كثر الحديث في هذه الأيام عن الحقوق الثقافية واللغوية للأقليات والشعوب المسماة أصيلة في ظل تساؤلات وإشكالات تطرح على الدولة الوطنية في العالم العربي. وإذا كانت بعض الدول تعاني من تعددية دينية ومذهبية أنتجت في الآونة الأخيرة جملة من الاحتقانات والنزاعات التي تصل أحيانا حد القتال مثل القبطية في مصر والتشيع في اليمن ودول الخليج ، فإن دول الغرب الإسلامي قد احتفظت لنفسها بتعددية لغوية أنتجت خطابا عن الحق اللغوي والحق في بعث تراث عف عنه التاريخ والحق في رفض القادم من شرق المتوسط . وفي كل مرة يثار موضوع العلاقة بين المجتمع والجماعة تثار قضية الحق في الكلام كأحد ركائز الانتماء وأساسا من أسس الوجود الإنساني . فقد أعلن الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية أنّ:وجود أقليّة إثنية أو دينية أو لسانية في دولة لا يجب أن يكون خاضعا لقرار من هذه الأخيرة، بل يجب إقامته على أساس مقاييس موضوعية. وقد تمّت صياغة الإعلان العالمي للحقوق اللغوية سنة 1996 ببرشلونة. وهو يكتسي راهنا شكل بروتوكول قُدِّم إلى مختلف حكومات الدول الأعضاء بهيئة الأمم المتّحدة، من خلال المؤسسات الدولية التابعة لها، وأيضا من خلال الجمعيات غير الحكومية المعترف بها من طرف الأممالمتحدة، والتي تعمل من أجل الاعتراف بالحقوق اللغوية واحترامها. وتندرج الحقوق الثقافية واللغوية ضمن الجيل الثالث لحقوق الإنسان، وهي حقوق تعتبر حقا لكل شخص، ليس بوصفه كائنا طبيعيا أو سياسيا لكن بوصفه عضوا في المجتمع. أي أنها حقوق أساسية مثل باقي حقوق الإنسان الأخرى، وبالتالي فهي ضرورية للكرامة البشرية وأحد مستلزماتها. وقراءة عرضية لهذا الإعلان تثبت الإضافة النوعية التي قام بها في سبيل الحفاظ على الحقوق اللغوية للأقليات والشعوب من خلال حقّ اللغة في الوجود وحق اللغة في البقاء وحقّ اللغة في التطور والنماء. فكل كيان لساني له بقوة القانون والتشريع الحق في الانتقال من مجرد تواصل لهجي بيني فرعي إلى تواصل لغوي جماعي مبدع ومؤسس . {في هذا الإطار يمكن أن نضيف أنّ الدّول عموما تعتبر اللغات المحلية جزءً لا يتجزّأ من تراثها الثقافي. وبالتالي من حقّها أن تحافظ عليها وتطوّرها. كما أنّ المجموعات التي تتكلم هذه اللغات تستشعر حقّها في أن تنال من الدولة الاعتراف والدعم في إطار سياسة لغوية متجانسة} .1 والاعتراف بهذا الحق لا يمس الانتماء الوحدوي ولا النسيج الاجتماعي لجماعة الأصل . بهذا التصور يمكننا أن نقرأ الدعاوى المتكررة التي يعلنها بعض الفاعلين في العمل الجمعوي الأمازيغي عندما ينظرون إلى مسارهم المتصاعد ، من حيث المطالب وليس الوعي بالواقع والزمن ، بكونه صراعا وجوديا ضدا على الزمن العربي القادم ضدا على الهوية الأصلية للشعب الأمازيغي والقضية الأمازيغية . واللغة الأمازيغية ، أو اللغات الأمازيغية إن صح التعبير,2 هي رأس المطالب وبعثها من رماد التاريخ هو أس الحركة بأكملها . خاصة بعد تأسيس جمعية الجامعة الصيفية باكادير التي كانت محطة للتنسيق بين الفاعلين في الحقل الأمازيغي في صياغة شعارات محددة من بينها التنوع في الاختلاف والمطالبة بدسترة الأمازيغية كلغة وطنية بالدستور ثم مؤخرا كلغة رسمية وإدماجها في حقل الإعلام والتعليم والإدارات والقضاء. والمتتبع للمسار المطلبي للحركة الأمازيغية يصل إلى أنها قد انتقلت من مجرد الاهتمام الثقافي والحق في الوجود الرسمي إلى البحث عن موقع لها في الدستور الوطني وبعد الدسترة سنصبح ملزمين بإصدار الوثائق بلغات