موازاة مع استعداد المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لإصدار تقريره الاستراتيجي، احتدم النقاش حول سؤال امكانية تعويض اللغة الفرنسية باللغة الانجليزية في المنظومة التعليمية المغربية، واجتهد كل طرف لعرض ما لديه من حجج وبراهين لإقناع الرأي العام بصواب اقتراحه، بل هناك من ذهب الى شيطنة المدافعين عن الرأي المخالف واتهامهم بخدمة اجندة اجنبية. خلاصة القول ان الامر خرج عن منطق الموضوعية الى منطق الصراع الأيديولوجي والتزاحم السياسوي، مما قد يؤدي الى تكرار مآسي الماضي في هذا القطاع والى تأزيم الوضع التعليمي اكثر مما هو عليه اليوم. هدفنا من هذا المقال ليس هو الدفاع عن طرف ما ولا عن لغة معينة، بل سنحاول ان نقف عند بعض المغالطات التي تم الترويج لها في هذا النقاش وان نبين ان اللغة بريئة من ازمتنا التعليمية ومن تخلفنا بصفة عامة، وان اصلاح التعليم وتقدم البلاد ليس مرتبطا باستبدال لغة اجنبية بلغة اجنبية اخرى. وسنقوم بعد ذلك بعرض بعض الشروط الضرورية لإنجاح الاصلاح التعليمي في علاقته باللغات الاجنبية. براءة اللغة من تخلف الامم يعتبر العديد من انصار الانجليزية ان اللغة الفرنسية لغة متخلفة واعتمادها هو سبب تخلف تعليمنا وتخلف بلادنا عامة. الا ان هذا الادعاء لا ينبني على اساس متين، فاللغة التي يتكلمها اكثر من 270 مليون نسمة وتعتمدها 57 دولة كلغة رسمية او ادارية، وهي من بين اللغات الست الرسمية لمنظمة الاممالمتحدة ولغة اشغالها الى جانب الانجليزية فقط، هذه اللغة لا يمكن ان تكون متخلفة، والا فماذا سنعتبر اللغات الاقل منها شأنا ومنها لغاتنا الوطنية. واذا كان الانكماش الاقتصادي الذي تعرفه فرنسا منذ سنوات هو أساس الادعاء فهذا غير كاف للإقناع بصحته، لان فرنسا، رغم الازمة، تظل سادس قوة اقتصادية عالمية، ونظامها السياسي جد متطور، اما نظامها الاجتماعي فيظل اكثر إغراء في العالم. كل هذا ليس دفاعا لا عن فرنسا ولا عن لغتها، ولكن دفاعا عن نقاش علمي وموضوعي لاتقاء شر القرارات الإيديولوجية التي تخدم مصلحة فئة دون فئات اخرى. ان الازدهار الذي تنعم فيه بعض البلدان الفرنكوفونية كفيل برفع صفة التخلف عن هذه اللغة وبتبرئتها من تخلف بلدان فرنكوفونية اخرى. يحضرنا هنا مثال اللكسمبرغ، أغنى دولة في العالم من حيث الناتج الوطني الخام للفرد، لغته الوطنية هي اللكسمبورجية، تدرس بعد الفرنسية والألمانية وبشكل ثانوي في المدارس رغم كونها لغة الحياة اليومية للمواطنين، لها طابع الرسمية إلى جانب الفرنسية والألمانية. إلا أن الفرنسية تحظى بمكانة اعتبارية، فهي، دون سواها، لغة نشر التشريعات الرسمية، كما تحتل المرتبة الاولى في التواصل في الادارة والقضاء. أما فيما يخص التعليم، فاللكسمبورجية هي لغة التدريس في السلك الاولي. وتعليم الالمانية يبدأ في السنة الاولى من التعليم الابتدائي، في حين يبدأ تعلم اللغة الفرنسية في السنة الثانية منه. اما بخصوص الانجليزية، فهي شبه منعدمة في التواصل اليومي، ويتعلمها الطلاب ابتداء من السلك الثانوي، الا انها حاضرة بقوة في القطاعين البنكي والنقل الجوي. يظهر جليا ان اللكسمبرغ لم يكن في حاجة الى الانجليزية لينفتح على العالم وليتبوأ الصدارة في الرخاء الاقتصادي والاجتماعي.