انتخاب المغرب بالأغلبية لتولي منصب نائب رئيس منظمة الأنتربول عن القارة الإفريقية    بوصوف يكتب: خطاب المسيرة و الإجابات الوطنية الكبرى..    نقابات قطاع الصحة تتهم الحكومة ب"التنصل" من التزاماتها وتصف إجراءات مشروع قانون مالية 2025 ب"الخطيرة" و"التراجعية"    مؤشرات إيجابية نحو إنهاء أزمة طلبة الطب واستئناف الدراسة    منصف الطوب: هذا ما تحتاجه السياحة لتواصل صورتها اللامعة    إصلاح الضريبة على الدخل.. المحور الرئيسي لمشروع قانون المالية 2025    استمرار غياب زياش وعودة دياز.. هذه هي تشكيلة الركراكي لمبارتي الغابون وليسوتو    انتخاب "نزهة بدوان" بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع    استعدادات المنتخب الوطني: الركراكي يعقد ندوة صحفية وحصة تدريبية مفتوحة للإعلام    خيارات الركراكي: غياب زياش عن لائحة أسود الأطلس يثير التساؤلات    مغاربة مستغربون من الحصيلة العامة لإحصاء 2024    عمر حجيرة: المغرب يعتبر فاعلاً اقتصاديًا بارزًا في القارة الإفريقية    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    بالصور .. عامل الجديدة يوشح مجموعة من الموظفين بأوسمة ملكية بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء    بوجمعة موجي ل"رسالة24″ : يجب تعزيز الرقابة وحماية المستهلك من المضاربين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    ضبط عملية احتيال بنكي بقيمة تتجاوز 131 مليون دولار بالسعودية        جدري: القطاعات التصديرية المغربية كلها تحقق قفزة مهمة    "خطاب المسيرة".. سحب ضمني للثقة من دي ميستورا وعتاب للأمم المتحدة    تظاهرات واشتباكات مع الشرطة احتجاجا على فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية    نجم منتخب أوروغواي السابق دييغو فورلان يحترف التنس    شخصيات رياضية تكرم محمد سهيل    جو بايدن يشيد بهاريس رغم الخسارة    سفير أستراليا في واشنطن يحذف منشورات منتقدة لترامب    "جهة طنجة" تتقوى بمشاريع تنموية    تأخّر إنتاج عدة "التعليم الصريح" وطبعها بمؤسسات الريادة يرهن مستقبل 3 ملايين تلميذ    قانون إسرائيلي يتيح طرد فلسطينيين    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يعلن عن أعضاء لجنة تحكيم دورته ال21        خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    بعد رفعه لدعوى قضائية.. القضاء يمنح ميندي معظم مستحقاته لدى مانشستر سيتي    أولمبيك مارسيليا يحدد سعر بيع أمين حارث في الميركاتو الشتوي    محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بتهمة "التجاهر بالفاحشة"    كيوسك الخميس | القطاع السياحي يواصل تحطيم أرقام قياسية    انخفاض عدد المناصب المحدثة للتعليم العالي إلى 1759 منصبا في مالية 2025    التّمويل والصّيانة تحديات تحاصر أجرأة مشاريع برنامج التنمية الحضرية لأكادير    300 ألف تلميذ يغادرون المدرسة سنويا .. والوزارة تقترح هذه الخطة    إحصاء 2024 يكشف عن عدد السكان الحقيقي ويعكس الديناميكيات الديموغرافية في المملكة    لأول مرة.. شركة ريانير الإيرلندية تطلق خطوط جوية للصحراء المغربية    إعطاء انطلاقة خدمات مركز جديد لتصفية الدم بالدار البيضاء    مزور: المغرب منصة اقتصادية موثوقة وتنافسية ومبتكرة لألمانيا    الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يبرمج تسهيلات مهمة للمتقاعدين    ماهي انعكاسات عودة ترامب للبيت الأبيض على قضية الصحراء؟    انطلاق مهرجان وجدة الدولي للفيلم المغاربي في نسخته 13    دراسة: أحماض أوميغا 3 و 6 تساهم في الوقاية من السرطان        انطلاق الدورة الثالثة عشرة للمهرجان الدولي لسينما الذاكرة المشتركة بالناظور    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    ابتسام بطمة ترد على شائعات العفو الملكي    برنامج يخلد المسيرة الخضراء بمونتريال    "مهرجان سينما الذاكرة" يناقش الدبلوماسية الموازية في زمن الذكاء الاصطناعي    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة        كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما وراء الشجرة
نشر في لكم يوم 09 - 05 - 2012

أثارت الخطوة الجريئة التي قام بها الأستاذ مصطفى الخلفي وزير الاتصال بإعداد دفاتر تحملات جديدة للقطب العمومي للقطاع السمعي البصري جدلاً هو في الحقيقة " باطل أريد به باطل" كما قال عن حق الأستاذ محمد العربي المساري. وهو بمثابة شجرة تُخفي غابة كما يقول المثل الفرنسي. ذلك لأن كل الذين واجهوا هذه الإرادة الإصلاحية انطلقوا من مبدإ الحرية لمقاومة الإصلاح و إبقاء الوضع على حاله. و لأن للّغة في المجال المجال السمعي البصري دور حيوي كما هو الشأن تقريباً في كل مجالات الحياة العامة و الخاصة، فإن النقاش حول دفاتر التحملات يطرح من جديد و بِحدة المسألة اللغوية في المغرب. و ارتأيت أن أنشر في هذا السياق نص المداخلة التي قدمتها في إطار الندوة التي نظمتها جمعية المسار لتهييء تأسيس" الإتلاف الوطني لترشيد الحقل اللغوي بالمغرب " يوم 11 يناير 2011، قُبيل انطلاق انتفاضة شعوب أهم الدول العربية، المعروفة بالربيع العربي...
