تطرق الأستاذ خالد فارس مدير المناهج والحياة المدرسية بوزارة التربية الوطنية في هذا الحوار، الذي أجرته معه جريدة »الاتحاد الاشتراكي« إلى ظاهرة العنف المدرسي داخل المؤسسات التعليمية ومحيطها، كما يتطرق إلى المقاربات المعتمدة لدى وزارة التربية لمناهضة أشكال العنف المدرسي بين مكونات المنظومة التعليمية، إلى جانب التدابير المزمع اتخاذها من قبل الوزارة للحد من هذه الظاهرة. يلاحظ تنامي ظاهرة العنف المدرسي داخل المؤسسات التعليمية وفي محيطها وصل الى حد ارتكاب جرائم القتل، كما وقع مؤخراً في مؤسسة تعليمية بسلا، حيث قتل تلميذ زميله بسبب خلاف داخل الفصل، فما أسباب هذه الظاهرة؟ اسمحوا لي، في البداية، بتوجيه التحية لجريدة »الاتحاد الاشتراكي« على هذه المبادرة الطيبة للحديث عن المدرسة وما تعرفه فضاءاتها ومحيطها من أحداث تقتضي فتح نقاش عمومي لتأطير الظاهرة وفهم أسبابها. فمن الظواهر التي أصبحت لافتة للنظر ومثيرة للنقاش في الساحة التعليمية، هناك بطبيعة الحال، ظاهرة العنف المدرسي، لكن، إذا صح نعتها بالظاهرة فهل هي في تزايد فعلا؟ في الواقع، لا يستطيع الباحث أن يقدم أرقاما دقيقة في هذا الباب، ويبقى الحديث في هذا المستوى كلاما عاما، يحتاج إلى بحث علمي وفق مقتضيات سوسيولوجيا التربية. وكما يوجد العنف في محيط المدرسة، وهو بدرجة أكثر وأخطر، توجد حالات عنف في المدرسة، ولكنها تبقى حالات معزولة، والمدرسة جزء من هذا المحيط. ولا توجد مؤسسة تربوية في العالم لا تعرف عنفاً، من مستوى أو درجة ما. أما أسباب العنف فعديدة ومتنوعة. وفي هذا الباب، اسمحوا لي بطرح السؤال على النحو الآتي: عندما يحدث العنف في المدرسة هل يعني ذلك أنها هي السبب في ذلك، أم أن الأسباب توجد خارجها؟ المدرسة مجال اجتماعي تتوجه إليه كل صباح ملايين من المتعلمات والمتعلمين، أطفالا ويافعين وشبابا، كل منهم تعتمل في نفسه أحاسيس ومشاعر تجاه ذاته، وتجاه أسرته وله موقف من وضعه الاجتماعي ومن أقرانه، فالمدرسة مجال للتفاعل النفسي الاجتماعي يلتقي فيها المجتمع بكل فئاته وانتماءاته: المدرسة، إذن، صورة المجتمع. ولهذا السبب، تزداد احتمالات العنف في فضاءات المؤسسات التعليمية الثانوية، نظراً لمرحلة المراهقة وما يرافقها من صراعات نفسية ناتجة عن مختلف مظاهر النمو التي يعيشها المراهق ويجد صعوبة في فهمها والتعبير عنها، والعنف تعبير عن غياب التواصل والانسجام. وهنا يأتي دور المدرسة، فهي بحكم إمكانيات تأثيرها المنحصرة في الجوانب التربوية، لا تستطيع أن تحمي من العنف أو تقضي عليه نهائيا، فكل ما هو مطلوب، وكل ما يمكن أن تقوم به هو العمل بأدوات المناهج وآليات التدبير الحديث للحياة المدرسية، وانطلاقاً من نتائج البحث العلمي، من أجل الحد من أسباب العنف والوقاية من عواقبه، ومعالجة آثاره، وذلك بالتوجيه التربوي والدعم النفسي والتكفل الاجتماعي، وتوفير الأنشطة الفنية والثقافية التي تسمح بتفجير مختلف أنواع الضغط النفسي في مجالات التعلم والإبداع المسرحي والفني. فأسباب العنف متعددة نفسية، اجتماعية وثقافية، وهي مركبة شأنها شأن الظاهرة الإنسانية. ما المقاربات التي اختارتها وزارة التربية الوطنية، انطلاقاً من البرنامج الاستعجالي لمواجهة هذه الظاهرة المتمثلة في العنف المدرسي بين التلاميذ أو الموجه ضد الأطر التربوية والادارية؟ انطلاقاً من إدراك الوزارة لخطورة العنف في الوسط المدرسي، أعدت استراتيجية متعددة الأبعاد، من أجل التصدي لمختلف الظواهر التي تعوق السير العادي للعمل التربوي وتوفير المناخ الملائم للتعلم. وتعتمد هذه الاستراتيجية ثلاثة مقاربات مندمجة: تربوية، قانونية، وأمنية تعمل على تأمين الفضاء المدرسي، ونشر ثقافة السلام وحقوق الإنسان، والعمل بمقتضيات السلوك المدني، والتصدي للعنف بمختلف مظاهره وأشكاله. فالمقاربة التربوية تهدف، من خلال مدخل المناهج، إلى نشر قيم التسامح والتعاون والتعايش والحوار وقبول الاختلاف والوعي بالحقوق والواجبات والانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى والتشبع بكل القيم النبيلة واكتساب المعارف النافعة واتخاذ المواقف الإيجابية. ومن خلال مدخل الحياة المدرسية، تعمل على إعادة الاعتبار للحياة المدرسية التي تقوم على الحب والديمقراطية والمساواة وغرس القيم الجميلة وتعزيز الاقتداء بالسلوك الحسن وتشجيع المواهب وتحفيز التفوق في كافة المجالات، وجعل فضاءات المدرسة مجالا ممتعا للتحصيل الجاد، وفضاء جذاباً تزينه إبداعات التلاميذ في كتابة النشيد الوطني ورسم خريطة الوطن وكتابة الأمثال والحكم وعبارات من المواثيق الدولية، التي تدعو إلى قيم السلام والتضامن والتسامح والمساواة وتشكيلها بفنون الخط الجميل، وبكل ما يجعل المدرسة مفعمة بالحياة تساعد مرافقها المختلفة على الاكتشاف وصقل المواهب وتحفيزها وتمكين المتعلمات والمتعلمين من وسائل الانخراط في الأنشطة اليومية، التربوية والثقافية والفنية والاجتماعية، وتشجيع الطاقات الإبداعية والمساهمة في بناء مدرسة الاحترام وجيل مدرسة النجاح، تسود فضاءاتها علاقات تواصلية إنسانية وديمقراطية. ولا نحتاج إلى التأكيد على تعزيز المقاربات التواصلية البيداغوجية القائمة على التعلم لا التعليم، والهادفة إلى احترام كينونة المتعلم في بناء وإنتاج المعرفة. و من خلال التأطير والمواكبة، من طرف الأستاذ الكفيل، وإحداث مراكز الاستماع، باعتبارها آليات للتخفيف من الاحتقان والعوامل المساعدة على الإقصاء والعنف، وتفعيل الأندية المختلفة التي تساهم في اكتشاف مواهب وقدرات المتعلمين، والتي تساهم بشكل كبير في تصعيد الشحنات القلقية المغذية لظاهرة العنف، ومن خلال إعادة الاعتبار، كذلك، للتربية البدنية والرياضة المدرسية، باعتبارها مجالا لتفريغ السلوك العنيف بأساليب وطرق تربوية، تستطيع المدرسة مساعدة المتعلمين على التعلم والاندماج النفسي والاجتماعي والحد من الظواهر الخطيرة التي تؤدي إلى الانحراف، وفي مقدمتها التدخين والمخدرات، من خلال تعميم مشروع »إعداديات وتأهيليات ومقاولات بدون تدخين«، بتعاون وشراكة مع جمعية للا سلمى لمحاربة داء السرطان. أما المقاربة القانونية فمن خلالها يتم تأطير وتأمين المدرسة وتنظيم العلاقات داخلها، بما توفره من نصوص مختلفة (ظهير، مرسوم، مذكرة، ميثاق...) تكفل النظام والاستقرار والأمن النفسي والمهني والاجتماعي. وهي مقاربة ذات أبعاد تربوية، كذلك، تحفز على اكتساب المعرفة القانونية والاقتداء بنصوصها من أجل تنظيم المجال وصياغة مواثيق عمل المجموعات وانفتاح التلاميذ على العلوم الاجتماعية وثقافة الحق والواجب وقيم العدالة والإنصاف.. وتكمل المقاربة الأمنية ما تنهض به المقاربتان التربوية والقانونية، فهي آلية، بواسطتها تقوم الوزارة ومصالحها الخارجية بتنظيم حملات تحسيسية تستهدف جميع الفاعلين والمتدخلين وكافة الشركاء. وذلك بالتعريف بظاهرة العنف وبأشكاله وآثاره السلبية على جميع المستويات، وبالآليات الضرورية لحماية المؤسسات التعليمية. وفي هذا الإطار، وإيماناً من الوزارة بأن التربية والتكوين شأن عام، صدر المنشور المشترك مع وزارة الداخلية من أجل التعبئة لإنجاح الإصلاح التربوي. و لا تقف المبادرات التي