من الريف إلى الصحراء تابعت موضوع نزوح بعض سكان مدينة لعيون أو اعتصامهم خارج عاصمة الإقليم، حسب العبارات المختلفة التي استخدمت في وسائل الإعلام المغربية للإخبار والتعبير عن الحالة، لأتبين الأسلوب الذي تعاملت به الدوائر الرسمية لمواجهة الحادثة، والتعرف على اللغة التي استعملت في وسائل الإعلام للحديث عن هذا النزوح أو الاعتصام الذي قامت به مجموعة من الساكنة مقارنا بين زمنين: زمن احتجاجات 1958 ولواحقها التي توجت بخطاب يناير 1984، وزمن 2010 الذي خرج فيه بعض ساكنة لعيون في الصحراء للاحتجاج على الظلم الاجتماعي كما خرج ساكنة الريف بسبب نفس الأوضاع سنة 1958، ولنعرف، جميعا، هل حدثت تطورات إيجابية في الخطاب السياسي المغربي بشأن الاحتجاج على الظلم الاجتماعي، أم أن حليمة لا تزال على عاداتها القديمة؟ نشير في البداية إلى أن الحقل الإعلامي لسنة 2010 مختلف كثيرا عما كان في الخمسينات، ونشير كذلك إلى وجود جسم سياسي مغاير إلى حد كبير لما كان عليه في تلك المرحلة، التي تكالبت فيه السلطة وحزب الاستقلال، المعارض للتعددية الحزبية في الإبان، على ارتكاب ما ارتكبوا من شنيع السياسة على جزء من الشعب المغربي الذي لم يكن يطالب إلا برفع الظلم الاجتماعي وبحقوقه في وطنه المستعاد، تماما مثلما يطالب جزء آخر من هذا الشعب في جنوب المملكة في 2010. مواقف الأحزاب من نزوح بعض سكان العيون فضل أغلب رؤساء الأحزاب عدم التعليق عما يجري أو التصريح مباشرة؛ ربما ينتظرون ما سيصدر عن عاهل البلاد، أو أنهم لا يريدون استباق عمل الإدارة الترابية المكلفة بحل القضايا والمشكلات التي قد تظهر هنا وهناك وإعلام الرأي الوطني بالوقائع والنتائج. ويبدو أن زمن محمد السادس يتميز بمركزية الخطاب الرسمي وبوحدة مرجعية العمل السياسي، عكس ما كان يسود في السنوات الأولى للاستقلال. حيث كان "زعماء" ذلك الوقت يصرحون بآرائهم معتبرين أنفسهم مرجعية مثلهم مثل محمد الخامس، بل كانوا يتباهون بفضلهم على وطنية محمد الخامس. ولذا وجدنا ونجد تقييمات مختلفة لاحتجاجات ساكنة الريف عن المظالم الاجتماعية إذاك، بحيث ذهب زعماء حزب الاستقلال آنذاك إلى اتهام الريفيين بالخيانة الوطنية والعمالة للاستعمار، والتآمر على الوحدة الوطنية أو معادة الحركة الوطنية وغير ذلك من النعوت والتهم التي أشرت إليها في حوار سابق مع "هسبريس"، واعتبر محمد الخامس احتجاجات الساكنة عصيانا لولاة الأمر، في حين ذهب ولي عهده مولاي الحسن إلى أن الريفيين كانوا بحاجة إلى من يربيهم. وهكذا... وما استرعى الانتباه والملاحظة كذلك في احتجاجات ساكنة لعيون وبعض المناطق الصحراوية الأخرى أن تطورا ما قد حدث، على مستوى التصريحات السياسية على الأقل، التي نفت في مجملها نعوت وتهم تآمر النازحين أو المعتصمين على الوحدة الوطنية، على عكس ما يروج له زعماء مخيمات تيندوف. فبيان وفد حزب العدالة والتنمية المعارض الذي قام بزيارة المحتجين في عين المكان ذكر أن "الأمر يتعلق بمطالب اجتماعية للساكنة الأصلية بالإقليم المشمولين بالإحصاء الاسباني قبل استرجاع الأقاليم الجنوبية والغاضبين بسبب ما يعتبرونه حيفا و ظلما في حقهم بحرمانهم من السكن اللائق والشغل". وانتقد حزب الأصالة والمعاصرة المعارض أيضا، من خلال تدخلاته في البرلمان، لامبالاة الحكومة وتقاعسها عن إخبار الرأي العام بما يجري في المنطقة التي تشهد النزوح والاعتصام