ذكر أَبُو الْبَقَاءِ الكَفَوِيُّ في الكليات أن العَبْدَ : هو الإنسان يَمْلِكُهُ من يَمْلِكُ. والعَبْدُ المضاف إلى الله تعالى يجمع على (عٍبَادٍ ) وإلى غيره على (عَبِيدٍ) وهذا هو الغالب، وفي القرآن إضافة العباد تختص بالمؤمنين، والعبيد إذا أضيف إلى الله تعالى فهو أعم من العباد ولهذا قال عز وجل : ( وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)قَ/29 والعبودية أقوى من العبادة لأنها الرضا بما يفعل الرَّبُّ، والعبادة : فعل ما يرضي الرَّبَّ، والعبادة تسقط في العُقْبىَ والعبودية لا تسقط، وعَبَدْتُ الله تعالى بالتخفيف، وعَبَّدْتَ الرجل بالتشديد أي اتخذته عَبْداً. قال تعالى:( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) الشعراء/22. أي استعبادك لبني إسرائيل حتى جعلتهم عبيدا. أما الزبيدي في تاج العروس فقال: والعُبُودِيَّةُ والعُبُودَةُ بضمهما والعِبَادَةُ بالكسر : الطاعة، وقال بعض أئمة الاشتقاق: أصل العبودية الذل والخضوع ، وقال آخرون : العبودية الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضي الرب، والأول أقوى وأشق. قال الله تعالى: ( اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ) البقرة/21 أي أطيعوا ربكم، وقوله :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)الفاتحة/5 أي نطيع الطاعة التي نخضع معها. ومعنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع . وفلان عَابِدٌ: هو الخاضع لربه المستسلم لقضائه المنقاد لأمره. والقيام بفعل العبادة دليل افتقار العبد إلى الله عز وجل في وجوده. قال ابْنُ عَرَبيِ في فُصُوصِ الحِكَمِ: فَالْكُلُّ مُفْتَقِرٌ مَا الْكُلُّ مُسْتَغْنٍ * هَذَا هُوَ الْحَقُّ قَدْ قُلْنَاهُ لاَ نُكَنيِّ فَإِنْ ذَكَرْتَ غَنِيًّا لاَ افْتِقَارَ يِهِ * فَقَدْ عَلِمْتَ الَّذِي بِقَوْلِنَا نَعْنيِ وأصل العبودية عند ابن منظور: الخضوع والتَّذَلُّلُ، والتَّعَبُّدُ التَّنَسُّكُ، والعبادة الطاعة. أما في القرآن الكريم فقد ورد المفهوم (275 مرة)، تكرر في السور المكية (211 مرة)، وفي السور المدنية (64 مرة) بالصيغ الآتية: ( عَبْدَ- أَعْبُدْ- اعْبُدْ- تَعْبُدُ- يَعْبُدُ- نَعْبُدُ- اعْبُدُوا- اعْبُدْنِي- فَاعْبُدْهُ- فَاعْبُدُون- تَعْبُدُونَ- يَعْبُدُونَ- تَعْبُدُوا- يَعْبُدُوا- عَبَّدْتَ- نَعْبُدُهُمْ- الْعَبْدُ- عَبَدْنَا- عَبْدَهُ- عَبْدَيْنِ- العِبَادِ- عِبَادِ- عِبَادِي- عِبَاداً- عِبَادَكَ- عِبَادَكُمْ- عَبْدَنَا- عِبَادَهُ- الْعَبِيدُ- عَابِدٌ- عِبَادِةٌ- عِبَادَتِي- عَابِدَاتٌ- عَابِدُونَ- عَابِدِينَ) وإن مجيء المفهوم بهذه القوة العددية في السور المكية التي تتحرك في مجال العقيدة (211 مرة)، هي الأساس والبناء المحقق لجميع الكمالات التعبدية، ومنها تسري في المجتمع وبين الناس (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) البينة/5. والمؤمنون في حال العبادة المتحققة يكونون مع الله تعالى. (ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) الأنعام/102. ومتى حققوا القرب من الله عز وجل حصلت لهم العبودية، فيناديهم الحق سبحانه (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) الزخرف/ 68. فيتقلبون في عبادة الله تعالى، وَيُنَبِّئُهُمْ بِوِرْدِ الخطاب أنهم في رحمته. (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الحجر49 والأمر منه إليهم ومنهم إليه، حيث جعلهم الله سبحانه أئمة في الهداية، والتقوى، والصلاح، والاقتداء. (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) الأنبياء/73. يقول الطاهر بن عاشور: "هذا الْجَعْلُ الشريف، وهو جعلهم هَادِينَ للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم فأعيد الفعل ليكون له مزيد استقرار .ولأن في إعادة الفعل إعادة ذِكْرِ المفعول الأول فكانت إعادته وسيلة إلى إعادة ذكر المفعول الأول .وفي تلك الإعادة من الاعتناء ما في الإظهار في مقام الإضمار كما يظهر بِالذَّوْقِ ". وقوله تعالى(يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) جُمْلَةٌ في موضع الحال مُقَيِّدَةٍ لمعنى الإِمَامَةِ، التي تدل على أنهم أَئِمَّةَ هُدًى ورشاد حَقًّا وحَقِيقَةً بأمره تعالى(بِأَمْرِنَا). قال الزَّمَخْشَرِيُّ في كَشَّافِهِ: " فيه أن من صَلَحَ ليكون قُدْوَةً في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هُو بها ليس له أن يُخِلَّ بها ويَتَثَاقَلَ عنها" . إنهم التائبون العابدون الحامدون السائحون، المحققون لفعل العبودية، والسائرون في الناس بالتزكية والصلاح، ونشر الإيمان وشعبه وآدابه. قال تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) التوبة/112. والآية الكريمة تشرق بخصوبة دلالتها، وبهاء معانيها، فتزيد من مراتب القرب بين العبد المستغرق بعبوديته، وربه بدوام الخضوع والانقياد، والقيام بحقوق الطاعات، بمعانقة الأوامر ومفارقة النواهي. قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات /56 ولهذا استحقوا أن يُكَرَّمُوا بأعظم المقامات وهو مقام العُبُودِيَّةِ التي أورثتهم شُهُودَ معرفته، فأحسنوا للناس، وتواضعوا مع الناس، وتأدبوا مع الناس، وتحملوا أذى الناس، فأضحوا بعبادتهم وعبوديتهم ثمرة جينية لجهاد شاق وطويل.(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ) الفرقان /63.