اتخذتها الوزارة عند هذا الحد، بل اتخذت جملة من التدابير، في سياق البرنامج الاستعجالي، نذكر منها تخصيص مشروعين كاملين للارتقاء بالحياة المدرسية والصحة المدرسية والأمن الإنساني، وذلك من أجل ترسيخ وتقوية القيم المواطنة لدى الفاعلين التربويين والتلاميذ، وضمان سلامتهم وأمنهم داخل المؤسسة التعليمية وخارجها، والعمل على تحسين صورة المدرسة حتى تكون فضاء للأمن والاحترام المساعدين على العمل والتعلم والانتماء إلى المؤسسة والاندماج الاجتماعي الفعلي والجيد، كما تهدف تلك التدابير إلى الحماية النفسية والجسدية والأخلاقية، من خلال توفير خطط كفيلة بمواجهة ظواهر العنف، والعمل على ضمان الأمن، وتوفير نظام تأطير صحي ونفسي فعال للمتعلمين. تعتمد بعض الأطر التربوية الضرب وتعنيف التلاميذ وسيلة تربوية أساسية للتربية والتعليم، فما موقف الوزارة من هذا السلوك المنافي لحقوق الطفل؟ وما الاجراءات المتخذة للحد من هذا السلوك العدواني؟ لم يكن الضرب أو سواه من أشكال العنف اللفظي والنفسي في يوم من الأيام وسيلة تربوية، بل هو مرفوض من قبل كل النظريات التربوية والنماذج البيداغوجية الأكثر مصداقية. الراجح أن هذا الزعم من كلام العامة الذي لا يؤخذ به في أي نظام تربوي جدير بهذا الوصف. هذا عنف، يجب تسمية الأمور بأسمائها، هو اعتداء على حق الطفولة يستوجب، منا جميعاً، الشجب والتصدي له، بمحاربته في مصادره الثقافية والاجتماعية، ضماناً لحقوق الطفل في النمو السليم والمتوازن والأمن النفسي. إن الكثير من الصعوبات التي تواجه الناشئة اليوم في التعلم ناتج عن آثار شكل ما من أشكال العنف، وقع ولم تتم معالجته في الإبان. ومن الاجراءات المتخذة في هذا الباب، التحسيس التربوي والإعلامي لنشر مبادىء حقوق الطفل وصيانتها من كل أشكال الانتهاك. وتنظيم الأنشطة الثقافية والفنية بالمؤسسات التعليمية من أجل النقاش العلني لظاهرة العنف عموماً، والضرب على الخصوص، وتقديم عروض ومحاضرات ومشاهدة أشرطة سينمائية ومناقشتها، مع الإشارة إلى أن النصوص القانونية تمثل ترسانة كفيلة لضمان الحقوق والإنصاف كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وإن كنت لا أميل إلى هذا النوع الأخير من المعالجة.. تخترق محيط المؤسسة التعليمية اعتداءات على التلاميذ، وانحرافات سلوكية، وتجارة المخدرات، فهل تم تفعيل المذكرة المشركة بين وزارة التربية الوطنية ووزارة الداخلية لتنقية المحيط الخارجي للمؤسسة التعليمية؟ على إثر المعاينات والتقارير التي تم إعدادها في شأن بعض الظواهر السلبية التي يشهدها محيط المدارس، تم إصدار منشور مشترك بين وزارة التربية الوطنية ووزارة الداخلية لتنقية المحيط الخارجي للمؤسسة التعليمية بتاريخ 20 غشت 2006. وقد شكلت هذه التجربة نموذجاً للعمل المشترك والمقاربة المندمجة، حيث أعطت نتائج حسنة ومباشرة، بفعل الحضور الميداني للدوريات التي قامت بها مصالح الأمن والدرك والسلطات المحلية، إذ انخفضت حالات العنف واختفت الكثير من الظواهر المشينة من محيط المؤسسات التعليمية. ومن التدابير والاجراءات التي عززتها الوزارة في ضوء هذه التجربة، التي تحتاج إلى المزيد من التنسيق والتتبع، نذكر ما يلي: إصدار وتفعيل ميثاق العلاقة بين المدرسة ومختلف الفاعلين. إحداث آلية للوساطة من أجل توفير جو للاستماع والحوار والتخفيف من التوتر والعنف. ترسيخ »السلوك المهني« للمدرسين بهدف إقرار النظام والانضباط وإعطاء القدوة الحسنة. عقد الشراكات مع السلطات العمومية لتنظيم دوريات وحملات تواصلية للقضاء على العنف بمحيط المؤسسات التربوية.