بتعليمات من الملك محمد السادس: ولي العهد مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    تراجع معدل التصخم في المغرب إلى 0.7% في أكتوبر    أداء سلبي في تداولات بورصة البيضاء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    الاستثمار العمومي.. بين الأرقام والواقع    برقاد: "خارطة الطريق" تضمن توزيعا عادلا للاستثمارات السياحية بمناطق المغرب    أحزاب مغربية تدعو لتنفيذ قرار المحكمة الجنائية ضد "نتنياهو" و"غالانت" وتطالب بوقف التطبيع مع مجرمي الحرب    معضلة الديموقراطية الأمريكية ..    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    لمواجهة موجات البرد.. وزارة الصحة تطلق عملية "رعاية" ب31 إقليما    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء        تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    تفكيك منظمة إرهابية بتعاون أمني بين المغرب وإسبانيا    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    دفاع الناصري يثير تساؤلات بشأن مصداقية رواية "اسكوبار" عن حفل زفافه مع الفنانة لطيفة رأفت    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    وهبي: مهنة المحاماة تواجهها الكثير من التحديات    رئيس مجلس النواب…المساواة والمناصفة أبرز الإنجازات التي شهدها المغرب خلال 25 سنة    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    استئنافية طنجة توزع 12 سنة على القاصرين المتهمين في قضية "فتاة الكورنيش"    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        كيوسك الجمعة | إيطاليا تبسط إجراءات استقدام العمالة من المغرب    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابتداء الله الناس بالهداية

اقتضت حكمة الله تعالى خلق الإنسان حرا مسؤولا عن مصيره في الدنيا والآخرة، وهدايته لما يحقق ذاته وتتحدد به مواقفه تجاه مختلف القضايا الكبرى التي تعترضه في الحياة، ومن رحمته ولطفه بهذا الكائن المسؤول، أنه تعالى هيأ له أسباب الهداية وبادره بها ابتداء لعله يأنس بها ويطمئن إليها، ويقرر اختيارها نهجا له في الحياة وملاذا.
وهكذا ركب الله في ذات الإنسان، الفطرة التي تميل به إلى معرفته والإيمان به، وعبادته ومحبته وطاعة أمره، وابتغاء مرضاته وتجنب معصيته وسخطه، وما من نفس بشرية تخلق إلا وهي مزودة بهذه الفطرة، المشتاقة للحق والخير والجمال، فكرا وسلوكا ونهجا شاملا في الحياة، والغالب عليها الانجذاب إلى السمو والفضيلة والسواء "فَاقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [سورة الروم، الآية:30] فاتجاه الدين الحق راجح في ميل الفطرة عن قبول الدنايا واستمراء الباطل، حيث الأصل في الفطرة أن تهدي إلى دين الإسلام، ثم يطرأ على النفس ما يجعلها تحيد عنه إلى غيره من المسالك الخاطئة، كما أوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" . ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" الآية [1].
وهذه الفطرة الهادية إلى الله تمنح للإنسان مع نعمة الوجود، وما يصحبه من قدرات روحية ووظائف جسمية، دالة على إبداع في الخلق وعناية في الاصطفاء،
فالهداية العامة المسداة للبشر هي الفطرة والعقل الملازمان لروحه، التي يعانق بها الحق متى ظهرت علائمه، وآيات في الأنفس والآفاق دالة على وحدانية الخالق وعلمه وقدرته وبعض صفاته العلى، ثم رسالاته المبينة لمراده سبحانه من خلقه وما تعبدهم به من شرعه.
