لأن الأنترنيت أصبح يعني الحداثة والتقدم العلمي واستعمال التكنولوجيا المتطورة، فليس هناك إذن من "حجة" أكثر إقناعا وإفحاما للخصوم في نفس الوقت بقدرة اللغة العربية على مواكبة الحداثة، ومسايرة التقدم العلمي، واستعمال التكنولوجيا المتطورة، من استعمالها على شبكة الأنترنيت. هذا ما ركّز عليه الأستاذ فؤاد بوعلي في مقاله المنشور بموقع "هسبريس" في 16 يناير 2013 تحت عنوان "العربية والأنترنت في 2012"، حيث كتب يقول: «وقد احتلت العربية الرتبة السابعة (في السنة الماضية كانت الثامنة) ضمن أعلى عشر لغات استعمالا في العالم بعد الإنجليزية والصينية والإسبانية واليابانية والبرتغالية والألمانية، وقبل كل من الفرنسية والروسية والكورية. ومن المتوقع أن تصل إلى المرتبة الرابعة في سنة 2015. ومن ثمة، فقد نمت العربية بين 2000 و2012 بنسبة:2501%.»، «فقد سبق لتقرير المعرفة العربي 2009 أن اعتبر زيادة مستخدمي اللغة العربية الأعلى بين مجموع اللغات العشر الأولى على الشبكة العنكبوتية، حيث بلغ معدل الزيادة العربية 206% خلال الفترة من عام 2000 – 2008، أي نحو 60 مليون شخص». أن الاستشهاد بمثل هذه الأرقام المتعلقة بانتشار العربية على شبكة الأنترنيت، لإثبات أنها ب"صحة" جيدة، وأنها قادرة على القيام بنفس الوظائف التي تقوم بها لغات عالمية مثل الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والألمانية والصينية... يعتبر ابتعادا عن الموضوع وخروجا عنه. لماذا؟ لأن لا أحد يقول بأن العربية غير قادرة على أن تستعمل على شبكة الأنترنيت كلغة مكتوبة وأشدد هنا على "مكتوبة" وأن تقرأ كذلك كلغة مكتوبة على هذه الشبكة. وتصدق هذه الملاحظة أيضا على كل الخطابات التمجيدية التي تذكّر بعبقرية العربية، وباستعمالها لغة رسمية في الأممالمتحدة، وبتخصيص يوم عالمي للاحتفاء بها، وبإقبال عدد من الطلاب على تعلمها في أوروبا وأميريكا... فعلى فرض أن كل هذه المعطيات التقريظية في حق العربية هي صحيحة ولا أحد يجادل فيها، بل حتى على فرض أنها اللغة الأولى المستعملة على شبكة الأنترنيت، والأولى المعتمدة في منظمة الأممالمتحدة، واللغة الرسمية الأولى لدى كل دول العالم... فإن ذلك لن يجعل منها لغة حية، بل تبقى دائما نصف حية أو نصف ميتة، أي تستعمل كلغة كتابة وقراءة فقط، ويستحيل عليها أن تعود لغة تخاطب شفوي، لتستعيد وظائفها الحيوية كاملة. فالقرق بين لغة حية ولغة ميتة أو نصف ميتة، هو أن الأولى يمكن اكتسابها في البيت أو الشارع أو المعمل أو النادي... في حين أن الثانية لا يمكن اكتسابها إلا في المدرسة أو ما يقوم مقامها لاستعمالها كلغة قراءة وكتابة فقط. وهذه هي وضعية اللغة العربية: لا بد من مدرسة لتعلمها كلغة كتابة وقراءة، ولتستعمل فقط كلغة كتابة وقراءة من طرف هذا الذي تعلمها في المدرسة. وهذا لا يمنع من استعمالها على شبكة الأنترنيت، أو في هيئة الأممالمتحدة، أو كلغة رسمية لدى العديد من الدول، ولكن دائما وفقط كلغة قراءة وكتابة. فهي إذن حاضرة على شبكة الأنترنيت كنصوص مكتوبة، وذلك حتى عندما يكون هناك تواصل عبر تقنية "الشات"، فهي تستعمل كتابة فقط، أو كنصوص صوتية لكنها مسجلة في الأصل كنصوص مكتوبة، ولكن لا توجد أبدا كتخاطب شفوي مباشر بين مبحرين على الأنترنيت يتواصون عبر كاميرا الويب Webcam، أو سكايب Skype، أو بالطالك Paltalk، وغيرها من تقنيات التواصل الشفوي المباشر على الأنترنيت، كما يجري ذلك بلغات أخرى حية مثل الإنجليزية والإسبانية والصينية والأمازيغية والدارجة... وهي حاضرة كذلك بهيئة الأممالمتحدة