ستركز هذه الورقة على مفهوم الشاعر للمنفى كما يراه ويتصوره واقعا وخيالا. يقول أدونيس أنه ولد منفيا. عاش في قرية قصابين وهي قرية فقيرة منعزلة ومهمشة. ولم يكن ثمة سبيل للخروج من هذه العزلة إلا الجندية أو العلم. أما المجال الأول فلم يكن ضمن تفكير الشاعر ، أما العلم فدونه موانع الفقر وغياب المدرسة. للتذكير فقد منعته الأسرة من ارتياد مدرسة تبعد عن القرية بسبب حادثة النهر التي كادت تودي بحياته رفقة صديقه عباس. وقد عبر عن ذلك شعرا في ديوانه : ( مفرد بصيغة الجمع ) : وبكى عباس مرة حينما كاد النهر أن يغلب عليا ويأخذه السيل إلى نهاياته لم يكن لوجه أمه أن يوقف المطر لم يكن لصوتها أن يروض الرعد. 1 وقد تحقق حلمه بالدراسة في إحدى مدارس البعثة الفرنسية العلمانية بطرطوس. بعد القصيدة التي ألقاها أمام الرئيس السوري شكري القوتلي. فكان التحاقه بهذه المدرسة فاتحة لخروجه في اتجاه آخر. ومن تم بدأ التفكير في التخلص من المنفى الأصلي على حد تعبيره، وهو التخلص من الطائفية. وللتذكير عاش أدونيس طفولته ومرحلة من شبابه في بيئة دينية تضرب جذورها في أعماق الفكر الشيعي والفكر النصيري. وفي بحثه عن كينونة حرة ومنفتحة سينأى عما تبناه معظم أفراد جيله عن قناعة وإصرار، أي الانتماء إلى حزب البعث العربي على اعتباره « عدوا شرسا لكل انتماء غير عربي، داخل البلاد العربية «2 مثل الانتماء إلى الطائفة التي تلغي ما عداها من الطوائف. وهكذا سينخرط في الحزب القومي الاجتماعي ظنا منه أنه نموذج مغاير للسائد من الثقافة التقليدية آنذاك. واعتقد أنه من خلال هذا الانتماء سيخرج من منفاه ومن ثقافة الأقلية تأسيسا على مفهوم ( السلالة التاريخية ) الذي أسسه أنطون سعادة، مؤسس الحزب ، ويقصد به انصهار جميع الأعراق والثقافات في بوتقة واحدة. لقد استهوى هذا المفهوم أدونيس واعتبره فاتحة لخلق مجتمع مدني متعدد متنوع ضامن لحقوق الجميع. رغم التحفظ الذي أبداه بخصوص « البعد التنظيمي الهرمي « الذي كان يرفض المبدأ السابق ويكرس الرأي الشخصي على حساب حرية رأي الآخر والاختلاف في وجهات النظر. حاول الشاعر كذلك الانفلات من المنفى بخروجه من اسمه الأول ( علي ) إلى اسم ثان هو ( أدونيس ) وهو الاسم الذي يشتهر به حتى داخل أسرته، بمن فيهم والدة الشاعر التي تنادي ابنها بأدونيس، كما صرح بذلك في أحد حواراته. وهو الخروج الذي اعتبره انتقالا من المحلية إلى الكونية. وإذا كان هذا التغيير في الإسم قد مكنه من تثبيت قدمه في مجال الشعر والنشر وأكسبه شهرة في وقت مبكر، فإنه على العكس من ذلك، عمق شعوره بالمنفى وجر عليه خصومات كثيرة . يقول : « غير أن هذا الإسم صار إثما. عمق منفاي، داخل بلادي وداخل ثقافتي . ولا يزال يثير لي المشاكل على أكثر من صعيد «.3 وبعد محنة السجن التي تعرض لها في سوريا رفقة أعضاء الحزب الذي كان ينتمي إليه، انتقل إلى لبنان. هذا الانتقال كان بمثابة ولادة ثانية وبحث عن الحرية في مستوى آخر، في مستوى الكتابة والإبداع من خلال مجلتي ( شعر ) و( مواقف ) . وهنا سيتأكد الشاعر من أن المنفى بالنسبة إليه ليس في الخارج بل يكمن داخل الذات نفسها. ومن تم فتغيير الأمكنة لن يحل معضلة المنفى، لأن المسألة ثقافية وليست جغرافية كما يقول. والتساؤل الذي يطرحه الآن هو « ماذا أفعل داخل ثقافة أشعر أنني منفي فيها ومنها ؟ « 4. هذا التساؤل نجده في صلب أطروحته ( الثابت والمتحول ) وفي كل كتبه التنظرية التي ظهرت فيما بعد. قبل أن يتحدث في كتاباته الأخيرة عن مفهوم ( جمالية التحول ) 5 . وهو في الحقيقة صنو لمفهوم ( الثابت والمتحول ) حيث يصدر عنه و يدور في فلكه. ومدار الحديث هنا عن السبيل للخروج من المنفى الذي لا يتم حسب تصور الكاتب إلا بنفي نفسه من المنفى من خلال ابتكار « مكان آخر في ما وراء الوطن والمنفى «. وهذا الابتكار لا يتيسر بدوره إلا بنقد الراهن السائد والمألوف على المستوى الجمالي والثقافي عبر رؤية جديدة للإنسان والعالم تتيح علاقات جديدة بين الإنسان والأشياء وبين الأشياء والأشياء وبين الكلمة والكلمة. وأهم ما تتميز به هذه الرؤية أيضا هو طرح الأسئلة الجذرية التي بدونها نبقى ندور في فلك السائد الذي يحجبنا عن أنفسنا و يعمق بدوره حس المنفى والاغتراب عن الذات وعن العالم. وهذا ما يفسر طبيعة قراءة الشاعر للتراث وللتاريخ وكذا لاستثمار هذه المصادر في إنتاجاته الشعرية. يقول « صار الشعر بالنسبة إليّ أكثر من الشعر. صار محيطا تلتطم فيه أطراف العالم والأشياء كلها، ذاتا وموضوعا، داخلا وخارجا، طبيعة وصيرورة. صار وطن حريتي وميدان أسئلتي وتمردي. وكان علي أن أحوله إلى أسطورة لكي تتصادى مع أسطورة المنفى. وفي هذا ما قد يفسر انهماكي في التاريخ. فقد كان عليّ، لكي أضيئ منفاي، أن أضيئ الجذور التي جئت منها» 6 . من هذا المنطلق يمكن فهم الأفق الذي تتحرك فيه إنتاجات الشاعر نثرا كانت أم شعرا، منذ أطروحته التي أشرنا إليها سابقا إلى اليوم. فالأمر يتعلق بمشروع يفيض عن حدود الشعر، وهذا ما يفسر طبيعة النص الغائب عند الشاعر. خاصة في ديوان ( مفرد بصيغة الجمع ) على سبيل المثال أو ( الكتاب : أمس المكان الآن ) الذي يعتبر عودة للنص التاريخي الحامل للحياة الماضية سياسيا وثقافيا. وهو العمل الذي يقول عنه الشاعر أنه « أشبه بمحترف يزخر بصور العربي في مهاويه وذرواته، وبتناقضاته جميعا الأخلاقية والفكرية والكتابية « . وفي هذا العمل احتفاء خاص بجمالية التحول من خلال الطاقات الخلاقة التي عرفها التاريخ العربي مثل أبي نواس وأبي تمام والنفري وأبي العلاء المعري. فالكتابة عند هؤلاء ومن سار على دربهم كانت طاقة تحويلية كبيرة باعتبارها تتأسس على المغامرات الفكرية والفنية الكبرى وعلى القدرة على طرح الأسئلة الخلاقة. وبهذا تصبح الكتابة أداة لمواجهة كل أشكال المنفى ويصبح الوطن الحقيقي للشاعر الرائي هو اللغة. فباللغة يمكن صوغ المشروع التحريري للحياة