هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«اشريفة» أو صوت الليل الذي قهر نهار النسيان

هي الليل الذي تدحرج صامتا من قمة صخرة،على ربوة مطلة على مدينة الربيع والماء والفن والثورة على التكرار. هي الجسد المتشظى الدي حاد عن المعتاد لكي يرحل في سراديب التهميش واللعنات والهجران. لكنها الأنثى التي رفعت صوتهاعاليا، لكي تعيد للبوح بين الجبال شاعرية الزمن الذي صادرته رداءة النصوص وعمى القلوب، عن إدراك جمالية الغناء بين الصمت والرحيل.
نحن والفن المغربي الأصيل لا نقيم في مملكة واحدة ،لكل واحد منا فلكه ، قلما نلتقي ، لكن كثيرا ما نفترق لكي نتركه يدور وحيدا ، تائها، حتى غدا صوتا متسولا ، يطرق كل الأبواب ، ويتكلم لغات « الماركوتينغ» التي تشبه حديث المومسات في الدروب المظلمة مع زبناء جائعين، وفنون التشهير والتقديم السافل لعرض إنساني أفقره سماسرة السهرات والاحتفالات التي تقام بدون مناسبات.
بعدنا عن فننا الجميل ، أوانخداعنا بكبريائنا الذي يحتفي «بأنا» هزيل ، لأنه يتيم بين الأمم التي لا تخرج للمنازلة إلا على ضوء أناشيد شعوبها وطبول فنونها وألوان أقمشتها وسحر طقوسها التي تستخرجها في قوالب حداثية تبهر الناظرين . أما نحن فقد ألفنا الذهاب للنزال الحضاري، بدون هويات ،بدون أسماء أو عناوين تميز غرابتنا ،وتصنع فرادتنا ، لا نغادر أروقتنا الفكرية إلا لسب ذواتنا ، والتبرؤ من ضحكنا ، وتحليل بكائنا بأبجديات انتربولوجية ، وفضح أحلامنا برداءة تحليل-نفسية ، كل ذلك ، فقط ، من أجل أن نثبت لأوهامنا ، ولنرجيسية الآخر الذي نخشاه في أنفسنا ، أننا طلقنا روحنا ونحن جاهزين لكي نعشق كل نفاياته الفنية التي ستشكلنا في صورة سوريالية ، مخيفة ، مشوهة ، تثير التقززوالغثيان .
نمارس الوجدان ليلا ، ونتبرؤ منه عندما يدركنا الصباح ، لكي نفتح دكانيننا الفكرية المهترئة ، تلك المقابر التي سندفن فيها بأيدينا كلام الأزقة ولحن البيوت ، وظلام الزوايا التي تفوح منها توابل معاركنا مع حديث الشجون الذي نتركه للتنكيت وتزجية الوقت الزائد عن متعنا النظرية التي ضاقت بها أرضنا حتى بارت وقل طالبوها ، وكنسناها أعلاما يحتفى بها في مهرجانات لا يدخلها سوى ما تبقى من شيوخ الثورة المجهضة والحلم اللقيط.
ليل طفولتي أفضل بكثير من نهار رشدي ، إنه صلح وانسجام وتشابك بالأضافر والأنفاس مع كل ضجيج أزقتي ،وكلام الناس البسطاء الذين صنعوا هالتي ، ومنحوني ظلا جماليا يؤمن وحدتي يوم الفراغ المهول ، استند إليه كلما أصابتني القنوط وهاجمتني الاحباطات ،تلك الوباءات التي لا يصمد أمامها فكر ولا تنظير ، فقط وحده الفن الأصيل يبعث من رماد النسيان لكي يتلقى ضربات الضجر بألف زغوردة وموال ،حيث سرعان ما أستعيد عافيتي ، وأتعرف من جديد على ضفافي التي ابتلعها بحر الغموض والتيهان في أسماء وعناوين الآخرين.
الفن المغربي الأصيل سفير الجهات ، مرسول الثقافات، يرحل بك من ضفة إلى أخرى دون أن يشعرك أنك تغادر الوطن أو حضن الام الواحدة . تغني «اشريفة «رفقة المرحوم بوزكري عمران تلك القصائد التي يستحيل على غير المحترفين في غموض الليل فك حروفها ،التي تحفظ خزائن ورديغة والشاوية المتيمة بمسارات زيان وحوافر خيولها يوم هب موحى اوحمى الزياني لنصرة القائد لحمر بن منصور زعيم قبائل لمذاكرة في حربها المفتوحة ضد رشاشات فرنسا الفتاكة.