كلغة مكتوبة ومقروءة فقط، ولا يستعملها ممثلو الدول للتخاطب فيما بينهم داخل أروقتها كما يفعلون بالإنجليزية أو الفرنسية أو الصينية أو الإسبانية أو الروسية، وهي مستعملة عند الدول التي تتبناها كلغة رسمية كلغة كتابة وقراءة فقط... لقد فقدت وظيفة الحياة الأولى للغة، وهي وظيفة التخاطب الشفوي في الحياة اليومية، والتي لا تتوفر إلا للغات الأم عكس العربية التي ليست لغة الأم لأحد في العالم. ولهذا لم أفهم كيف أن لسانيا مثل الأستاذ فؤاد بوعلي يكتب ب«أن ولوج العرب عالم النت ما زال متدنيا بالمقارنة بعدد الناطقين باللسان العربي»، مع أنه لا يوجد أي ناطق باللسان العربي، الذي يعني في مقاله اللغة العربية. ويكرر نفس الخطأ عندما يقول: «فقد وصلت نسبة مستخدمي الأنترنت في الشرق الأوسط إلى 3،8 % (يونيو 2012) من مجموع المستخدمين على الصعيد العالمي، وعدد المتحدثين بالعربية5،1%»، مع أن العربية لا يتحدثها أحد في الحياة اليومية في كل العالم، وإنما هناك من يكتبها ويقرأها فقط. كنا نعتقد أن مثل هذه الأفكار مقصورة على العامّة وغير المتعلمين الذين يساوون بين عدد سكان العالم العربي وعدد "المتحدثين" بالعربية و"الناطقين" بها، فإذا هي أفكار رائجة أيضا، ليس فقط عند المثقفين والمتعلمين، بل عند اللسانيين منهم. فالاستشهاد بانتشار العربية على شبكة الأنترنيت، أو التذكير باستعمالها كلغة رسمية في هيئة الأممالمتحدة، أو استحضار عبقريتها المعجمية والاشتقاقية، لن يغير شيئا من وضعيتها كلغة "معاقة" فقدت القدرة على الاستعمال في الحياة اليومية، مثلما لن يعيد التذكيرُ بمفاخر ومناقب شخص بُترت إحدى رجليه القدرةَ على استعمال كلتا رجليه في المشي. ولهذا فليس من المناسب التباهي بالقول: «في الصورة المرسومة من طرف الإحصاءات ما زالت الفرنسية في تراجع والعربية في تصاعد مما سيسقط لا محالة وهم الربط الجدلي بين لغة المستعمر والحداثة»، لأنه حتى على فرض أن الفرنسية تتراجع أمام تقدم العربية في الأنترنيت، وهو أمر غير صحيح، فإنها تبقى دائما متفوقة ومتقدمة على العربية نظرا لما تملكه من قدرة على الاستعمال الشفوي في الحياة نتيجة كونها لغة أم في بلدها، وهو ما تفتقر إليه العربية، مما يجعل منها لغة ضعيفة مقارنة مع الفرنسية، حتى لو كان عدد مستعملي العربية كلغة كتابة يفوق بكثير عدد مستعملي الفرنسية. استعمال العربية إذن كلغة كتابة، وليس كلغة تخاطب، في الأنترنيت وفي الأممالمتحدة وفي الإدارة وفي مجالات كثيرة، ولكن دائما كلغة كتابة وقراءة فقط يفترض أن مستعملها متعلم درسها في المدرسة لمدة كافية تمكنه من كتابتها وقراءتا، شيء لا ينكره أحد ولا يشكك فيه أحد، لأنه شيء يتلاءم وينسجم تماما مع ما تبقى من قدرات ووظائف للغة العربية. كما أن هذا الاستعمال لا يطرح أي مشكل يكون مصدره اللغة العربية نفسها. وأين المشكل إذن؟ المشكل الوحيد لكنه ليس بالهيّن هو عندما تستعمل العربية، ليس في الأنترنيت أو في الأممالمتحدة أو عندما تدرّس كلغة، وإنما عندما تستعمل كلغة للتدريس، أي كلغة لتكوين الإنسان وتأهيله وتثقيفه وتلقينه المعرفة والعلوم. ومن هنا تظهر أهمية وخطورة اللغة عندما تستعمل كلغة للتدريس، أي كأداة للتكوين والتأهيل وبناء الفكر والعقل، وهو ما يجعل منها، عندما تكون مناسبة لذلك، أداة للتنمية والتقدم، أو عائقا لهما عندما لا تكون مناسبة. وحتى لا أكرر ما سبق أن كتبته حول هذا المضوع (انظر: "الأسباب الحقيقية لضعف مستوى اللغة العربية عند التلاميذ" )، أقول إن التعليم والتكوين اللذيْن يتمان بلغة لا تستعمل