تفتقت عبقرية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية عن اكتشاف مُبهر، اشرأبت إليه الأعناق و الأنفس ، تقول الوكالة في تقريرها : إن 62 % من تلاميذ السنة الثانية الابتدائية لا يستطيعون فهم سؤال مكتوب ،بل إن 32 % من الفئة نفسها لا يستطيعون قراءة نص بصوت مرتفع ( ربما يقصدون : بشكل صحيح ) . (http://www.hespress.com/societe/258267.html) و لو تغاضينا عن توقيت التقرير، و الإلقاء به في هذا الوقت الذي يعرف مخاض اللغة المنتظرة ، و حتى لو تغاضينا عن ارتباكه الواضح و تناقض أرقامه ، فإن عنوان الخبر كما يقدًّم للتقرير ، يحمل اتهاما مباشرا إلى العربية و يحملها من البهتان و الادعاء ما هو ظاهر و ما هو خفي . اضطرب التقرير في إفراغ حمولته ، فتارة يخبرنا أن "62 % من تلاميذ السنة الثانية ابتدائي لا يستطيعون حتى فهم سؤال مكتوب" ( بأي لغة )!! ، و تارة أخرى يقول التقرير إن تلاميذ السنتين الأولى و الثانية الابتدائيتين، يجدون صعوبة في القراءة " بل إن 32 في المائة من تلاميذ السنة الثانية ابتدائي لا يستطيعون قراءة نص بصوت مرتفع". و يبلغ التقرير ذروته ،عندما يلقي بخلاصته منذ أول سطر ، معلنا أن معضلة التعليم ببلادنا ، تتجاوز قضية اللغة ، ولكنه سرعان ما يعود ليسرد بضع نسب مائوية ، حول عجز التلميذ الابتدائي أمام ما يُلقى إليه فهما و قراءة . دون أي إشارة للغة المقصودة ، في حين يشير إليها عنوان التقرير صُراحا بواحا . و يواصل التقرير تقديم خلاصاته، ويرمينا بالأرقام كالرصاص المنهمر، يريد بذلك أن يصيب العربية في مقتل، من حيث يشعر و من حيث لا نشعر ، يخبرنا أن" 62 في المائة من تلاميذ المستوى نفسه ( السنة الثانية الابتدائية ) لا يستوعبون أسئلة النص المكتوب الذي يقترحه عليهم المقرر الدراسي " و أن "18 في المائة من تلاميذ السنة الثانية ابتدائي لا يفهمون أي شيء من هذه النصوص " . وهذا خلط سافر بين مهارة التصويت أو النطق وبين قدرة الاستيعاب. و كي يلطف الخَبر من غُلوائه ، فإنه يستنجد ب "خبير" في التربية الذي يفطن( في قراءته للتقرير الأجنبي ) إلى أن المدرسة المغربية "مدرسة متخلفة " تحشو عقول الأطفال و تملأها بالمعلومات ، عوض أن تعمل على تفتيح ملكات الخيال و الابداع و تحول المعلومة إلى سلوك . و هو ربط غير موفق بين فشل اللغة و فشل المدرسة ، يسري عليه ما يسري على الخطاب التربوي الذي يتداوله " خبراء التربية " عندنا ، الخطاب التربوي الذي زادت سمنته عن الحد ، بفعل الكلام المتهافت و الترجمة الممجوجة المستوردة ، وبفعل كثرة الأيادي و المتدخلين ، فجعلت هذا النوع من الخطاب غليظا طوباويا حالما مفارقا لواقعه ، (وتلك معضلته ) يوقعه أناس حالمون وراء المكاتب الوثيرة و النظارات الرقيقة . لعمري ، إنه التحايل على الحقيقة و تغليفها بغلاف الزيف والاستلاب ، و هو الحق الذي يراد به الباطل و أي باطل ، فإن كانت المدرسة متخلفة و بدائية ( و نحن لا نماري في ذلك البتة) فإنها بنت المجتمع الكبير الذي ولدها ، المتخلف الكبير الذي لا يكف يزرع في عقول أبنائه المكر و الغش و الاستلاب ، و يلوي حلوقهم و ألسنتهم و يدُس في عقولهم السموم و النقائص. و بغض النظر عن صدقية التقرير من عدمها، فإن الخبر الذي حاول التقرير تقديمه ، مثير للشك و الريبة ، فلا الأمريكان يقدرون لغتنا حق التقدير، و لا نحن شكونا إليهم بلوانا وأقحمناهم في "عصيدتنا" وإنما هي رائحة الدسيسة تُشم من بين السطور، رائحة "الدوارج" ومبشري الرطن و العي ، وغيرهم من الذين يأكلون بأفواههم ثوم الآخرين. أما الواقع التربوي الحقيقي، فيؤديه أناس مبثوثون في الجبهات البعيدة التي لا تصلها إلا الطيور الكاسرة، و في ثنايا الأحياء المكتظة، حيث لا سلطان إلا للوعي المزيف و منسوب الأمية المرتفع ، هناك يوجد الخبراء الحقيقيون للتربية (مع الاستثناء، فإن تشبه بهم أحد فمن باب المحاكاة ) ، يحيَون في صمت و يموتون في صمت، واقفين كالأشجار. اللغة العربية براء مما يُحاك ضدها بالليل و النهار، فإن كانوا مقبلين على فتح لغوي جديد، فلا داعي لتحميل العربية وزر غيرها ، و الدفع بها إلى مقصلة الاستئصال ، وحسب علمنا، فإن بعض أعضاء الجسد البشري، قد يقبل النقل و الزرع و التبرع، ماعدا اللسان ، فلم نسمع لحد الساعة عن عملية زرع للسان ما .