متهما إياها بالتقصير في التعامل مع مجريات الأحداث، وكأن ما يجري من نزوح واعتصام في مخيمات خارج لعيون لا يخص الحكومة في شيء. فعلا، فالحكومة، التي يرأسها الأمين العام لحزب الاستقلال، لم تخبر الرأي العام بما يجري وأسبابه، ولا بالإجراءات أو الحلول التي اتخذتها بالمناسبة، وأبانت مرة أخرى عن عدم اكتراثها بمطالب السكان المعتصمين المحتجين عن الظلم الواقع عليهم. وكأن الملفات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية المطروحة في بعض أجزاء الأقاليم المغربية، ومنها الأقاليم الجنوبية من اختصاص حكومة أخرى. وكذلك فعلت جل الأحزاب المؤيدة للحكومة، أو الموالية لسياساتها. فقد تجنب البعض التصريح أو التعليق على الأحداث أصلا مطبقا القاعدة القائلة "الزم الميم تسلم"، وتجنب الذي استطاع أن يخرج عن الصمت الحكومي أن ينظر إلى مخيمات لعيون يعيون "زعماء" الحركة الوطنية إلى احتجاجات الأقاليم الريفية في 1958. وفي هذا النطاق أكد نبيل بن عبد الله،أمين عام حزب التقدم والاشتراكية، "أن مطالب المحتجين هي مطالب اجتماعية محضة تهم بالأساس السكن والتشغيل، ولا تنطوي على أية نزعة انفصالية، داعيا إلى التعامل مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بالأقاليم الجنوبية بسرعة وحكمة ورزانة وجرأة". أما الاتحاد الاشتراكي فيبدو أن قيادته قد أوكلت مهمة التعبير عن رأيها لصحافتها التي حذرت بأن "مشهد الخيام المزروعة حول العيون .... ليست في صالح المغرب أبدا".ثم خلصت إلى القول "إن هذا المشهد قابل للاستخدام". (عدد 23 أكتوبر 2010). ما زالت حليمة تحن إلى عاداتها القديمة ونحا حزب الاستقلال منحى الاتحاد الاشتراكي، لكنه كان أكثر وفاء لتاريخه ولرؤيته السياسية نحو احتجاجات المواطنين. فقد نشرت جريده "العلم" بتاريخ 28 أكتوبر 2010 مقالا في الموضوع تحت عنوان " مخيمات العيون:في التفاصيل يسكن الشيطان، ومما جاء فيه "تعيش مدينة العيون منذ عدة أيام على وقع عملية نزوح مجموعة من المواطنين إلى ضواحي المدينة ونصبهم لمخيم يسع قرابة 2000 شخص، أن ينتقل مجموعة من المواطنين وأسر بكاملها استجابة لقرار ما، في توقيت واحد وتهيئ لوجستيكي وقدرة على الإدارة والتنظيم، وضمان تموين المخيم وتأمينه .. هذا أمر يدعو إلى الإعجاب وفي نفس الوقت إلى الريبة". ثم حاولت بعد ذلك إبعاد مسؤولية الحكومة عما يطالب به النازحون المعتصمون باعتبار مطالب الساكنة الصحراوية "مطالب اجتماعية معقدة وليست بسيطة كما يحاول البعض أن يتناولها"، قبل أن تطلب إحالة تلك المطالب إلى السيد كَودو حين يصل قطاره المغرب بقولها: "فقضايا السكن والبطالة لا يقتصران على العيون، بل تمس عددا كبيرا من المناطق في جغرافية الوطن، بل هي من نوعية المشاكل الاجتماعية التي لا يتم معالجتها في جلسات الحوار بل في التراكم الحقيقي الذي يتحقق في الاقتصاد على أرض الواقع" إنه منطق حزب الاستقلال الذي حكم ذات يوم كذلك على مطالب سكان الريف الاجتماعية بأنها مطالب تعجيزية لا يمكن تحقيقها !!! لكن كاتب المقال لم ينس العزف على الوتر العاطفي للمغاربة من أجل تشويه وتسفيه حركة النازحين لكونها جاءت متزامنة مع التوقيت الذي يزور فيه المبعوث الأممي كريستوفر روس المنطقة، وعلى مقربة من حلول ذكرى المسيرة الخضراء، "ففي التفاصيل يسكن الشيطان.." كما قال. ثم راح يصفي حسابات الحزب، هذه المرة، مع الإدارة الترابية التي يبدو أنها لم تعد تساير سياساته وأهدافه، كما كان الأمر ذات يوم في الريف، فقد اعتبر مقال العلم النزوح عنوانا كبيرا "على فشل الإدارة الترابية في المنطقة وعجزها عن تمثل المفهوم الجديد للسلطة قديما وحديثا...