يتساءل الكثيرون حول التعدد اللغوي الموجود في المغرب وهل بالفعل يمكن اعتبار كل الألسن التي ينطق بها المغاربة في جميع المناطق لغات أم مجرد لهجات .وإذا كان الدستور استطاع من الناحية الشكلية توحيد لغة المغاربة حول العربية فان هذا الأمر لم يعد يشكل إجماع كل المغاربة على اعتبار أن الجزء الكبير من الشعب المغربي ليس بالضرورة ناطقا بهذه اللغة . و إذا كانت اللغة العربية يمكن أن تجمع كل ما هو لهجة عربية سواء شمالية وصحراوية وقبائل عربية متعددة فان الشيء ذاته لا يصح بالنسبة للأمازيغية . فاختلاف أَلسٌن الأمازيغية إلى ثلاث في جزء كبير من مفرداتها ومصطلحاتها التي تصل إلى حد التناقض أحيانا يجعل جمعها في لغة واحدة أمرا صعبا ويقتضي الكثير من الجهد والتعليم ،ويحتاج ربما إلى أجيال كثيرة حتى تستطيع اللغة الأمازيغية أن تصير لغة موحدة وواحدة لكل الأمازيغ بغض النظر عن انتمائهم العرقي أو الجغرافي . وربما يقول قائل إن نفس الأمر يصح على العربية ،لكن الاختلاف في العربية بين المناطق المغربية يمكن مقارنته بالاختلاف الحاصل على مستوى اللسان الواحد الامازيغية، فمثلا السوسية أو تاشلحيت عند أهل اكادير تختلف عن سوسية حاحا أوتالوين أوإغرم وتزنيت ،ونفس الشيء بالنسبة للسان أهل الريف والأطلس . وهذا هو الحاصل بين اختلاف عربية الصحراء على عربية دكالة مع قدرة البعض على فهم الأخر ولو بشكل بسيط ما يتعذر بين الألسُن الثلاثة المكونة للأمازيغية . وإذا كان مطلب تنصيص الدستور على الأمازيغية كلغة وطنية إلى جانب العربية مطلبا مشروعا وخطوة قد تساهم في رد الاعتبار لهذه اللغة، فان ذلك لن يكون كافيا ، ولا يمكن الاعتماد على الأعداد وإحصاءات السكان الناطقين بلغة ما في التنظير لما يفترض أن يكون عليه وضعها الرسمي ،لأن اللغة التي لا تجد طريقا إلى التطبيق الفعلي يكون حضورها باهتا حتى ولو كانت لغة جل الناس .وهذا الشيء حاصل في الدول الإفريقية التي يعتبر لسان الهاوسا والفلاتية والبامبرا و الولوف أكثر انتشارا ولغة الشارع العام، لكن لغة الدولة الرسمية هي الفرنسية أو البرتغالية مما يؤشر أنها مجرد لغات شفاهية منها ما يكتب بالحرف العربي أو بالحرف اللاتيني أما الحروف الأصلية فهي مهجورة بشكل تام . وهذا ما ينطبق على اللغة الأمازيغية فهي لغة منتشرة في السوق والشارع بدرجة ما لكنها ليست لغة الإدارة وليست لغة التعليم في الوقت الراهن ، والخشية كل الخشية أن يكون الركب قد فات ويصعب اللحاق به في ظل تعثر مشاريع (تمزيغ )الحياة العامة . وكي تصبح اللغة الأمازيغية لغة الإدارة والبحث العلمي ربما تحتاج إلى قرون لتقعيد مصطلحاتها ولتكوين أطر قادرة على تعميمها ومحو أمية الشعب المغربي حتى تكون هناك نسبة كبيرة منه قادرة على التعاطي مع الحرف الأمازيغي ،وكل هذه الأمور لا يمكن أن تتحقق على المدى القريب، ولذلك فالدول الإفريقية التي تشكل لغاتها المحلية 90 في المائة من لغة التواصل حتى في الإدارة وفي جميع المصالح اعتمدت الفرنسية كلغة رسمية للدولة رغم نسبة استعمالها المحدودة إلا في ما يتعلق بالوثائق الادارية لا غير. وفي هذا الشأن ليس بالضرورة التنصيص على لغة في الدستور كافيا حتى تكون حاضرة، بل نسبة استعمالها في التعاملات بين الناس هي من يعطيها قيمة اعتبارية أمام اللغة الرسمية للبلد سواء كانت فرنسية أو عربية أو غيرها.وهذا الشيء ينطبق على الدارجة المغربية أيضا والتي تعتبر اللغة المستعملة لدى كل المغاربة وهي مزيج بين كل اللغات الوطنية ،لذلك بنفس المنطق وكما يروج البعض يجب أن يتم تقعيدها وجعلها اللغة الرسمية في التعليم والإدارة ولكن المشكل في الكيفية وبأي حرف نكتبها بمعنى إذا كتبناها بالحرف اللاتيني فهذا يعني بشكل آخر اعتماد الفرنسية بشكل غير مباشر وإذا كتبت بالحرف العربي فما المانع من اعتماد العربية الأصلية وأما مسالة البحث عن حرف جديد تكتب به الدارجة المغربية فهذا يفترض التوافق عليه أولا من طرف الجميع وهو أمر يتطلب قرونا من الزمن . لذلك يجب الفصل بين ما هو لغة رسمية ارتضاها الناس في تعاملاتهم الرسمية وبين لغات