المسألة اللغوية بالمغرب : الورش الوطني الكبير
I خطاب علمي أم خطاب إديولوجي؟
لا يخلو الحديث عن الوضع اللغوي في المغرب من حمولة إيديولوجية يمكن أن نفسرها بالبعد السياسي لهذا الوضع و ما آلت إليه مختلف المقاربات التي حاولت معالجته.
و لكن هل يعني هذا أنه لا يمكن تجاوز هذه الحمولة لتناول الموضوع بطريقة علمية مبنية على تحليل يعتمد على مفاهيم و منهجية صالحة للتطرق إلى اللغة و وظائفها بالنسبة للفرد و المجتمع؟
نعتقد أن هذا التناول ممكن و منه سننطلق لتجاوز كل جدل عقيم و للخروج بنظرة واضحة تؤدي إلى سياسة عملية يمكنها تغيير وضع لا أحد يجادل في أنه وضع غير عادي، و له كما سنرى في هذا المقال تداعيات سلبية في مختلف مجالات الحياة.
II تمهيد ضروري
1 مفهوم الغة
لمصطلح اللغة، كما هو متعارف عليه في الأدبيات اللسانية، مفهومان:
1. يعني مصطلح اللغة في المفهوم الأول نسقاً كبيراً يتضمّن مجموعة أنساق صغرى أو منظومات تحتوي بدورها على عناصر مرتبطة تتفاعل فيما بينها وفق قواعد مضبوطة.
1.1 منظومة الأصوات
يتوفّر كلّ نسق لغوي على مجموعة أصوات وظيفية يختارها من ضمن الأصوات التي يمكن للإنسان إصدارها. فالطفل الوليد مثلاً، باستطاعة جهازه الصوتي( المركب من الحنجرة والفم و اللسان والأسنان إلخ.) أن يُصدِر مجموعة كبيرة من الأصوات، تتقلّص تدريجيا في السنوات الثلاثة الأولى، ليحتفظ فقط بتلك التي توظِّفها اللغة ( أو اللغات ) التي يتعلّم التواصل بها في بيئته الأصلية.
إذا أخذنا مثلاً صوت [خ] ، فإنّ كلّ وليد يمكن له إصداره لكن الناشِئ في بيئة فرنسية أو إنجليزية سوف تضعف عنده هذه الإمكانية بينما ينمِّيها ويوظِفها الناشِئ في بيئة عربية أو إسبانية.
في حالات أخرى تنمّي البيئة عند الطفل متغيِّرات صوتية لها حمولة جغرافية. نأخذ كمثال صوتي [ر] و[غ] في اللغة الفرنسية : يجتمع هذان الصوتان في وظيفة واحدة. فالمعنى واحد في كلمة drapeau سواء نُطِقت ب [غ] أو ب [ر]. لكن النطق ب [ر] يعطي للمخاطَب معلومة إضافية لا يقصدها بالضروري المتكلِّم و هي أن هذا الأخير ينحدر من جنوب فرنسا. هذه المعلومة ليست نسقية لأنها ليست لصيقة بمعنى الكلمة المعنية، بل يمكن للمتكلِّم أن يتخلّص منها إذا أراد أن يُخفي أصله أو أن يتصنَّعها إذا أراد أن يوحيَ بأنه من هذا الأصل.
يمكن أن نعطيَ مثالاً آخر من هذا القبيل في اللغة العربية: صوت [ ق] يُنطق [ أ ] مفخّمة في الشكل الفاسي للدارجة المغربية العربية. هذه حمولة جغرافية كثير من مواليد فاس يسعون إلى التخلّص منها عند ما يغادرون مدينتهم.
1.2 منظومة الصرف و التركيب
لمنظومة الصرف و التركيب مجموعة من الوظائف يمكن تلخيصها في ما يلي:
- الاعتماد على الأصوات الوظيفية المتوفِّرة في المنظومة الأولى لتوليد ' مرفيمات '
)'المرفيم ‘هو أصغر وحدة حاملة لمعنى(.
كمثال للوحدة الصغرى (أو الدنيا)الحاملة لمعنى، يمكن ذكر الجذر في اللغة العربية :
[ ك ت ب ] مثلاً جذر ثلاثي حامل لمعنى الكتابة. و هو بهذه الصفة 'مورفيم' يدخل وِفق قواعد معيَّنة في اشتقاق كلمات مثل كَتَبَ و كاتب و مكتوب و انكتب و كُتّاب إلخ.
- تحديد قواعد الاشتقاق
- تحديد الوحدات التركيبية و قواعد اشتغالها
1.3 منظومة المعجم
تتضمّن منظومة المعجم الوحدات المستقلّة الحاملة للمعنى والقواعد المنظمة لها. و هي تضبط مجموع الوحدات المعجمية لللغة وتشتغل في تفاعل مع منظومتي الصرف و التركيب والدلالة.