منذ ذلك الزمان الوطني ، بل ومنذ أزمنة قديمة انصهرت خيام الشاوية في عرائس الأطلس لكي يمنحا الحياة لفن سيخلده على أرض زيان هذا الفنان المتمنع عن كل وصف.
إنه بوزكري عمران الذي لن يصمد القلب وهو يستمع لتقسيماته المترنحة بسكر الغياب على « كنبره» ،معتمدا فقط العزف بسبابته اليمنى التي تخرج من جلد هذه الآلة الوترية نغما غاية في الحزن والشجى . يعزف قطعا عروبية طالما حفظها الناس عن ظهر قلب ، حتى غدت جزءا من هوية هذا الفن الأطلسي المتعدد المشارب والأطياف.
تؤثث جلساته الفريدة غير المفتوحة على الجمهور العريض ، أصواتا نسائية أطلسية ، تعلمن في حضرته كيف يجمعن بين عيطة الشاوية وموازين العشق في تماوايت الخشوع. وتره أنيق ، صعقاته مدوية ، تأسر الأفئدة التي ترحل عبرها في تاريخ هذه الربوع التي تنحدر رجولة متألقة من جبال الممناعة لكي تتمدد في أنفة الكرم والعرس الإنساني بنفحاته الصوفية لأرض الشاوية الطيبة المقام.
في هذاه الأجواء التي استضافت ألم الشاوية ، تغني « اشريفة « ، بكفاءة عالية لحن أخواتها من الضفة الأطلسية التي لا زلن يحملن معا نفس الوشم ونفس الزي ونفس الابتسامة التي تنحفر أخذوذا ممتدا على مساحات الوطن كله.
من يستمع لها وهي تؤدي هموم بوزكري عمران، لن يراوده الشك بأنه في حضرة صوت متنوع المقامات ، متعدد الأبعاد قادر على الإقامة بسلاسة في كل الأوزان التي تنسجها أنامل العازفين ،القادمين من كل زاوية او ظل وارف أو زقاق عامر بالبساطة ورجال الكفاف والعفاف والغنى عن الناس.
هي وريثة لجيل من نساء الأطلس اللائي غمرهن النسيان بعدما أشبعن جيلنا وأطربناه وهو يقيم على مفترق الطرق ، وحريق الموت يجتاح الأزقة و يقتحم حرمات البيوت بدون حسيب أو رقيب. استنشقنا الإهانة من كل الجهات ، وحملنا عزتنا نصطاد بها خوفنا وضعفنا ونحن نتزود برحيق هؤلاء النسوة، اللائي كن يتسربن من خلف أبواب بعض البيوت، التي كانت تعتقل الفن الأطلسي وتحسبه ملكا لها وليس لغيرها الحق في لمسه أو رؤيته ،وهو يمشي حيا، حافي القدمين في ليل السهر، المطبوع بعرق فنانات أصابهن الوهن مبكرا ،لأنهن كن يضعن ثمار عملهن بين أيدي من لا يقيمون وزنا صادقا للمرأة التي نسجت أسطورة تاريخ هذه البلاد.
من هؤلاء المغمورات من ضاعت في صمت المدن وجفاء الأهل وتبرم العشاق ، ومنهن من حالفها حظ الزواج وركبناه كمغامرة أخيرة بعد عمر مليء بالسهر والموت على الوتر الذي كان هو البوابة الوحيدة المسموح بها للاطلالة على الجراح. هنا أتذكر» رابحة لبرج»، التي أتجرأ على نقش اسمها بكل قوة ، لأنها فرت من حصار الفن والبلاد إلى هامش المدن لكي تصنع مجدا أسريا كلل بنجاح في بعض العواصم الغربية ، وأخريات دخلن عالم الصمت قد لا اجرؤ على سرد حكايتهن بعدما قررن القطع النهائي مع مذلة سيرة كانت صنوا لصورة منطقة حاصرها الطوفان لما حلمت بيوم مشرق لكل البلاد.