والإنسان شعريا وجماليا. بل يصبح الترحال نحو الآخر ضربا من ضروب مقاومة المنفى. ( أعز مكان في الدنى سرج سابح ) يقول المتنبي. ولذلك نجد أدونيس يناقش مفهوم الفن انطلاقا من التحديد الذي وضعه غوته ( الفن رحلة إلى الآخر ). وعلى هذا الأساس يعتبر قصابين القرية التي ولد فيها فاتحة المنفى. « كأن قصابين لم تكن في سريرتي مقاما بقدر ما كانت انتظارا « . وفي الرحلة إلى الآخر تكمن المغامرات الفكرية الكبرى والاستكشافات الرائدة بحثا عن كينونة الذات التي لا تكون إلا إذا كانت غيرها. ( كن غيرك لتكون نفسك ). وعلى هذا الأساس نفهم عدم ارتباط الشاعر بوشائج مع فكرة الوطن أو الانتماء إلى مكان خاص. فباستثناء مكان الولادة ( قصابين ) الذي لا دخل لإرادة الشاعر فيه، و هو كذلك المثوى الأخير الذي أوصى به مؤخرا ، فإن الوطن الحقيقي هو اللغة. يقول « أحيانا أختصر انتمائي وأقول إن وطني الحقيقي هو اللغة العربية «. وهنا يميز الشاعر بين اللغة التي أتعبها الكلام واللغة التي تدرك أبعاد جماليتها وتاريخها الجمالي. فالتصور الأول للغة لا يعدو أن يكون حجابا آخر ومنفى وتغييب للذات والواقع على حد سواء، لافتقاره لرؤية جديدة ولطريقة جديدة في التشكيل والبناء. أما المعنى الثاني فهو الذي يغرف من نهر الإبداع الذي لازلنا نسبح في مائه. أي هو جمالية التحول التي تستشرف التخوم القصوى. وبهذا المعنى فإن الكتابة لا معنى لها إلا إذا كانت على ضفاف الهاوية. وتصبح الكلمة الجديدة مثل البذار الذي يخصب الحقول الفكرية والفنية. وإذا، لا يكمن المشكل بين مفهومين لغويين، وإنما يتمثل في رؤيتين مختلفتين للعالم وفي طريقة النظر إلى الإبداع بشكل عام. يقول أدونيس : « ما الإبداع ؟ أود هنا أن أكرر جواب نيتشه : الإبداع إنجاب. إنه تجسيد لصورة المبدع في مادة أخرى هي هنا مادة الكتابة. فالإنسان يبدع ليؤكد أنه يستبق: يشعر ما لا يشعر غيره. ويعلم غيره. وهذا هو تحديد الشاعر، في المأثور النقدي العربي. ذلك أن الفعل ( شعر ) يعني لغة كما جاء في معجم « لسان العرب « علم وفطن وعقل. وإذا أشرنا إلى أن المشاعر تعني الحواس، فإننا نرى أن المحسوس والمعقول، في الحدس الشعري العربي، وحدة لا تتجزأ، وأنهما يلتقيان وينصهران طبيعيا في كلمة « شعر « . عندما نترجم ذلك إلى اللغة الجمالية نقول : إن الشعر، في الحدس العربي الأصلي، يعني بما ليس معروفا شائعا، أي بالمجهول. ونقول ، استنادا إلى ذلك، إن بلوغ المجهول أو الكشف عنه يقتضي من الشاعر أن يعبر بطرق غير معروفة يبتكرها هو» 7 . المراجع. 1 ? أدونيس ، مفرد بصيغة الجمع المجلد الثاني الأعمال الشعرية الكاملة دار العودة بيروت 1985ص 517. 2 ? أدونيس ، رأس اللغة جسم الصحراء دار الساقي الطبعة الأولى 2008 . 3 ? المرجع السابق ص 28 . 4 ? المرجع السابق ص 30 . 5 ? أدونيس، جمالية التحول جريدة ( الحياة ) العدد 16757. 6 ? رأس اللغة جسم الصحراء ص 33 . 7 ? جمالية التحول مرجع سابق.