادنا إلى مقابر السقوط؛ إنه الغياب الذي تحل محله الصلابة البليدة والجرأة الوقحة. لا يتعلم الإنسان الصدق بالقول والنصيحة، بل بالقدوة والمصاحبة. أين هي إذن المدرسة التي ستمنح له فرصة معاينة القيم وهي تمشي الخيلاء على قدميها مرفوعة الرأس، منتصبة القامة، لا تفتر أمام الجبناء أو الأجساد التي أنهكها الغش والتدليس. إنها اليوتوبيا المستحيلة، أو التعلق بالمدن الفاضلة التي قادت الفلاسفة إلى جحيم الانتحار على أبواب المدن الضالة. طفل مشاغب هو رجل شجاع في المستقبل. هو ذلك المبادر الذي تبحث عنه المقاولة العصرية لكي تمارس به الحرب بلغة أخرى وبوسائل عصرية لم يألفها إنس أو جان. تتغير الأسماء، لكن تظل القيم ثابتة صالحة لكي تحافظ على التوازن بين الخير والشر، والصلاح والفساد، والحسن والقبح، والزيف والصدق، والحقيقة والوهم. إنهما عالمان يتنافسان منذ الأزل على من ستكون له السيادة على الأرض من خلال امتلاك عقل وقلب وخيال الإنسان. لكن الإله أقسم في كل كتبه أن الأرض لن يرثها إلا عباده الصالحين وفي مقام آخر إلا عباده المستضعفين.