قد يكون حال اللكسمبرغيين أفضل من حال المغاربة من حيث تمكنهم من اللغتين الفرنسية والالمانية، وقد يكون عدد المتمكنين من الانجليزية في المغرب اكبر بكثير من عدد نظرائهم باللكسمبرغ، الا ان الاكيد هو ان مستوى عيش اللكسمبرغيين، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، افضل بكثير من مستوى عيش المغاربة.لو كنا ممن يبنون خلاصاتهم على نماذج معزولة او من الذين يؤسسون لآرائهم على إيديولوجيات معينة او على مصالح فئوية ضيقة لخلصنا فيما ذكرناه الى ان كل الفضل في غنى وتقدم اللكسمبرغ يرجع الى اللغة الفرنسية، اللغة الاولى لهذا البلد. لكن دعونا نبحث في نماذج اخرى لنبين ان لا فضل للفرنسية ولا لغة اخرى في تقدم امم معينة، كما ان لا ذنب للفرنسية ولا للغة اخرى في تأخر وتخلف امم اخرى. فنموذج اللكسمبرغ تقابله نماذج اخرى لم تنفعها فرنكفونيتها في تحقيق التقدم والازدهار. نسيق في هذا المضمار مثالين معبرين، المثال الاول هو جمهورية الكونغو الديموقراطية، اكبر دولة فرنكفونية قبل فرنسا نفسها، واكثر دول العالم فقرا في الان ذاته. المثال الثاني هو جمهورية افريقيا الوسطى، من اكثر الدول فقرا في العالم ايضا رغم الحضور الواسع للفرنسية في جميع المجالات بصفتها لغة رسمية الى جانب اللغة السنغاوية. تخلف اقتصاديات العديد من الدول الافريقية الفرنكفونية قد يدفع البعض الى الاعتقاد ان خطأ هذه الدول هو اعتماد الفرنسية بدل الانجليزية، كأنما لو اعتمدت الانجليزية لكان تصنيفها اليوم من بين البلدان الانجلوسكسونية المتقدمة كالمملكة المتحدة او كالولايات المتحدةالامريكية.لا نرى ان هذا الاعتقاد يستطيع الصمود امام نماذج عديدة من الدول الانجلفونية المصنفة من البلدان الاكثر فقرا في العالم. فعلى سبيل المثال، دولة ملاوي لغتها الرسمية هي الانجليزية التي هي ايضا لغة اقتصادها وادارتها وتعليمها، مع ذلك فملاوي هي افقر دولة في العالم. مثال اخر في هذا السياق، البوروندي، لها ثلاث لغات رسمية منها الانجليزية، نترك للقارئ حلاوة البحث في اقتصادها وتصنيفها العالمي. لا يمكن انكار ان اللغة الانجليزية هي لغة التواصل العالمي، لغة اقوى اقتصاد في العالم وثالث لغة انتشارا بعد الماندراين الصينية والاسبانية، الا انها ليست عصا سحرية ولا شرطا ضروريا للتطور الاقتصادي والانفتاح على العالم. لتعزيز ما ذهبنا اليه، يكفي ان نتأمل في نموذج وجب ذكره في هذا المقال، بلد حقق المعجزات في العلم والاقتصاد، وازدهر سياسيا واجتماعيا، يتعلق الامر بإمبراطورية اليابان، ثالث قوة اقتصادية في العالم، لم ترتكز على اية لغة اجنبية، فاليابانية هي لغة المدرسة والعمل والبيت والشارع. اما الانجليزية، اللغة الاجنبية الاولى، فليس لها اي دور حيوي في حياة اليابانيين، الا ان ذلك لم يمنعهم من التقدم والانفتاح على العالم. شروط نجاح الاصلاح براءة اللغة من تخلف الامم لا يعني اننا لا نحتاج الى سياسة لغوية واضحة للنهوض بالقطاع التعليمي خاصة في مسألة اعتماد اللغة الاجنبية الاولى. نعرض فيما يلي بعض الشروط التي نراها ضرورية لإنجاح هذه السياسة فيما يخص اللغة الاجنبية: ا. دمقرطة الولوج الى اللغة الاجنبية المعتمدة: من المعلوم ان اللغة الفرنسية في المغرب لغة نخبوية، واريد لها ان تكون كذلك. والمدرسة العمومية عاجزة عن انتاج خرجين متمكنين من هذه اللغة، رغم بعض