، وفشل كذلك غير مبرر إطلاقا لمختلف الأجهزة الاستخباراتية التي من المؤكد أن حضورها في الصحراء يتميز بحساسية خاصة، نظرا لطبيعة المنطقة والتحديات التي تفرضها ، الجميع يعلم أن الفشل في المعلومة الإستخباراتية يجعل كل إمكانية للتدخل الاستباقي شبه معدومة ، كما أنه يمكن أن نسجل بأن فقدان الثقة في الإدارة الترابية المحلية هو شهادة وفاة لتجربة غير مأسوف عليها على مستوى ولاية العيون". احتجاجات بعض ساكنة العيون وكشف المستور لكن على الجانب الآخر سيعرف الرأي العام الوطني أن الإدارة الترابية هي التي كانت تفاوض المعتصمين والنظر في شكاويهم الخاصة بعدم وفاء الحكومة بوعودها التي وعدتهم بها منذ سنوات. وعرف المواطنون أن حكومتنا الحزبية تطبق بالقياس الممل المثل القائل " يدعو لأندلس إن حوصرت حلب". أشارت بعض وسائل الإعلام إلى انطلاق عملية تفكيك عناصر الأزمة بإرسال ثلاثة ولاة لمتابعة أوضاع النازحين عن كثب منذ اللحظات الأولى للتقصي والتفاوض والعمل على تحقيق الوعود التي يتم الوفاء بها، والتي كانت وراء حركة النزوح والاعتصام. وأعلنت تلك الوسائل أنه تم توزيع 600 قطعة أرض على بعض المعتصمين؛ حسب أولويو الاحتياج، على أن يتم تجهيز 5000 قطعة وتوزيعها على أصحابها في أقرب الآجال. كما تم توزيع 90 بطاقة من بطائق الإنعاش الوطني على الأسر الأكثر حاجة، على أن يصل عدد هذه البطائق في الأيام المقبلة إلى 800 بطاقة. مع العلم أن مردود كل بطاقة هو 1650 درهم شهريا. ماذا نستخلص مما سبق عرضه؟ أولا، أن ما كان يشاع بأن سكان الأقاليم الصحراوية يعيشون في بحبوحة من العيش مجرد هدر، أو أن أولئك الذين كانوا يروجون لتلك الإشاعات كانوا يقصدون بالصحراويين بعض الأعيان وبعض الأشخاص الذين عادوا من مخيمات تيندوف لا غير. وكنا ولا نزال نتمنى أن تتخلص السياسة المغربية من إرث تجسيد المواطنة في بعض الفئات على حساب الغالبية المهمشة أو المقصية من حقوقها الدستورية. ثانيا، نسجل بارتياح السلوك المتزن للمعتصمين، مدعوما بالأمل في تجاوز سياسات القراءات السلبية لاحتجاجات المواطنين على عدم الوفاء الحكومة بوعودها التي تطلقها هنا وهناك؛ لأن الحكومات الناجحة تطبق قاعدة سياسية حكيمة مفادها "إذا أردت أن تطاع فقل ما يستطاع". ثالثا، نسجل أيضا بعض التطورات الحاصلة في الخطاب الرسمي الخاص بتقييم الاحتجاجات الاجتماعية. ونرجو أن يكون تطورا حقيقيا نابعا من ثقافة سياسية جديدة للمغرب الجديد وليس مجرد موقف أملته مقتضيات ظرفية. رابعا، وفي الختام نسجل أسفنا على عدم مسايرة خطاب بعض الأحزاب، بشأن احتجاجات المواطنين على ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، الدينامية الملكية الجديدة الرامية إلى التجاوب مع قضايا المواطنين بدل إنكار وجود مشكلات لهم تتطلب الحلول الملائمة. ويلجأ ذلك الخطاب عوضا عن ذلك إلى قاموس التشكيك في وطنية المحتجين واتهامهم بما ليس فيهم. ونتمنى على قيادات تلك الأحزاب أن يدركوا أن أحكامهم الفوقية على احتجاجات المواطنين لا ولن تنتمي إلى عصرنا. وإذا لم يتجددوا فليتبددوا وينسحبوا من حياة المغاربة.