شعبية في الشارع لكنها تفتقد إلى مقومات اللغة الرسمية لعدت أسباب مرتبطة بما هو تاريخي وديني وثقافي ودولي أيضا . وعلى هذا الأساس نجد في العالم الكثير من الدول التي تعتمد لغات رسمية بعيدة كل البعد عن واقعها أو تداولها الشعبي ولائحة هذه اللغات ألأكثر تداولا محدودة والعربية واحدة منها ،فالاعتماد على هذه اللائحة يشكل جسرا للتواصل بين الدول فلا يمكن للغة شفوية أو قديمة مهجورة (السومرية أو الفرعونية ،اللاتينية ...) أن تشكل لغة تواصل بين الدول والتبادل التجاري مثلا لذلك يعتمد الأمر على استعمال لغات معروفة لدى الكثيرين . وهكذا فان لغة العلم والتجارة حاليا في العالم كله هي الانجليزية ،فإذا كانت حتى الجامعات الفرنسية تشترط مستوى جيدا من الانجليزية من أجل متابعة الدراسات العليا في بعض التخصصات فهل تستطيع أي لغة أخرى مجاراة إيقاع الإنتاج الفكري للانجليزية عجزت عنه لغة أنتجت فولتير و فيكتور هيكو وايميل زولا وغيرهم. لكن ربما قد يفضل البعض والبقاء في التخلف لمجرد الانتشاء بحضور لغته الأصلية شكليا في الدستور. في جنوب إفريقيا مثلا أكثر من عشر لغات محلية مسيطرة بما فيها لغة الزولو التي ينطق بها الكثيرون لكن اللغة الرسمية للدولة هي الانجليزية.وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية حوالي خمس لغات ضمنها الاسبانية لكن الانجليزية هي اللغة الرسمية .وفي الهند فللغة الهندية هي اللغة الرسمية ، حيث يتحدث بها حوالي 40% من السكان فقط. ويوجد حوالي 1000 لغة ولهجة مستخدمة في الهند، منها حوالي 24 لغة لا يقل عدد المتحدثين بكل منها عن مليون نسمة ، هذا بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية كلغة رسمية للدولة. أقول هذا الكلام لكل اللذين يحاولون أن يفرضوا علينا قسرا اللغة الفرنسية ويجعلوها رديفة للغة العربية في كل شيء ،في الصحافة في الإعلام في قانون التعريب أيضا ، كنت أتمنى أن يحتوي مشروع القانون على صيغة تفتح الباب للأمازيغية إلى جانب العربية مادامت اللغة الفرنسية ليست لغة وطنية وأن ينخرط الأمازيغ في دعم القانون مع المطالبة بتعديله بما يضمن على الأقل حضور الأمازيغية في اللافتات وأسماء الشوارع والأزقة .لكن الجهات الفرنكوفونية نافذة بشكل لا تريد أن تفتح المجال لذلك، ومع الأسف الشديد يحاول البعض محاربة التعريب بدل محاربة الفرنَسة زعما منه أنه بذلك يخدم الأمازيغية وهذا الانقسام تستفيد منه اللغة المستوردة وتخسر اللغة الوطنية . في وقت ما كانت اللغة العربية هي لغة العلوم لما كانت أوربا في عصر الظلمات ولم يكن هناك بد لدى الأوربيين من تعلم هذه اللغة في الجامعات الأندلسية . وحاليا لما صارت اللغة الانجليزية لغة العلوم اليوم وربما غدا تكون اليابانية أو الصينية فما المانع أن يكون تركيزنا على هذه اللغة في التعليم الأساسي والثانوي والجامعي ، وهذا لا يعني إقصاء اللغة العربية أو الأمازيغية وإنما أن نتجه نحو البحث عن المصلحة دون تعصب لأي لغة و درجة حضورها . إن فقدان الوقت والجهد في مناقشة الحقوق اللغوية ودرجة تمثيليتها هو حق أريد به باطل ، فلا أحد ينكر حق المواطن المغربي في تعلم الامازيغية لكن دون إجبار ، ونفس الشيء بالنسبة للعربية .لكن مع الأسف الشديد حضور اللغة الفرنسية في المغرب قوي جدا وتفرض نفسها في الجامعة والشركات والثقافة والحياة العامة رغم تراجعها العالمي . إن التفكير الآن يجب أن ينصب على تعليم أبنائنا لغة العلوم ولغة تمكنهم من الحصول على مفاتح التقدم ،ومهما سيكون الأمر مؤلما لأي شخص التخلي عن لغته الأصلية حين تكون عاجزة عن تمكينه من اللحاق بالأمم المتقدمة وتفتقد إلى مقومات لغة البحث العلمي فانه يجب الفصل بين ما هو حق تاريخي للغة الأصلية في الثقافة والفن والتداول العام وبين ما هو مرتبط بلغة الدولة الرسمية المعتمدة في التعامل مع الخارج . وإذا استطعنا أن نضع هذا الفصل في أذهاننا، نستطيع أن نتحرر من كل العقد ومركبات النقص وتجاوز قدسية أي لغة ونستطيع التوافق حول الطرق الأنسب لتطوير اللغات الوطنية وزيادة درجة حضورها في الحياة العامة.