عجبا كيف يختلط في أجواء الأطلس الغناء بالمعاناة والتاريخ والاستعصاء على المواكبة لسير المنهزمين ، الذين وقعوا في سحر الشياطين التي زينت لهم الأزمنة ، وزورت لهم الأمكنة ، حتى حسبوا أنهم فعلا في قمة المجد والسمو ، لكي يدركوا بعد هذا الحلم العابر أنهم مجرد أكسسوارات لبيداغوجية التدجين، التي أخذت منا حتى أولائك الذين كنا نشتم فيهم رائحة الرموز التي بنينا لها ذات يوم من صيف السبعينات، أهرامات ونصب فوق قممنا التي وطأتها المذلة وهي تئن تحت ضغط الحاجة والمرض والبرد والتسكع بين سيارات السياح بحثا عن علامة مفارقة تضيء بها ليلها الطويل.
هل يصح الغناء اليوم ونحن نموت بالبرد وتغطينا الثلوج ، وتقع فوق روؤسنا أعمدة بيوتنا المهترئة التي نسينا إعادة بنائها بعدما تفرغنا كثيرا للحلم والعشق والابتسامات الصادقة في وجه الوطن؟ هل لا زال لنا متسعا من الوقت لنعيد ترميم قصائدنا حتى نصنع منها مراهم وعقاقير تقينا برد السنين وهواجس الشيخوخة التي حلت بأرزنا ومياهنا التي ستسحب منا لكي نظل بدون سماء أو ماء أو أرض نقتات على حشيشها في انتظار الفرج المستعصي على الظهور.
لا عليك ، سيستمر الغناء ولو حصدنا الموت ، بل سيتضاعف رصيدنا من الصياح النظيف الذي تعرف أمهاتنا الفنانات كيف يستخرجن منه إكسيرا لكل المآسي ،التي حطت على خيامنا وهي تلملم ما تركه لها فيضان الأودية والطرقات المقطوعة والأوحال، وبكاء الصغار من شدة الجوع والأمراض المزمنة، التي قيل أنها التصقت بأهل الأطلس منذ أن قرروا البقاء معتصمين بقممهم رفضا للتجميع في قرى صناعية يضيع معها الحقل والبقرة والحمل والربيع وسحر الليل وحرية الامتداد بعيدا عن حجرات التمدن العليل.
لا يكف صدى الفنان الراحل « مصطفى نعينيعة « عن العودة إلى حضيرة المكان الذي ورثته «اشريفة « ، التي تجلس على حصائرليل المدينة التي تحفظها ذكريات الأجيال، التي جربت الحب الممزوج بالمنع والهروب إلى السياسة والمسرح والسينما، التي حملت من بلدان الاشتراكية صورا عن الأمل في النجاح، ولقاء السعادة عند ركوب بواخر النضال الثوري الذي سيحيط بأصوات نساء الأطلس وهن يمرحن في وهم الانتصار على النسيان، حتى أدركتهن السياط وحملن من نعيم الغناء وعشق الفصول، إلى جحيم الزنازن والعاهات المستديمة التي رأيناها جميعا في جلسات الاستماع لما حطت الرحال بمدينة خنيفرة.
يأتي مصطفى نعينيعة ، في مقدمة الرجال الذين عشقوا عيطة «جعيدان « ، إنه من طينة بوزكري عمران رحمة الله عليهم جميعا ، ليستر سماء خنيفرة بوتره الشهير، الذي ينفتح فرحا وسرورا وعبورا لمسافات النفي التي يقطعها الساهرون وهم في غمرة نسيان يومهم، كأنه حصان أطلسي أصيل ، يهز الأجساد التي لا تصمد على البقاء جالسة ، لكي تدلف إلى وسط العرس من أجل أن تؤدي كوريغرافية نوعية مطرزة بحناء شبقية لا يصبرعلى الوقوع في حبها عشاق التشكيل والترميز والإيقونات المصنوعة من حسيس حبات «موزون» وإزار الرقص الرقيق ، التي تمنح للمرأة سرا ملتويا ، منفلتا ،لأنه يتكلم لغات متعددة ، ويتخذ أقنعة مركبة قد لا تنفع علوم الرجال في فك طلاسمه الأسطورية هاته.
تكتمل الصورة لما يصمت الليل ، ويطول الحنين ، وتنام الرقابة في سلطتها المنتفخة بالغرور ، لكي تعانق «اشريفة « معاناة هذاالفنان ، الذي علمنا كيف نحتفي بوصلات من دندنات أبي الجعد وهو وحيد في كل هذا الجموع الأمازيغية ، التي تلقي له السمع وتشاركه ألم الفراق ، والبعد عن تربته التي منحته القدرة على تخليدها بهذه الرقة الوترية في بلاد زيان المفتوحة على كل عوالم الوطن.
