الهداية هي تلك الإشراقة والنسمة الربانية الندية الطليقة التي تتوجه إليها القلوب، ويتطلع إليها الحيارى، والغافلون فتوصل الذين يفتحون عقولهم وقلوبهم إليها (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ )النور/35، ولقد تفطن أهل اللغة إلى شرف المفهوم، فدونوا عند الحديث عن الجذر اللغوي (هدى): من أسماء الله تعالى: الهادي؛ قال ابن الأثير : هو الذي بصر عباده وعرفهم طريق معرفته حتى أقروا بربوبيته، وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد له منه في بقائه ودوام وجوده. وقال ابن سيده : الهدى ضد الضلال، وهو الرشاد. وقد هداه هدى وهديا وهداية وهدية، وهداه للدين هدى، وهداه يهديه في الدين هدى، والهدى: إخراج شيء إلى شيء . والهدى أيضا: الطاعة والورع. والهادي: الدليل. والهدية ما يعطى ويقدم. قال تعالى:( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ)النمل/36 .وقولهم: لأن يذهب على هديته. أي على قصده . ويقال : هديت أي قصدت. ومن جمال وقوة دلالته أنه لا يكون إلا في الحق والطريق. فقد ورد مفهوم الهداية في القرآن الكريم (307 مرة ) تكرر في المكي (198 مرة) وفي المدني(109 مرة). وتكرر المفهوم بصيغة الفعل (يهدي- هاد- هادي- هاديا – 70 مرة) وبصيغة الاسم (الهداية،7 مرات). إن هذه المقاربة الإحصانية تفيدنا في دلالة مفهوم الهداية بقوته التكرارية(307 مرة) فالدين لم يأت إلا لهداية الناس، وبهاد يهدي بنور الهداية. فتبدأ بأصول الإيمان ليسير بمفهومه في الناس والمجتمع بمنهج الله.( تكرر109 مرة في مجال التشريع). فأي منهج -إذن- للتربية يقدم اليوم هاديا ؟قال تعالى: )فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) البقرة /211. إن قول الله عز وجل: (فَهَدَى اللَّهُ) (وَاللَّهُ يَهْدِي) يكشف حقيقة هذه الهداية،الموجهة للمؤمنين بعد اختلافهم في تبين الحق، لما في قلوبهم من صفاء، أي هناك استعداد ورغبة للدخول فيها، فهداهم. وما أيسر الوصول إذا كانت الاستقامة. لأن هذه الهداية نور ليس فيها ظلام، ولا تتقاذفها النزوات والرغبات، وليس فيها تلونات، إنها منهج تربوي يسير في خط ثابت ومستقيم. فمفهوم الهداية هو بإشراقة النور، لا يترك المجال للظلام يكتنف ساحة الإنسان. (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ ۖ)يونس/35. ويشير المفهوم في قراءات القراء المختلفة إلى الإنقاذ من الضلال، ومن يدعو الناس إلى الهداية في رحمة وحضور وصفاء منهج أحق أن يتبع. فمالكم كيف تحكمون؟ إن جمال المفهوم في صيغه المختلفة التي تناولها القرآن، وأبان عنها اللغويون في حس مرهف في بحوثهم اللغوية، تدلنا أن فعل (هدي) و(يهدي) فيه قصدية برحمة الله، وهاد يهدي إليها. قال تعالى: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) الرعد/8 أي إمام وداعية، يأتمون به ويتقدمهم، فيهديهم إما إلى نور وإما إلى ظلام، ويتكرر هداة النور في هذه الأمة المحمدية، كما يتكرر فيها دعاة الظلام، ودعاة على أبواب جهنم. إنها جهنم الدنيا والحيرة والضياع، حتى إذا ما مل الإنسان حياة الرغبات والشهوات، بحث عن الهادي والدال على الله، فيخرجه من سجن نفسه إلى رحابة النور والإيمان. (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) الأنعام/91، يقتدي به، ويتبع أثره في التوحيد، والأقوال والأفعال، بقدوة ربانية فيها كمال، ونموذج تربوي حي، تشتد إليه الحاجة كلما تنكب الناس سبيل الهداية، وبعدوا عن الالتزام يقيم الدين وروحه، ليحدث فيهم هذا التغيير في السلوك بهداية الهادي، فتتحقق الهداية والصلاح في أمة الهداية والصلاح.