و تحدِّد هذه القواعد سِمات كل وحدة معجمية و كل كلمة. الجذر [ ج ر ي ] مثلاً، من ضمن سِماته الأساسية سمة الحركة التي نجد كذلك في [ ر ك ب ] أو [ ن ق ل ].
و يعتمد مؤلِّفو القواميس في عملهم على هذه المنظومة و على منظومة الدلالة.
1.4 منظومة الدلالة
تنتقل منظومة الدلالة بالمعنى من مستوى الوحدة المعجمية و الكلمة إلى مستوى الجملة و الخطاب. و تتفاعل هذه المنظومة أساساً مع منظومتي المعجم و الصرف و التركيب لإفراز معاني الجمل و الخطاب اللغوي بصفة عامة. و تبيِّن الترجمة الحرفية مدى اختلاف نتائج هذه التفاعلات من لغة إلى أخرى. و تؤدِّي هذه الاختلافات إلى عدة نكت أو مستملحات كما تؤدٍّئ إلى سوء فهم قد يكون وخيم العواقب. من المستملحات المعروفة عندنا ترجمة " صوّر طرف د الخبز" ب
photographier un morceau de pain » «
أو " دخل سوق راسك" ب « entre dans le marché de ta tête »
و كثيراً ما يختلف الساسة و المحلِّلون في فهم القرارات الدولية من لغة إلى أخرى فيتمسّك كل طرف بفهمه.
. 2 يعني المفهوم الثاني لمصطلح اللغة تجلِّيات النسق اللغوي في إنجازات المتكلِّم المخاطَب. وتتخذ هذه التجلِّيات أشكالاً مختلِفة تتحكّم في متغيِّراتها عوامل جغرافية أو اجتماعية أو حتى شخصية.
تتجسّم تجلِّيات اللغة في أشكال لغوية تشترك في المعالم الكبرى لمنظومات النسق وتختلف في المتغيٍّرات كطريقة النطق أو اختلاف جزئى في المعجم و التركيب0
ليس لهذه الأشكال اللغوية، في الأصل، أي تفاوت بينها في قيمتها الداخلية0 لكن وضعها في المجتمع يعلو أو يدنو بحسب من يستعملها و الوظائف المنوطة بها0
و كثيراً ما يُطلق مصطلح " لهجة" على هذه الأشكال. لكن هذا المصطلح يحمل معنيين غالِباً ما يقع الخلط بينهما.
يرادف مصطلح "لهجة" ، في المعنى الأول، مصطلح "شكل" الذي نستعمل. و هذا ينطبق مثلا على أشكال أو لهجات اللغة الأنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية أو اللهجات الأمازيغية الثلاثة 0
في الحالتين ليس هناك شكل معياري يتميّز بوضع أعلى أو أكثر اعتباراً من الأشكال الأخرى0
يمكن لشكل من الأشكال اللغوية (أو لهجة من اللهجات) أن يطلق عليها مصطلح " لغة "0 وهنا يأخذ هذا المصطلح مفهوماً ثانياً هو المفهوم المتداول عند عامة الناس0 ويضع هذا المفهوم نوعا من التراتبية بين شكل لغوي رفيع يسمى " لغة " و شكل وضيع يسمى " لهجة "0و بطبيعة الحال، فإن هذا التصنيف غير علمي، و يعتمد أساساً على اعتبارات تاريخية أو مجتمعية0
نأخذ كمثال على هذه الحالة وضع اللغة الفرنسية0
إلى جانب اللغات الجهوية التي كانت منتشرة في فرنسا قبل إجبارية التعليم، كانت لللغة الفرنسية أشكال أو لهجات مختلفة و غير متراتبة. و يقول مؤرخو هذه اللغة إن إبّان الثورة الفرنسية، %75 من ساكنة هذا البلد لم تكن تتكلّم الشكل اللغوي الفرنسي الذي نعرف الآن، و الذي هو في . الأصل لهجة باريز0 أو بتعبير أدق ما يسمى ب. l'ïle de France
هل ينطبق هذا الوضع على اللغة العربية؟ .3
هناك من يقول إن اللغة العربية هي لهجة قريش التي صارت لغة عندما جاء بها القرآن الكريم. و هذا، في اعتقادي، احتمال ضعيف لعدة أسباب:
لم يكن كل شعراء الجاهلية من قريش، و مع ذلك كانوا ينظمون شعرهم باللغة العربية.
و معلوم أن هذا الشعر كان يُلقى في الأسواق (أشهرها سوق عكاظ) التي كان يأتي إليها الناس من مختلف القبائل 0 و هذا يُرجِّح الاعتقاد أن اللغة العربية كانت ، قبل الإسلام ، شكلاً أدبياً مشتركاً و هذا ما كان يُسمّيه الإغريق. koinè
توجد في لغة القرآن الكريم مفردات معجمية و تراكيب نحوية كانت تستعملها بعض القبائل دون غيرها و لم تكن في لغة قريش.
توجد حاليا في بعض اللهجات العربية مفردات معجمية و صِيغ تركيبية مشتركة لا وجود لها في الفصحى.