هناك كثيرات مررن من محراب هذا الفنان من أمثال عيشة وفاطمة اللتان برعتا في تقليد صوت الشاوية بكل جمالية وفرادة أطلسية مطبوعة بإيقاع خاص أنشأه «نعينيعة» في رحاب ازقة خنيفرة الضيقة بالحيطان لكنها رحبة بقلوب البسطاء من أهل الصحراء وقبائل الجوار .
عندما تستمع لإيقاعات «نعينيعة « ، تحسب نفسك أنك في ركاب «حركة»، يقودها فارس محترف ، يعرف جيدا تضاريس الأجساد، ومخاطر الافتتان بالتدافع الذي يحصل بين العزف والرقص ،إنها لحظة حديث خاص، يكون فيه الجسد الأنثوي هو سيد المكان ، هو المنتصر على كل الحواجز ، يبدع في إنتاج نصوص البلاغة الحركية ، التي لا تلتفت إلى بلاغة العقول التي سجنت نفسها بين المنع والقدح في احتفال المرأة بأنوثتها على ضوء ما تمنحه إياها موازين الموسيقى من عنف رمزي وانتفاضةجمالية تقال باتحاد الثوب والأحزمة والأقمشة المحيطة بالرأس وكل العلامات التي تلون الصدر والمعاصم والنحور.
إنها ثقافة من الصور والمجازات التي تأبى الاضمحلال، والمرأة هناهي تلك المقاومة التي تحمل سلاح الجمال والابداع لكي تصنع منه فرجة استثنائية آسرة لكل الخطابات والأقاويل التي لا تحب سفور هذه الذات الصادمة لبداهات زائفة.
«شريفة» ، في الحقيقة ، هي رمز لصراع خفي بين الظهور الغامض لصور من سياقات احتفالية تتوجس السلطة المعرفية من شغبها التاريخي ، والاختفاء في نمط غنائي لجهة جغرافية تعرف كيف تساير تموجات السوق وصناعة الشهرة والمجد.
هو رهان بين سؤال الهوية المنفصلة عن هذا المنتوج الغنائي ، ورمزية اللغة التي يؤدى بها الغناء في فضاء التجاذب النظري والسياسي الذي يطبع المشهد الثقافي ببلادنا.
لا يمكن للفن أن ينفصل أبدا عن أسئلة الثقافة والذات والهوية والفرادة، لانه محكوم عليه بأن يدخل الكونية بتقليعة محلية ، لكنها غارقة في عشق ساحر لشيء غريب، قد يثير خيال الآخرين ويجعلهم في حال الانبهار بهذا الانجاز الذي استطاع أن يحرك المشاعر النبيلة في قلوب الغرباء ، ثقافيا ، عن موطنه ومراجعه الوجدانية والتخييلية والفكرية. الكونية هي القدرة على الانغراس جيدا في المحلية . وهذا ما لا يمكن بلوغه بدون الرهان على غنائنا الأصيل.
لقد سافرت «اشريفة»بتماوايت إلى دول اوروبا الشرقية واحتفت بها الشعوب السلافية ، استدعتها روسيا وانبهر بها الروس عشقوا صوتها الذي ألهم خيالهم ،وحرك فيهم الرغبة في الغوص في تراثهم الفني الذي محقته ذات يوم الآلة الإيديولوجية العمياء لستالين. إنه الروح الكونية التي عندما تسطع تضيء كل فراغات الإنسان أين ماكان وكيف ماكان.
صفقت لها جماهير أسيا وهي ترى فيها وجها من ذاتها الملتبسة بروائح شرق ميتافيزيقي ، يسكن السماء أكثر من سيره على تراب الحياة. إنها الهوية المهاجرة التي تفرض صورة الوطن في شكل لوحة بألوان الليل والتاريخ والقلاع الصامتة والإياقاعات التي تجد لها صدى في كل تراث البشرية.
لازلت أتساءل عن سر نجاح عينة من أبناء المهاجرين الذين خرجوا من هوامش المغرب لكي يضعوا سواعدهم في خدمة حضارةالآخر ، نجاح سياسي عبرت عنه الكثير من فتيات هؤلاء كرشيدة داتي وأخريات دخلن المؤسسات التشريعية في بلدان البينيلوكس ، وكلهن من أصلاب البوادي التي لم يسمح لها سوى بإنتاج الخرائط الانتخابية المتحكم فيها عندنا.
