- ما مدى تأثير الأسرة والمدرسة على تهذيب سلوك الطفل؟ وهل الطفل العنيف نتاج قصور في دور كل منهما؟ - تعتبر الحياة المدرسية صورة مصغرة للحياة الاجتماعية محددة في الزمان والمكان (الزمن المدرسي/فضاء المؤسسة ومحيطها)؛ وتكاد الحياة المدرسية الزمنية التي يعيشها التلاميذ داخل المؤسسة التعليمية تشابه إلى حد كبير الحياة الاجتماعية في تفاعلاتها وانجذاباتها وتأثيراتها السلوكية والاجتماعية والثقافية على نفسية الفرد المتعلم في علاقتها بالآخر، والمحيط، والواقع المعيش. والمدرسة باعتبارها امتدادا طبيعيا للتربية التي يتلقاها الطفل داخل الأسرة، وفي المسافة المكانية الفاصلة بينهما تتأثر بالعوامل الفاعلة في المجتمع سلوكا وممارسة، ويعيش الطفل/المتعلم حالات تجاذب بين ذاته من جهة، وبين الأوساط الأسرية والمجتمعية والمدرسية التي يعيشها من جهة أخرى، والتي تبلور شخصيته وفق القيم والمبادئ والمواقف التي يحياها. دون إغفال حالات التطور والنمو الفيزيولوجي والنفسي والعقلي التي يعيشها الطفل عبر مراحل نمائه. وكثيرا ما تتشكل بنيات شخصيات الطفل/المتعلم بإيجابياتها وسلبياتها، في مدها وجزرها، بفعل هذه المؤثرات التي تظهر واضحة لدى البعض في حالات حياته اليومية بين الأسرة والشارع والمدرسة، أو قد تفتر في حين وتطفو في أحيان أخرى بفعل العوامل المؤثرة في نفسيته وسلوكه. وأدوار الأسرة والمؤسسة هي تأطير هذه السلوكات وتوجيهها بكيفية مستدامة لبناء مشروع مواطن الغد، وكل تخل أو فتور أو تراخ في أداء كل طرف لمسؤوليته يترك للجوانب السلبية والسلوكات اللاتربوية فرص الظهور والاستفحال؛ سواء أكانت تلك السلوكات السلبية تأخذ مظاهر العنف، أو الانحراف، أو الانحلال، أو غيرها من أشكال السلوكات التي تعد منافية لمسلكيات التحضر والمدنية وفق المتعارف عليه داخل هذا المجتمع أو ذاك. وقد يبدو لأفراد هذا المجتمع أن ما يعتبرونه سلوكا غير مقبول يصل إلى حد الانحراف، يظهر لدى أفراد مجتمعات أخرى سلوكا عاديا غير ذي بال، بل لا يعيرونه أدنى حالات الاهتمام والانتباه؛ لأن الدلالات السلوكية للحالات تأخذ أبعادها ومفاهيمها في ضوء المتعارف عليه داخل قاموس قيم هذا المجتمع أو ذاك. ومظاهر العنف التي تعرفها بعض المؤسسات التعليمية في الغرب مثلا، والتي تصل إلى حالات القتل، واستعمال الرصاص؛ هي تحصيل حاصل لما يظهر من مثل هذه السلوكات في الشارع عامة. ولا مجال البتة لمحاولة الإنكار أو التعتيم والقول إن أي مجتمع لا تخلو مؤسساته التعليمية من حالة من حالات العنف التي يعرفها المحيط والشارع؛ فالمدرسة في قلب المجتمع، والمجتمع في قلب المدرسة. - ما هو الوضع في المدرسة المغربية من حيث انتشار العنف بها؟ وماهي أشكال الاعتداءات التي تحدث في المؤسسات التعليمية سواء بين التلاميذ بعضهم البعض أو بين التلاميذ والأطر التربوية؟ - تبذل المؤسسة التعليمية بكل أطرها والفاعلين في حقلها جهودا قوية لتكريس القيم الأخلاقية والسلوكات المدنية الإيجابية ولنبذ كل أشكال العنف والانحراف والانحلال التي تمس المجتمع، كما تعمل على الحد من آثارها على الأفراد والجماعات؛ مستهدفة في ذلك تكريس ثقافة الحوار، وتقبل الاختلاف، واحترام المبادئ والحقوق، من خلال البرامج والمناهج الدراسية وأنشطة الحياة المدرسية في كل تجلياتها. كما أنه لا يمكن حصر مدلول العنف داخل المدرسة والمجتمع في شقه الجسدي؛ بل يتجاوزه إلى طبيعة السلوكات النفسية التي يمارسها الفرد تجاه الآخر (تلميذ-تلميذ/أستاذ-تلميذ...)