السبب الأخير هو وجود الأشكال العربية الأخرى أو ما نسمّيه بالدوارج . لو كنا في وضع اللغة الفرنسية لاندثرت هذه الدوارج أو قلَّ تداولها بشكل كبير و أصبحت اللغة العربية هي لغة التخاطب و التواصل الوحيدة عند كل العرب، خاصّة بعد أن صارت لغة القرآن0
يثبت الواقع غير هذا. فاللغة العربية لا زالت شكلاً لغوياً و أدبياً مشتركاً بينما احتفظت الأشكال العربية الدارجة بالتخاطب الشفوي و اتّسع مجالها من القبيلة إلي مجالات جغرافية كبرى تتناسب، إلى حدّ ما، مع التقسيم السياسي الحالي للدول العربية0
يُظهر الواقع كذلك أن الطفل العربي حينما يبدأ تعلُّم الفصحى في المدرسة، لا يشعر بأنه يتعلَّم لغة أجنبية، نظراً للتقارب الموجود بين شكلي اللغة العربية على مستوى المنظومات النسقية الأربعة التي تحدّثنا عنها في بداية هذه المداخلة0 نجد مثلاً تقارباً كبيراً على مستوى منظومة الأصوات و رصيداً مشتركاً مهمّاً على مستوى المعجم 0
هذا ما سمّاه Ferguson ب . diglossie
أي ازدواجية لغوية قائمة على شكلي لغة واحدة متكاملة الوظائف0 نجد هذا الوضع في كثير من اللغات، منها مثلا العربية و الألمانية (خاصة بسويسرا) و اليونانية و غيرها 0 هذا إذن وضع لغوي عادي تعرفه مجموعات لغوية متعددة و تمارس فيه هذه الازدواجية بصفة تلقائية 0
بالنسبة للغة العربية، تعرف مجتمعاتها احتكاكاً يومياً بين الشكل الشفوي و الشكل المكتوب أي ما هو معروف بالدارجة و الفصحى و قد حلّل بعض اللسانيين هذا الوضع في اللغة العربية و أصدروا مواقف مختلفة نشير إليها بإيجاز في ما يلي :
- يقارن الموقف الأول الفصحى باللغة اللّاتينية ويعتبر أن مآلها هو الانقراض أو على الأقل حصرها في بعض المجالات كمجال الدين و الأدب ' العالِم '، لصالح الدوارج التي ستصبح لغات الدول العربية الحديثة و تقطع، على الأمد التوسِّط أو البعيد ، أيَّ صلة بالفصحى0
يدافع على هذا الموقف بعض المستشرقين ككلود هاجيج و كالفي و غيرهما. وقد سمعنا هذا الموقف في الندوة التي نظمتها جمعية زاكورة بالدار البيضاء في شهر يونيه الماضي.
- الموقف الثاني أقدم و لكنه لا زال له أنصاره في فرنسا و المغرب. أوّل من جاء بهذا الموقف هو وليام مارسي سنة 1930 و دافع عنه كولان سنة 1945 و يدافع عنه الآن بعض المفرنسين المغاربة 0
يقول هذا الموقف إن لغة المغاربة الناطقين بالعربية هي الدارجة؛ و لكنها لا تصلح حالياً للوظائف اللغوية ' الرفيعة ' كالنقاش الفكري أو العلمي و مجالات التدبير و المقاولة و التعليم العالي الخ. ، لذا يجب ترك هذه المجالات لللغة الفرنسية. أمّا الفصحى فهي لغة الدين و الثقافة ' العالمة ' 0
يلتقي الموقفان في تجاهلهما للوضع الحالي للفصحى و للوظائف اللغوية الحيوية التي تقوم بها على مستوى العالم العربي. يكفي أن نتأمّل الدّور الذي يلعبه الإعلام النّاطق بها في الظرف الرّاهن؛ و كذلك الإقبال الذي يعرفه الأدب العربي الحديث. و تجدر الإشارة إلى أن هذه الفصحى أو الشكل اللغوي الكتابي يتطوّر عبر الزمن ككل اللغات الطبيعية الحية، فلغة الجاحظ ليست هي لغة طه حسين و لغة هذا الأخير ليست لغة قناة الجزيرة0
نضيف أن وجود الدارجة كشكل للتخاطب الشفوي، عامل يساعد على حفظ الفصحى من التغيير السريع و بقاءها كأداة للتعبير و الإبداع المشترك في مجال جغرافي واسع0
مفهوم اللغة الأجنبية و مفهوم اللغة الوطنية 4.