لماذا لا نتعاطى بذكاء وتواضع مع هذه الظواهر النسائية التي منحت لنا اعتزازا بالذات ونحن لازلنا نغوص في أوحال أسئلة خارج السياق، والمعطيات الجديدة التي تحملها رياح التغيير من خارج البلاد. بل لماذا نصر على تصدير ما لايوافق لوننا وينسجم مع ذوقناالرفيع ،هل لأن هناك زمرة ممسكة بالقرارات الاقتصادية تريد أن تختصر كل الذات المغربية في مظهر ثقافي واحد، قد يفقر تجربتنا وتواجدنا بين الأمم ،التي تأتي إلى هنا لكي تبحث بنفسها عن هذا الوجه الحقيقي الذي نتوجس نحن من إظهاره وكأنه وصمة عار « بدائية «، تصيبنا بالدوار كلما أمعنا النظر في تفاصيلها المعقدة؟
لن نشفى من عقم مواردنا الجمالية مالم نعيد النظر في علاقتنا بروحنا الحضارية ،إنه المدخل الذي منه أسست اليابان لانطلاقتها التكنولوجية الصاعقة ، ومنه كشفت الصين عن حدتها الابداعية في منافسة الغرب تجاريا وعلميا ، ومن ظلماته تحاول إيران صناعة تحدياتها النووية والسياسية على الرغم من كل الملابسات الأيديولوجية التي تحول بينا وبين هذه الشعوب، التي لا تكف عن مفاجأة الذين يثقون كثيرا في معادلات الاقتصاد المنفصل عن روحه الثقافية وتجربته الروحية.
الفن الأصيل أداة لتحفيز الشعوب على حب نفسها ، وتقدير عمقها التاريخي ، وفهم أدوارها المنوطة بها في خضم التنافس الحضاري بين الشعوب . إنه المعول الذي به نبني شذرات الذات المبددة في أنظمة ونماذج مهلهلة ، لا يمكنها خلق الخليط الإيجابي الذي ستختمر فيه الثورة الثقافية المؤجلة باستمرار.
لقد وقفت مندهشا لما رأيت كيف صفق جمهور مدينة تطوان وهو يتابع مشهد فني نوعي بمناسبة الدورة الأولى لمهرجان تطوان للصوت النسائي ، تلك اللوحة الرائعة التي لست أدري من دبر خيوطها بوعي ثقافي ثاقب ، وذلك عندما ظهرت «اشريفة «إلى جانب مغنية «جبلية « ، وهما يؤديان معا وبالتناوب مقاطع من مواويل جبلية ، تقال بالأمازيغية من جهة «اشريفة « ،وتعاد لتقال بدارجة جبلية من جهة تلك الفنانة الشمالية . إنها «تماوايت» في حوار مع « عيوع»، الذي هو النمط الغنائي المقابل لهذه الأنشودة الأطلسية التي ظلت تحافظ على لغة الأصل.
من أعلى شرفة مقابلة لساحة الولاية التي تقام فيها احتفالات هذه المهرجان النسوي الرائع ، تتابع كاميرا عيون بعض النسوة الشماليات هذا التواصل الحميمي بين»تموايت» وموال « عيوع» ،وهن لا يكفن عن التصفيق والصياح بشكل يوحي للرائي بأنه أمام حس نساء أدركن ببداهة الثقافة التي موطنها طبعا هو الثدي، أنهن يكتشفن اللغة التي التي قيل بها موالهم منذ أن تركوا ذاتهم في تواريخ سابقة من التدافع والتلاقح والارتطام بلغات وحضارات شعوب المتوسط.
إنه الفرح الذي يصعد من أبعد نقطة عز تائهة في عماء روح فقدت بوصلة السير منذ أن نسيت ، كما قال أفلاطون ، أنها شربت من نهر الآلهة ، لكنها ونظرا لرعونة أجنحتها ، سقطت وأصبحت سجينة الجسد ،إذن عليها أن تتذكر من هي ، وهذا لن يكون بوسعها مادامت ليست قادرة على التجريد والتعميم . إنهما الآليتان اللتان لا يمكن إتقانهما ما لم نمارس الرياضيات بلغة أفلاطون ، والتفكير الفلسفي بلغة العصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.