ولا ريب أن الله تعالى يمد جميع الناس بما يدلهم عليه ويعيدهم إلى التفكير في شأنه، ويعرض اختيار ذلك أمام أنظارهم، فإن تجاوبوا مع هدية الله اهتدوا وإن تمادوا في ضلالهم قامت عليهم الحجة. ومن الآيات المشتملة على هذا المعنى:" الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى"[سورة الأعلى، الآية:2-3] أي (الذي قدَّر لكل شيء ما يصلحه فهداه إليه)[2] ،"قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" [سورة طه، الآية:50] (ثم هداه إلى وظيفته التي خلقه من أجلها، وأمده بالوسائل والملكات التي تحقق هذه الوظيفة .. وقيل إن: المعنى أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه)[3]. "قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ" [سورة عبس، الآيات:17-21]، وقد اتجه بعض المفسرين إلى كون المقصود بالسبيل سبيل الخروج إلى الدنيا أثناء الولادة، ورجح بعضهم أنه سبيل الخير والشر أو سبيل النظر السديد المؤدي إلى الإيمان، مستشهدا على ذلك بقوله تعالى: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" [سورة الاِنسان، الآية:3]، والكلام عن السبيل بصيغة المفرد يحمل على الاعتقاد أنه سبيل معرفة الله وعبادته، حيث يقابل الإنسان هذه المنحة الإلهية بالشكر فيكون مؤمنا أو يعرض عنها ويرفضها فيكون كافرا. ولا تعارض بين هذا الفهم وآية "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" [سورة البلد، الآية:10] وبيَّنا له طريقي الخير والشر وهيَّأناه للاختيار[4] فبيان طريق الشر يتضمن الهداية إلى طريق الخير، ولا يعني بتاتا أن الله يهدي إلى الشر والعصيان ابتداء، وإنما يكون ذلك بعد الإمعان في الغي والضلال كما سيأتي تفصيل ذلك لاحقا.
وتظل آيات الله الهادية إلى الإيمان به وتقديره حق قدره، ملء السمع والبصر والفؤاد، وتترآءى في كل مخلوقاته، مهما تناهت في الكبر أو تناهت في الصغر، وما ذلك إلا لتوفير أسباب الهداية بين يدي الإنسان والتي بها حياة الروح، أكثر من توفير أسباب المعيشة التي بها حياة البدن.
"أَوَلَا يَذْكُرُ الاِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا" [سورة مريم، الآية:67] " وَمِنْ اَيَاتِه أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ اَيَاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ اَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ اَيَاتِه مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ اَيَاتِه يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة الروم، الآيات:20-24].
وتتعدد آثار فعل الله ومظاهر رعايته، في ذات الإنسان وبيئته الأرضية والكونية، ليدفع تعقلها وتردد الفكر فيها، إلى الإقرار بصفات الله وكمالاته وغاياته من خلقه، التي بينتها رسالاته ورسله عليهم السلام، "سَنُرِيهِمْ أَيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" [سورة فصلت، الآية:53]
وإذا كانت آيات الله المنشورة في الأنفس والآفاق، تتجه بالفكر إلى البحث عن الله تعالى واستنتاج بعض أوصاف الخالق وكمالاته، والحكم باستبعاد أي احتمال للصدفة والعبثية في الوجود المنظور؛ فإن الكتب المنزلة والرسل المبعوثين بها، قدموا كل التوضيحات اللازمة عن كل التساؤلات الفكرية والتطلعات النفسية، الناشئة عن التفكير في أمر الخالق والمخلوقات". وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [سورة النحل، الآية: 36]،" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ اَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الاِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [سورة الشورى، الآية:52].
ويندرج في هذا القسم من الهداية ما يخص به الله فردا أو جماعة معينين، بتهيء أسباب إضافية للهداية زيادة عما هو مشترك منها بين جميع الناس وعلى قدم المساواة. وخير مثال لذلك أنبياء الله الذين هداهم الله إلى معرفته وأعدهم لحمل رسالته، فاستجابوا لاجتبائه لهم وارتضوه وسعدوا به، وتقرير هذه الهداية لرسول الله صلى الله عليه وسلم توالى في القرآن، "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَأَوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى" [سورة الضحى، الآية:5-7]، "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ" [سورة الشرح، الآيات: 1-4]، (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) يا محمد، للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحقّ(صَدْرِكَ) فنلِّين لك قلبك، ونجعله وعاء للحكمة: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) يقول: وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها)[5] وكما خص الله رسوله الخاتم بهداية خاصة، فإنه تعالى هيأ له أصحابا يشدون أزره ويعينونه على تبليغ رسالة الإسلام ونشرها في العالمين. فحبب لهم الاِيمان ومكن له في قلوبهم. "وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [سورة الحجرات، الآيات:7، 8].