سمات اللغة الوطنية
 أوّل سمات اللغة الوطنية هي أنها لغة التخاطب و التواصل بين أفراد مجموعة لغوية معيّنة في كل مجالات الحياة. صفة "الوطنية" لا تعني بالضرورة أن هذه اللغة تعمّ الوطن بأكمله، بل يمكن أن تتعايش مع لغة أو لغات أخرى. نعرف هذه الحالة في المغرب مثلاً أو في كندا و بلجيكا و سويسرا 0
 السمة الثانية هي أن اللغة الوطنية هي لغة التفكير و التعبير و الإبداع لأفراد المجموعة المذكورة، الذين يعتبرونها الرّابط الرّمزي الأوّل الذي يجمعهم و يؤكد انتماءهم لهذه لمجموعة و يعبِّر عن هويتهم المشتركة0
 تتجلّى السمة الثالثة للغة الوطنية في وجود رصيد متراكم من التراث المؤلّف بها. و يمكن أن يكون هذا التراث مكتوباً أو شفوياً تتواتره و تغنيه الأجيال المتعاقبة0
 أمّا السمة الرابعة فتظهر في استمرار الإنتاج بها و إغناءها كل يوم بالتخاطب و التواصل و التفكير و الإبداع0
 تتعلّق السمة الخامسة و الأخيرة بطريقة تعلُّم اللغة الوطنية. إذا كانت هذه اللغة هي لغة الأم فإن الوليد يشرع في الاستئناس بها و هو لا يزال في البطن و يشرع في تعلُمها بطريقة عفوية ليتمكّن من قواعدها في حدود سنته الثالثة0
سمات اللغة الأجنبية
 أولى سمات اللغة الأجنبية هي أنها نشأت و تطوّرت في بلد غير البلد الذي نَصِف. فاللغة العربية مثلاً وطنية في المغرب و أجنبية في فرنسا. هناك استثناء يخص موطن النشأة: إذا اعتبرنا اللغة الفرنسية مثلاً، فإنها نشأت في فرنسا و لكنها تطوّرت كذلك في بلدان هاجر إليها فرنسيون كبلجيكا و سويسرا و كندا حيث أصبحت لغة وطنية. يمكن تطبيق نفس التحليل على اللغة الإنجليزية التي نشأت في إنكلترا و حملها إلى الولايات المتحدة الأمريكية و كندا و أستراليا إنجليز هاجروا إلى هذه البلدان. و في هذه الحالات، كثيراً ما يختلف التطوّر من بلد إلى آخر. لذا نجد في هذه اللغات مُتغيِّرات، خاصّة على مستوى النطق و المعجم 0
 من سمات اللغة الأجنبية أيضاً أنها لا تتلقّى أي جديد في البلد " المضيف ". فالمتكلِّمون الأجانب لا يبدعون فيها. هم " يستهلكونها " فقط. حضور اللغة الفرنسية بالمغرب مثلاً يقرب من مائة سنة، لكننا لا نجد فيها كلمة واحدة أبدعها المغاربة. و حتّى عندما يتجرّأ " الأهالي "على بعض الإبداعات كما يقع أحياناً في دول إفريقيا فإنها تبقى حبيسة هذه الدول و لا يستعملها المتكلِّمون الأصليون إلا من باب السخرية أوالمزاح0
نعطي كمثال عبارة « poulet télévisé » المتداولة في دول إفريقيا الغربية والتي تعني دجاج مشوي على المشواة الكهربائية المعروفة في المقاهي، فإن هذه العبارة لا تستعمل إلا من باب النكتة رغم أن مقابلها « poulet rôti » لا يفي بنفس المعنى.
 تُحدِّد السمة الثالثة وظائف اللغة الأجنبية. الوظيفة الأولى هي التخاطب و التواصل مع من يعرف اللغة الوطنية. عندما يريد الإنسان تعلُّم لغة أجنبية، فإنه غالباً ما يختار لغة منتشرة في العالم ليستفيد من معرفتها كلما احتاج إلى مخاطبة من لا يعرف لغته0
و في بعض الأحيان، و هذه هي الوظيفة الثانية، يتعلّم الإنسان لغة أجنبية لمعرفة الآخر وثقافتَه. نجد هنا على سبيل المثال مَن يريد قراءة النصوص في أصولها و لا يكتفي بالترجمة0 كثير من الباحثين مثلاً يتعلّمون اللغة الألمانية لدراسة الفلاسفة الألمان الكبار0
من وظائف اللغة الأجنبية كذلك، ممارستها للولوج إلى المعرفة والعلم على المستوى الدولي 0في هذا الصدد، تحتل اللغة الانجليزية موقع الصدارة0
في دراسة حديثة لليونسكو، جاء عدد صفحات أنترنت بالنسبة لثلاث لغات على الشكل الآتي:
النسبة اللغة
45% الإنجليزية
4,41% الفرنسية
3,8% الإسبانية
! لمجموع اللغات الأخرى 46,79 % و تبقى
تهُمُّ الوظيفة الرابعة للغة الأجنبية التعامل التجاري الدولي؛ و هنا أيضاً تحتلُّ اللغة الإنجليزية موقع الصدارة0 فهي لغة تعامل التجارة الدولية بامتياز و التي تحقق نوعاً من المساواة في التواصل و التفاوض بين غير الناطقين بها0 فالإنجليزية هي لغة التجارة بين فرنسي و صيني مثلاً؛ هي إذن لغة أجنبية بالنسبة للطرفين0 لكن في بعض الأحيان، يختار طرف أن يتعامل بلغة الطرف الثاني ليظهر له أنه يعرف لغته و ثقافتها فيكسب عطفه و يصير التعامل التجاري أكثر حرارةً و دفأً0 لهذا السبب، كثير من الناس يتعلّمون حالياً اللغة الصينية مثلاً0
 و نأتي إلى السِّمة الأخيرة للغة الأجنبية، فتعلُّمها يمرُّ عبرالتلقين المدرسي و ليس بعفوية تعلُّم لغة الأمّ0 يؤثر هذا الاختلاف في التمكن من اللغة و من ممارستها0ولهذا فإن تملُّك اللغة الأجنبية لا يصل إلى مستوى تملُّك لغة الأم و لو بدأ تعلُّمها مبكِّراً0
لماذا يوجد الوضع اللغوي بالمغرب في حالة فوضى؟ III
سمات الوضع الحالي 1.