، ويأخذ العنف أشكالا أخلاقية أخرى شفهية أو غيرها، في ضوء التمثلات السلوكية التي تسم هذا عن الآخر، سواء داخل الفصل الدراسي أو خارجه. ويعتبر بعض المربين أن ممارسة الغش في الامتحانات نوع من العنف المدرسي الذي يزاوله الغاش تجاه التلاميذ الممتحنين غير الغاشين. وقد يتأثر التلميذ المشاهد لحالات الغش بذلك فيعمد إلى تقليد حالة الغاش؛ وكأنه يقلد بطلا يتحدى بعنفه الآخرين لإثبات الذات؛ فيصبح الغش في هذه الحالة ظاهرة نفسية مرضية تحتاج إلى الكثير من العناء لحمل الغاش على الإقلاع عن هذه العادة وعن الإدمان عليها. ويلزم في هذه الحالة أن تتم حماية الغاش من نفسه بمراقبته وتأطيره من قبل مربيه أولا، ومن قبل زملائه ثانيا، لإرجاعه إلى حالته الطبيعية الأولى؛ حالة التلمذة. وإشفائه من علة الغش التي انتابته كي لا يداوم عليها. - ماهي، في نظركم، أسباب تفكك العلاقات بين أطراف العملية التربوية، أي التلاميذ والأطر التربوية؟ - تتمحور مختلف الأنشطة التربوية التي تقوم بها المؤسسة حول المتعلم؛ ليس باعتباره مستهدفا فحسب؛ بل لكونه طرفا في تحقيق الأهداف التي تسعى المؤسسة التعليمية إلى إقرارها. والحديث عن العلاقات التفاعلية بين التلميذ والمدرسة ليس حديثا عن تفاعل ثنائي (تلميذ-مدرسة)؛ بل هو خليط من التفاعلات والحمولات السلوكية لكل فاعل في الحياة المدرسية: تظهر من خلال علاقة التلميذ بأفراد أسرته وعلاقاتهم التفاعلية فيما بينهم وأثرها في سلوكه الشخصي. وفي علاقة التلميذ برفاقه في الحي والشارع والمدرسة، وفي علاقة التلميذ بأساتذته وبالأطر الإدارية للمؤسسة. إنها علاقات متعددة الروابط يصعب تحديد وجهة مسار كل علاقة تحديدا مضبوطا أو نمطيا. وكل تفكك يظهر في هذه الروابط يؤثر -لا محالة- على شبكة العلاقات التي تربط الطفل/التلميذ/ المراهق بالعوالم التربوية والاجتماعية المحيطة به، وتحدد في الأخير القيمة الأخلاقية لكل فعل وسلوك لديه. كما لا يمكن الحسم بتوقع نتائج هذا التفكك، بتحديد السبب للنتيجة؛ فنقول: إذا افترضنا مثلا أن أسباب توتر العلاقات بين التلميذ وأطراف العملية التربوية الأخرى (تلاميذ/أساتذة/إداريين) يرجع بالأساس إلى تفكك الأسرة أو مشاكلها الاجتماعية، وحاولنا تعميم النتيجة القائلة إن كل تفكك أسري يؤدي حتما إلى توتر في علاقة التلميذ بالمدرسة؛ يجعلنا هذا الأمر نجانب الصواب بهذا التنميط إذا جابهتنا حالات تلاميذ تعاني أسرهم من التفكك ومع ذلك استطاعوا تحقيق أعلى النتائج الدراسية ولم تظهر عليهم حالات العنف أو الإنحراف. فالأمر هنا يرتبط بدراسات لحالات إنسانية يصعب معها الحسم والتقرير. فالجزم بتحديد السبب قد يعتريه بعض النقص. كما أننا لا نتوفر على إحصائيات دقيقة حول عدد حالات العنف بين التلاميذ من جهة، وبينهم وبين الأطر الإدارية والتربوية من جهة أخرى. ولا نتوفر على دراسات تشخيصية موضوعية تحدد الأسباب بدقة، وتوضح المؤثرات المرتبطة بها توضيحا يمكن معه الحسم بالقول إن من أسباب تفكك العلاقات بين أطراف العملية التربوية تفكك العلاقة الأسرية للتلميذ، وما أثر ذلك في تحصيل التلميذ الدراسي، وسلوكه التربوي داخل المؤسسة؛ وهل لحالات النمو الفيزيولوجي والنفسي للطفل المراهق أثر في علاقته برفاقه وأساتذة وأهله؟ أعتقد أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بحدة هو ما مدى قيام كل طرف بدوره التربوي داخل المجتمع كلا؟ أليس للجار وصاحب الدكان، وللرجل الكبير في الحي والشارع الفاصل بين البيت والمدرسة دور في تربية الطفل/المراهق وتشكيل الضمير الجمعي له في سلوكه وممارساته؟ ألا يحق لنا القول إن الأسرة تخلت عن أدوارها التربوية وتنازلت عنها قهرا للآخر (قد يكون الآخر عابرا بالشارع أو مقيما به، كما قد يكون معنيا بالتربية والتكوين)؟! - هل برامجنا ومناهجنا الدراسية وأنشطتنا التربوية داخل المؤسسة التعليمية قادرة على الوقوف في وجه تيارات الشارع؟ ما دور القنوات الإعلامية والتواصلية الحديثة في تشكيل مواطن الغد وفق قيم المجتمع وغاياته؟! - إنه سؤال التربية الحالي في كل المجتمعات. - إلى أي مدى تخضع الاعتداءات بين المتمدرسين للقانون الداخلي للمؤسسات التعليمية؟ ألا ترون أن بعضها يرقى إلى مستوى الجنح والجنايات أحيانا؟ كيف يتم التعامل مع مثل هذه الحالات؟ - تتطلب الحياة المدرسية التي يعيشها التلاميذ والأطر التربوية والإدارية باعتبارها حياة جماعية مشتركة بينهم الاحتكام إلى ضوابط تسعى إلى ترسيخ ثقافة الحقوق والواجبات والمسؤوليات من خلال النظام الداخلي الذي يجسد الإطار التعاقدي بينهم، ويحدد الجوانب التربوية والأخلاقية والصحية والإدارية للمتعلمين في علاقتهم بالمؤسسة؛ سواء داخل فصول الدراسة، أو في مختلف فضاءات المؤسسة، بما فيها مرافق الداخليات. ويقوم كل إطار وفق الاختصاصات المخولة إليه إداريا بإنجاز مهامه وأداء واجباته. ومتى تبين أن هناك انحرافا عن ثوابت النظام الداخلي للمؤسسة يتم البث في حالات ذلك بناء على المرجعيات المخولة إلى مجالس المؤسسة والإدارة التربوية. وفي حال تجاوز الخطوط التربوية المحددة لتدبير الحياة المدرسية في إطار التشريعات المعمول بها بما يفيد انتقال الحالة من إطارها التربوي إلى الجنحي أو الجنائي فلذلك مساره القانوني وأبعاده الإدارية المعمول بها. - هل هناك إجراءات مرتقبة للحد من انتشار العنف في الوسط المدرسي؟ - إن الدور الأساس للمدرسة يتمثل في توفير المناخ التربوي والاجتماعي المناسب للتنشئة المتكاملة والمتوازنة للمتعلمين، وإكسابهم الكفايات والقيم التي تؤهلهم للاندماج الفاعل والإيجابي في الحياة، وترجمة تلك القيم والاختيارات إلى ممارسات سلوكية في حياتهم العادية؛ سواء داخل فضاء المؤسسة أو خارجها. وحينما نتحدث عن مواجهة التربية للمظاهر اللامدنية كالغش أو العنف أو غير ذلك، فإن تلك المواجهات يجب أن تتخذ أشكالا متعددة ومتنوعة يساهم الطفل/المراهق/المتعلم فيها للتصدي لتلك المظاهر؛ من خلال إشراكه في مختلف أنشطة الحياة المدرسية من حيث الإعداد والتنظيم والمساهمة؛ سواء أكانت هذه الأنشطة رياضية أو ثقافية أو فنية؛ لتمكينه من بناء شخصيته معرفيا ووجدانيا ومهاريا، ومن إظهار ميولاته وقدراته وإمكاناته وإشباع حاجاته، وتعريفه بواجباته ومسؤولياته، وترسيخ السلوك السوي لديه، والتصدي للسلوكات اللامدنية. ولعل التجارب أثبتت أن إشراك المتعلمين في أنشطة الحياة المدرسية والاستماع إليهم وتعرف على حالاتهم وحاجاتهم من خلال مكاتب الإنصات والاستماع، ومنحهم الحرية الكافية لاختيار الأنشطة الملائمة لهم، وتمكينهم من حسن تدبير أوقات فراغهم، وتحسيسهم بأسس ومبادئ الديموقراطية، وتعويدهم على ممارستها في الحياة المدرسية. كفيل بأن يحد من انتشار مظاهر العنف في الأوساط المدرسية وفي محيطها. كما لا ننسى أن دُور الثقافة، والأندية الرياضية، والاجتماعية، تلعب أدوارا أساسية في تجنيب الأطفال عامة، والمراهقين خاصة العديد من حالات التفسخ والانحراف، وتمكنهم تلك البرامج وغيرها من المؤثرات التربوية لوسائل الإعلام البصرية من تحديد جوانب شخصيتهم الإيجابية وتعدهم للحياة الاجتماعية بشكل أكثر اتزانا ومسؤولية. إن الحد من الظواهر السلبية في المجتمعات عامة لا تتحمله المدرسة وحدها؛ بل هي مسؤولية يشترك فيها كل المعنيين بتدبير الحياة العامة والشأن التربوي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتنصل منها أحد ليرمي بثقلها على الآخر.. إنها مسؤولية الوطن، مسؤولية الآن والمستقبل.