كما ضرب لنا القرآن مثلا للذين هداهم الله فعرفوا الحق لكنهم أعرضوا عنه وجندوا أنفسهم لمحاربته، فطبع الله على قلوبهم بالجحود والعصيان وماتوا وهم كافرين. منهم قوم ثمود، "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" [سورة فصلت، الآية:18].
ذهب سيد الطنطاوي في تفسير الهدى هنا إلى كونه البيان والإرشاد فقال: (وأما قوم ثمود الذين أرسلنا إليهم نبينا صالحا، فبينا لهم عن طريقه سبيل الرشاد وسبيل الغي، فالمراد بالهداية هنا: البيان والإرشاد والدلالة على الخير.
"فاستحبوا العمى عَلَى الهدى" [سورة فصلت، الآية:18] أي فاختاروا الكفر على الإِيمان، وآثروا الغي على الرشد.
فالمراد بالعمى هنا الكفر والضلال، والمراد بالهداية الإيمان والطاعة)[6]. وأرى أن الهداية التي خص الله بها قوم ثمود تربو على مجرد البيان والإرشاد، فقد يكون حصل منها الإقرار القلبي بصدق رسالة صالح عليه السلام، لكنهم استحبوا التمادي في الكفر على ما أيقنوا أنه الحق والصلاح، تماما مثل ما أخبر به الله عن قريش الذين أضمروا الاعتراف بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، واظهروا الكفر عنادا وجحودا، "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِأَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" [سورة الاَنعام، الآية:33]، ويؤكد لنا القرآن إيقان فرعون بصدق موسى عليه السلام وصحة معجزاته، ثم رفضه الاعتراف العلني بهذه الحقيقة والخضوع السلوكي لها، "فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْاََرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا" [سورة الاِسراء، الآيتان:101-102] وفرعون عندما يتهم موسى بالسحر إنما يفتري الكذب ويقلب الحقائق، وقد نشأ موسى تحت عينيه ويعلم يقينا أنه ما كان ممارسا للسحر أبدا، ولا كانت أخلاقه وسيرته تسمحان بذلك.
وما أكثر ما حكى لنا القرآن عن لطف الله وهدايته للأقوام السابقة وإظهار معجزاته الباهرة لهم، ثم ينقلبون على أعقابهم كافرين بعد أن سكن الإيمان قلوبهم، ومنها النماذج التالية: "فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ اَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً" [سورة البقرة، الآيات:73- 74] ،"وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" [سورة البقرة، الآيات:55-57].
وما أكثر ما يكون الشخص سادرا في الضلال والغفلة، ثم يسوق الله له من الأحداث والتجارب، وييسر له من الظروف والأوضاع، ما يجعله يراجع نفسه ونهجه المتبع، ويكتشف إعراضه عن الحق والرشاد، وما سينتهي إليه مسعاه من الخزي والخسران، فيغير مسلكه ويتوب إلى الصواب، أو يدير ظهره لهذا التنبيه الرباني فيواصل عناده وغيه. "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا" [سورة النساء، الآية:115] "إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا" [سورة النساء، الآية:137].
فالذي يتأكد من كل ما تقدم أن الله تعالى يعرف الإنسان الحق بأدلته، ويسكب جرعات أولية من الهداية في قلبه، فتكون مسؤوليته بعد ذلك أن يحافظ على جذوة الإيمان متقدة، وأنواره ساطعة، ويتعهده بالتنمية على الدوام، وتلك لعمري مهمة ليست بالسهلة، وللكلام بقية، والحمد لله رب العالمين.
------------
1. رواه الشيخان وغيرهما.
2. تفسير المنتخب.
3.الوسيط لسيد طنطاوي.
4. المنتخب.
5. الطبري.
6. الوسيط - سيد طنطاوي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.