الاستثناءات. لذلك فإتقان اللغة الفرنسية والدراسة بها متاح فقط لأبناء الاسر الميسورة القادرة على تمويل تعليم خصوصي مفرنس او الدراسة بفرنسا. ولان الفرنسية ضرورية في سوق الشغل العام والخاص، فإن لهذه الفئة الاولوية في التشغيل وفي شغل المناصب العليا. يعتقد خطأ بعض المدافعين عن الانجليزية ان اعتماد هذه الاخيرة سيمكن من تصويب الوضعية الموصوفة في الفقرة اعلاه. ونحن نرى ان استبدال لغة بأخرى لن يغير اي شيء ما لم يكن مصحوبا بدمقرطة الولوج اليها، والا فمن كان قادرا على الدفع للتمدرس بالفرنسية هو فقط من سيدفع للتمدرس بالإنجليزية وللدراسة في المدارس والجامعات الانجلوسكسونية، لتبقى المعادلة على حالها.لذلك نعتقد ان اختيار اللغة الاجنبية المعتمدة اقل اهمية من ضرورة توفير شروط دمقرطة الولوج اليها، وهذا لن يتأتى الا بتوفير تعليم عمومي ذو جودة عالية، واعطاء اهمية للغة الاجنبية في الحياة الادارية والاقتصادية بقدر ما لها من اهمية في المدرسة العمومية. ب. توحيد لغة التدريس من بين الاخطاء التي وقع فيها منظرو التعريب الذي تم تنزيله بداية الثمانينات هو اعتماد ازدواجية لغة التدريس، إذ تم تعريب التعليم في مراحله الابتدائية، الاعدادية والثانوية بالنسبة لجميع المواد والتخصصات، في حين تم الاحتفاظ بالفرنسية كلغة للتدريس في مجموعة من التخصصات في المرحلة الجامعية، كالشعب العلمية والتقنية والاقتصادية والطب والهندسة وغيرها. هذا الخطأ دفعت ثمنه اجيال عديدة من خريجي الجامعة بين من حرموا من متابعة الدراسة في شعبة مفرنسة لعدم إلمامهم بهذه اللغة، او من لم يتمكنوا من استكمال دراستهم الجامعية لنفس السبب. لهذا نرى ان توحيد لغة التدريس في جميع الاسلاك التعليمية وفي جميع التخصصات والشعب شرط، من بين شروط اخرى، لحلحلة الازمة التعليمية وللرفع من جودة التعليم.نمتنع هنا عن ابداء رأينا حول اللغة التي ينبغي اعتمادها للتدريس في كل المراحل وكل الشعب، ونحتفظ لميولنا في هذا الشأن لنفسنا، لنترك المجال لذوي الاختصاص للخوض في الموضوع بعلمية وموضوعية وبعيدا عن الميولات الشخصية والإيديولوجية. ج. التأكد من توفر الاطر الكافية لاعتماد لغة أجنبية معينة هنا أيضا ننطلق من عيب شاب عملية تعريب التعليم، يتعلق الامر بغياب، في تلك المرحلة، لأطر معربة كافية لتنزيل هذا المشروع، حيث تم الاعتماد على موارد بشرية غير مؤهلة، كما تم اللجوء الى حاملي شواهد جد متواضعة لتدريس مواد لم يكونوا في غالب الاحيان متمكنين منها. عدم تكرار اخطاء الماضي يستوجب، قبل اعتماد اي لغة اجنبية، جرد الموارد البشرية المتوفرة والقادرة على التدريس بهذه اللغة في كل المراحل وفي كل الشعب والتخصصات، وربط امكانية اعتماد هذه اللغة بوفرة هذه الموارد بكم وكيف كافيين. في الاخير نود ان نؤكد على أنه في رأينا، مهما كانت اللغة الاجنبية المعتمدة ومهما كان دورها والمكانة المنوطة بها في التعليم والادارة ومجالات اخرى، فإن اللغتين الرسميتين، الامازيغية والعربية، وجب الاعتناء بهما، خاصة في التعليمين الابتدائي والاعدادي، واعتمادهما في التواصل الاداري والاعلام والحياة العامة، وذلك لما لهما من ارتباط بالهوية الوطنية وتطبيقا للمقتضيات الدستورية في هذا الشأن، ولا نحتاج للتذكير ان احترام التشريعات والقوانين شرط من شروط تقدم الامم.