يتّسم الوضع الحالي بوجود لغتين وطنيتين هما اللغة العربية واللغة الأمازيغية، ولغة أجنبية واحدة هي اللغة الفرنسية. هناك لغات أجنبية أخرى لكنها غائبة تماماً عن المجتمع و ينحصر وجودها في المدرسة كلغة ثالثة: و يتعلّق الأمر بالإنجليزية و الإسبانية و الألمانية، وبدرجة أقل الإيطالية و الروسية0
إذا نظرنا إلى اللغات المتواجدة في المجتمع المغربي من زاوية الوضع ( وطنية /أجنبية ) و من زاوية السِّمات والوظائف، نجد أن الخلل يأتي من استحواذ اللغة الأجنبية على وظائف اللغتين الوطنيتين0
. 2 تذكير تاريخي
عندما " قرَّرت " الحكومات الأولى في المغرب ( كما فعلت مثيلاتها في مستعمرات فرنسا القديمة في المغرب العربي) الاحتفاظ باللغة الفرنسية كلغة مساعدة، كان القصد هو تكليفها ببعض وظائف اللغة الأجنبية كالانفتاح على الخارج و الولوج إلى البحث العلمي و بصفة مؤقتة الاحتفاظ بها في التدريس الثانوي و العالي و الإدارة0
لم تأخذ آنذاك في الحسبان ثلاثة عوامل عقّدت الوضع اللغوي في بلادنا و صار من باب المستحيل التفاعل مع مجرى التاريخ بحرية و بالاستقلال السيادي المطلوب، دون جرأة و إرادة سياسية قوية0
 العامل الأوّل هو الأهمّية التي توليها الدولة الفرنسية إلى لغتها و ثقافتها لاستمرار نفوذها في مستعمراتها القديمة0 يتجلّى هذا في المغرب من خلال وجود معاهدها في أهم المدن و ربط علاقات مع المدارس المغربية و كراء قاعات الدرس في مدارس في الأحياء الشعبية لتدريس اللغة الفرنسية ، الخ... 0
 استفادت اللغة الفرنسية من الارتفاع الكبير لعدد الأطفال الممدرسين في بداية الاستقلال و الذين وصلوا إلى التعليم العالي في نهاية الستينيات و خلال السبعينيات0 هؤلاء درسوا باللغة الفرنسية بالمغرب أو في فرنسا واشتغلوا بنفس اللغة و أصبح عدد منهم يدافع عن استمرارها في نفس الوظائف بدعوى التاريخ و البراغماتية0 هذا هو العامل الثاني الذي عقّد الوضع اللغوي في المغرب0
 العامل الثالث سياسي : تردّد القرار السياسي بعد 1960 بين التعريب الذي كان من مطالب الحركة الوطنية وبين ضغوط فرنسا و المدافعين على استمرار الحضور القوي لِلغتها. فكان الاختيار ملتبساً، يطغى عليه التوازن في إرضاء الطرفين. تقرّر في نفس الوقت تعريب التدريس إلى حد نهاية الثانوي و العلوم الإنسانية في التعليم العالي مع الإبقاء على اللغة الفرنسية في العلوم البحتة و الطب و الهندسة و علوم التدبير و التجارة و غيرها. تشتغل الإدارة باللغتين مع تفضيل الفرنسية في حالات متعددة، بينما تنفرد الفرنسية بالمقاولة، خاصة على مستوى الكتابي. كما شجّع أصحاب القرار الإعلام الناطق بهذه اللغة وأُعطيت له كثير من الامتيازات0
علامات الفوضى في الوضع اللغوي . 3
أوّل علامات هذه الفوضى هو الاعتماد على لغة أجنبية واحدة و عدم أخذ قرار الاعتماد على لغة أجنبية ثانية إلى جانب الفرنسية. كان يمكن مثلاً الاحتفاظ باللغة الإسبانية التي كانت مستعملة في شمال المغرب و في صحرائه، أو إدخال الإنجليزية بشكل واسع0لو كانت عند أصحاب القرار بعد النظر السياسي في هذا الموضوع في بداية الاستقلال لما كان هذا المشكل قائماً الآن. ذلك أن وجود لغتين أجنبيتين في الوضع اللغوي يَحُدّ من إمكان هيمنة إحداهما و يتيح المجال للغة الوطنية ( أو اللغتين في حالة المغرب) بالقيام بوظائفها كاملة، خاصة إذا كانت اللغة الأجنبية الثانية أكثر انتشاراً في العالم من الأولى0
تتحلّى اللغة الفرنسية بالمغرب بِسِمات اللغة الأجنبية الموصوفة في الفقرة الرّابعة من التمهيد النظري، أي أنها أجنبية المنشأ و التطوّر، تعلُّمها مدرسي و تُستعمل لمخاطبة من يعرفها و لا يعرف إحدى اللغات الوطنية و لمعرفة ثقافة الآخر، أو بالأحرى ثقافة الناطقين بها0
يبدأ الخلل عندما نتمعّن في السِّمات و الوظائف الأخرى المرتبطة باللغة الأجنبية: الولوج إلى المعرفة و العِلم على المستوى العالمي و التعامل الدبلوماسي و التعامل التجاري الدولي. نجد في هذه المجالات تراجعاً مستمرًاً و ملحوظاً للفرنسية. تحاول فرنسا فرض لغتها على المستوى الدبلوماسي الرسمي، خاصة في المجامع الدولية، لكن الباحثون و المقاولون الفرنسيون يضطرّون إلى اللجوء إلى اللغة الإنجليزية لمسايرة البحث العِلمي العالمي أو المنافسة التجارية الدولية0 فهم، في هذه الحالات، يستعملون الإنجليزية