في الحياة اليومية، تكون نتائجهما على مستوى المردودية والجودة سيئة جدا، وبالتالي تكون آثار استعمال هذه اللغة للتدريس (التعليم والتكوين) سيئة جدا كذلك على التنمية البشرية والاقتصادية. فاستعمال لغة "معاقة" لتكوين المواطنين وتأهيلهم، لا يعطي إلا تكوينا وتأهيلا ناقصين و"معاقين". أعرف أن الكثيرين يرفضون هذه الخلاصة لأنهم يحكمون على اللغة العربية انطلاقا من أنفسهم وتجربتهم ونجاحهم في إتقانها. لكن عليهم ان يطرحوا الأسئلة التالية: كم من التلاميذ الذين التحقوا في نفس السنة معهم هم الناجحون بالمدرسة الابتدائية نجحوا مثلهم في إتقان العربية، واستطاعوا بالتالي الاستفادة من تكوينهم الذي تلقوه باللغة العربية؟ لا شك أن نسبة هؤلاء ستكون قليلة جدا، لأن الكثير منهم يفشل ويرسب وينقطع قبل الحصول على الباكالوريا. أين وصل المغرب وهذا هو بيت القصيد على مستوى التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي بعد أن أصبحت لغة التعليم والتكوين هي العربية في الابتدائي والثانوي؟ فالجميع يعرف أن المغرب يصنّف اليوم في مؤخرة الدول في مجال التنمية على الصعيد العالمي. أين كان سينزل هذا المستوى، النازل أصلا، من التنمية لو فرض تدريس العلوم بالجامعة باللغة العربية؟ ولهذا فلا معنى للتبجح بالتقدم الذي حققته العربية على شبكة الأنترنيت، إذا كانت هذه اللغة لم تحقق أي تقدم ولا تنمية للدول التي تستعملها كلغة للتدريس والتكوين، كما هو حال المغرب. ففي مجال التنمية وجودة التكوين، تقاس فعالية اللغات وتفوق بعضها على البعض. النتيجة أن انتشار العربية على شبكة الأنترنيت، كما تناوله الأستاذ فؤاد بوعلي، لا يعني تغيرا في وضعيتها التي هي دائما لغة فاقدة لوظيفة الاستعمال الشفوي في الحياة اليومية، مع كل ما يتضمنه هذا الفقدان من آثار سلبية على مستوى جودة تكوين التلاميذ الذين يتلقون تعليمهم بهذه اللغة، وهذا على افتراض أن هذه المعطيات الخاصة بانتشارها على شبكة الأنترنيت صحيحة. أما الحقيقة فهي أن هذه الأرقام لا تعني انتشارا حقيقيا للعربية على شبكة الأنترنيت، لأن هذا الانتشار ليس نتيجة استعمالها كلغة بحث وإنتاج للمعرفة والعلم مما يضطر المتعطشين لهذه المعرفة والعلم إلى استعمالها كما يضطرون إلى استعمال الإنجليزية أو الألمانية أو الصينية أو الفرنسية أو الإسبانية. فتقييم انتشار لغة على شبكة الأنترنيت لا ينبغي أن يُقارب انطلاقا من الكم الذي تمثله النسب العددية، بل انطلاقا من المضامين التي تنشر عن طريق هذه اللغة. والمضامين التي تنشر بالعربية على شبكة الأنترنيت هامشية، غير مهمة وغير مفيدة، هذا عندما لا تكون تافهة ومبتذلة. والأستاذ فؤاد بوعلي نفسه يعترف بهذا الواقع عندما كتب: «أشارت التقارير السابقة (مثل تقرير مجتمع المعرفة) إلى أن المحتوى الرقمي للعربية يقتصر على مجالات محدودة غالبا ما تكون بعيدة عن مجالات التنمية الثقافية والاجتماعية»، ناهيك عن مجال العلم والمعرفة. إن العربية، حتى تكون لغة محترمة لها مكانتها التي تستحقها، وحتى تقوم بوظائفها التي تسمح بها قدراتها الكتابية، يجب أن تدرّس كلغة بدل فرضها كلغة للتدريس، مع فتح شعب للتخصص فيها لمن يرغب في ذلك للحفاظ عليها كلغة دين وعبادة وتراث عربي إسلامي غني. واحترام العربية يعني استعمالها كما هي، أي كمجرد لغة لها نقط قوتها ونقط ضعفها. أما الحاصل اليوم في المغرب، فالعربية يُتعامل معها ليس كما هي في الواقع، بل كما ينبغي أن تكون، أي كإيديولوجيا وهوية. وهذا هو مصدر كل المشاكل التي تعاني منها هذه اللغة الجميلة.