في الندوات العلمية و في اجتماعات الشركات متعددة الجنسيات و لو كانت منعقدة في باريس0
معنى هذا أن اللغة الفرنسية لم يعُد باستطاعتها تقديم هذه " الخِدمة " إلى المغرب و المغاربة: أي خدمة أداة مسايرة التطوّر العِلمي، و التعامل الدولي ، سواء كان على المستوى الدبلوماسي أو التجاري. بل أصبحت عائقاً لأننا لا ننفتح على البحث العِلمي إلّا من خلال ما ينشر بهذه اللغة بينما ما ينشر باللغة الإنجليزية هو أوفر وأجود كذلك لأنه أصلي و غير مترجم. أمّا على مستوى التجارة الخارجية، فإن اللغة الفرنسية، باسم التاريخ، تحصر مفهوم العولمة بالنسبة للمغرب في التعامل مع فرنسا، فهي أول زبون و أول مُزَوِّد. المفارقة في هذا الصدد أن أداة الانفتاح تصير أداة انغلاق تحجب عنّا أغلبية دول العالم، باستثناء الدول الفرنكفونية والدول العربية. و كثيراً ما ينزعج مواطنو هذه الدول الأخيرة من هيمنة الفرنسية في المغرب0 و كثيراً ما يتسبّب هذا الانزعاج في عدم توفيق المغرب في الحصول على صفقات تجارية مع هذه الدول وفي عزوف سوّاحها على القدوم إليه0
تظهر أكثر مكامن الخلل و مظاهر الفوضى اللغوية عندما نتناول بالملاحظة والتحليل الوظائف الأخرى المنوطة حالياً باللغة الفرنسية في المغرب0
تُستعمل اللغة الفرنسية كلغة التخاطب و التواصل عند أقلِّية صغرى لكنها وازنة في المجتمع المغربي. بل أصبحت لغة التفكير و التعبير عندها بدل اللغتين الوطنيتين. و قد فرضت هذه الأقلِّية الفرنسية كلغة نخبة في جميع المجالات، و خاصة على مستوى المقاولة، بتشجيع من الدولة كما رأينا.
و قد امتدّ هذا التشجيع إلى الإعلام بالترخيص لميدي 1 سنة 1980 ثمّ إحداث M 2 سنة 1989
و بروز كثير من الصحف الناطقة باللغة الفرنسية طيلة السنوات الموالية0 وقد مُنِحت لهذه الصحف تسهيلات و امتيازات كبيرة، خاصة على مستوى إعلانات الإشهار0
بالنسبة لقطاع التعليم، كانت 1989 سنة فاصلة لأنّها عرفت وصول أول فوج من حاملي الباكلوريا الذين درسوا المواد العلمية باللغة العربية0 و كانت صدمةً لهم عندما علِموا أنهم مطالبون بمتابعة التعليم العالي باللغة الفرنسية. و كثير منهم دخل إلى كلية الآداب أو كلية الحقوق ليدرس بالعربية بدل أن يتابع دراسته في تخصصات علمية0
خلق هذا الارتباك في سياسة الدولة قلقاً عند الآباء و أذكى حِدّة الفوارق الاجتماعية. ذلك لأن هذا الوضع دفع الفئات الاجتماعية المتوسِّطة و العليا إلى تسجيل أبنائها في المدارس الخاصة أو مدارس البعثات الأجنبية منذ التعليم الأوّلي حتّى تضمن لها المستوى المطلوب في اللغة الفرنسية في التعليم العالي. و معلوم أن هذه المدارس تستقبل حوالي % 7 من مجموع الأطفال الممدرَسين في المغرب. هذا يعني أن %39من أبناء المغاربة لا يجدون بُدّاً من المدرسة العمومية0
و من هؤلاء % 15 فقط يصلون إلى الباكلوريا ! نرى هنا موطِن الخلل و خطورته0
أدّى استحواذ اللغة الفرنسية على وظائف اللغات الوطنية في مجالات المقاولة و جزء من الإعلام و الإشهار، بتشجيع و دعم من الدولة إلى خلق مناخ عام يوحي بأن هذه اللغة جزء لا يتجزأ من الثرات اللغوي و الثقافي0 و يساعد على تأكيد هذا البعد الثقافي دعم فرنسا لكل من يريد أن ينشر باللغة الفرنسية0
و برجوعنا إلى نسبة الأمية في المغرب التي لا تقِلّ على %50 ، و نسبة الذين يصلون إلى نهاية التعليم الثانوي الذي لا يضمن تمكُّناً كافيا من هذه اللغة، نفهم أنها في الواقع لغة نخبة تقفل باب العمل و الرُقي الاجتماعي في وجه من لا يجيد استعمالها0
IVخلاصة و تطلُّع للمستقبل
نستخلص من هذه المداخلة أن مصطلح " اللغة " له مفهومان عند اللسانيين: مفهوم النسق اللغوي الذي يضمّ منظومات تتفاعل فيما بينها وفق قواعد محدّدة يتملّكها الطفل مبكّراً و تلقائياً بالنسبة لللّغة الأولى. و يظهر المفهوم الثاني في مقابلة مصطلح " لغة " ومصطلح " لهجة ". هنا بيّنّا أن كل لغة ( بالمفهوم الأوّل) لها تجلِّياتها في أشكال لغوية مختلفة و حاملة لسِمات جغرافية أو اجتماعية. وهذه الأشكال التي هي لهجات في الأصل، و يمكن أن تصير إحداها لغة ( بالمفهوم الثاني) لأسباب تاريخية أو اجتماعية.
بالنسبة للغة العربية ، بيّنا أنها كانت تتوفر دائما على شكلين متكاملين: شكل دارج ينحدر في الأصل من لهجات القبائل وهو الذي أعطى مختلف الدوارج الحالية، و شكل مشترك كانت تستعمله القبائل خاصّة على مستوى الخطابة و الإبداع الشعري0 و قد صار بمجيء الإسلام لغة القرآن الكريم. و استنتجنا من هذا التذكير التاريخي أن الناطق باللغة العربية لا يتصوّر لغته إلّا في شكليها المتكاملين و يستعمل كل واحد منها في الوظائف المرصودة لها0
أمّا بالنسبة للغة الأمازيغية، فإنها تتجلّى في ثلاثة أشكال كبرى حاملة لسمات جغرافية وثقافية متميِّزة. و يقوم حالياً المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية برصد سمات نسق هذه اللغة و منظوماته لاستخراج شكل لغوي
مشترك و معياري يُعتمد عليه في كل وظائف اللغة الوطنية.
حدّدنا في فقرة موالية مفهومي اللغة الوطنية و اللغة الأجنبية و عرّفنا بوظائفها و بيّنّا بعد ذلك أن الفوضى اللغوية تظهر في الوضع اللغوي المغربي من عدم احترام هذه الوظائف، خاصّة من قِبل اللغة الفرنسية التي أصبحت لغة نخبة تفرضها في كل المجالات و تسدّ أبواب العمل و الرُّقي الاجتماعي في وجه غير مستعمليها.
نختم هذه المداخلة بوصف وجيز لمبادئ و ملامح سياسة لغوية تهدف إلى إعادة ترتيب الوضع اللغوي بالمغرب و ردِّ الاعتبار للغتين الوطنيتين مع الانفتاح الحقيقي على اللغات الأجنبية الدولية.
في البداية، يجب أن نؤكِّد مرّة أخرى أن قضية الوضع اللغوي في المغرب هي قضية سياسية بالدرجة الأولى و بالنسبة للمواطن المغربي هي قضية حقًّ و كرامة.
يمكن تحديد مبادئ و ملامح هذه السياسة اللغوية في النقط التالية:
1. في مجال التعليم
الحِفاظ على تدريس كل المواد باللغة العربية المرحلة في الابتدائية و الثانوية
تطوير تدريس اللغة العربية
تقوية و تطوير و تعميم تدريس اللغة الأمازيغة
اقتصار لغة العمل و التربية في التعليم الأوّلي على اللغة العربية واللغة الأمازيغية
تأخير تعليم اللغات الأجنبية إلى السنة الأولى إعدادي و تدريسها وففق الإطار الأوروبي لتدريس اللغات الأجنبية
إعطاء التلميذ حق اختيار لغتين إجباريتين من ضمن ثلاث لغات هي الفرنسية و الإنجليزية و الإسبانية
تدريس تدريجي للمواد العلمية في التعليم العالي باللغتين العربية و الإنجليزية إلى جانب الفرنسية
2. في الإدارة و المقاولة
إقرار برنامج تدريجي للاشتغال باللغتين الوطنيتين و الحدّ من استعمال اللغة الفرنسية
إحداث مصالح للترجمة للتعامل الدبلوماسي و التجاري
اقتصار استعمال الفرنسية في الإعلانات التجارية على الحالات القصوى المحدّدة بمرسوم تنظيمي
3. في الإعلام
حذف ازدواجية اللغة في البرامج و المحطّات الإذاعية و التلفزية
حذر الخلط اللغوي عند المتدخلين في البرامج
حصر استعمال اللغات الأجنبية في القنوات المغربية الدولية كالقناة الخامسة
دبلجة و ترجمة كل الأفلام و البرامج الأجنبية
اقتصار البرامج الحوارية على اللغتين الوطنيتين
4. في الحياة العامّة
منع تسمية الشركات و المتاجر بلغة أجنبية و إعطاء حجم أكبر للحرف العربي و الأمازيغي بالنسبة للحرف اللّاتيني
تنظيم حملات تحسيسية لتشجيع المواطنين و حثِّهم على استعمال اللغتين الوطنيتين في الحياة العامة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.