القبائل الأمازيغية وربما في يوم من الأيام يكون لكل دوار لغته الخاصة بناء على مسار تجزيئي تفتيتي تبدو معالمه من شكل النضال الحقوقي الأمازيغي وشعاراته . فإذا كانت الحقوق اللغوية الجماعية سواء المتعلقة بالمجموعات الإثنية، وهي حقوق طبيعية وثابتة لا يجوز المساس بها، وكمثال على ذلك الحق في إكساب القيمة للغة الإثنية ، أم الحقوق المتعلقة بالمجموعات الوطنية وهي حقوق وضعية ينشئها المجتمع، وبالتالي يمكن أن يلحقها التغيير حسب مشيئة الدولة بالأساس، وكمثال على ذلك حق الدولة في إضفاء صفة اللغة الرسمية على إحدى اللغات أو جميع اللغات الموجودة على ترابها، وأيضا حقها في إدماج لغة أو لغات أجنبية في البرامج الدراسية، فإن لكل مواطن الحق أولا وقبل كل شيء في الأمن اللغوي. والأمن لا يتعلق بالحرية في اختيار لغة التواصل والإبداع ولكن في احترام الفضاء العام للتواصل اللغوي وتقدير الجانب الوحدوي في الاختيار . فلو تتبعنا المسار الذي أخذته المطالب الأمازيغية في فرض اللغة يقتنع أن الأمر لا يتعلق بحد معين بل بمسار لا ينتهي إلا بحرب لغوية على حد تعبير جون كالفي تزيد من الأزمات التي تحيط بالعربية ودورها الحضاري. وإنه من الخداع أن نتصور بأن الطفل الذي لا يتعلم بلغته الأم معوّق ومحكوم عليه بالفشل في الدراسة. ولعل المثال المضاد الفاضح هو ما يجري مع عبرية إسرائيل. ففي هذا الباب اللغوي، الذي مصدره الهجرة الكثيفة، نجد لغات أم متعددة، منها العربية والروسية، واللغات الأوروبية، الخ، مع أن العبرية هي لغة المدرسة. ومعلوم أن الاسبانيكوس في الولاياتالمتحدة قد اختاروا ديمقراطيا تعليم أبنائهم بالإنجليزية. وكيف يمكن للغة مشكوك حتى في رسمها وفي أصلها أن تصبح لغة الإعلام والإدارة والتقنية مادامت التقارير الدولية كتقرير المعرفة 2009 تلح على كون العربية هي المدخل الطبيعي لإنشاء مجتمع المعرفة ؟ لذا سيظل اعتقادنا راسخا أن العربية هي الوحيدة الكفيلة بتحقيق الأمن اللغوي للمواطن المغربي القائم على التفكير الوحدوي والمشترك الوطني بدل التركيز على الخصوصيات الجهوية والقبلية التي يمكن أن تجد لها مكانا في تعبيرات مختلفة دون أن تمس بالنظام اللغوي للأمة ودون أن ترهن مصير الوطن وثقافته وانسجامه بتجزيئات لغوية وثقافية تحت مسميات شعاراتية كالحق اللغوي والحق في التعبير والحق في الاسم والتسمية . ولا يتعلق مسمى الأمن اللغوي بتوطين للعربية في فضائها بل بالتركيز على احترامها تداولا وقواعد واستعمالا في مراكز القرار من خلال إجراءات حقيقية تمس الحياة الثقافية للمواطن وتعيد الاعتبار للغته الوطني والرسمية . ولنا في التجربة الفرنسية خير مثال من خلال المناقشات الجارية بالبرلمان الفرنسي حول ضبط الاستعمال العام للغة التي تعد قضية دولة في نظام الجمهورية الخامسة وليست مجرد لغة تواصل عادي . هذا للاعتبار والتبصر . فألا يحق لنا أن نطالب نحن المغاربة بأمن لغوي، على غرار الأمن الروحي المرتكز على وحدة المذهب والعقيدة ، يتأسس على وحدة اللغة العربية واستعماله الملزم في مراكز القرار والإدارة دون إلغاء للتنوع الثقافي واللغوي والإقليمي . إن احترام قواعد اللغة العربية - والمقصود هنا القواعد الأساسية وليس القواعد الخلافية والفرعية - يجب أن لا يقل أهمية عن احترام قوانين السير وقوانين الأحوال المدنية وقوانين الاستئجار وسائر القوانين النافذة. هذه دعوة لاحترام الذات وليس إقصاء لمكوناتها. 1 الدكتور عبد الهادي بوطالب الحقوق اللغوية وحق اللغة في الوجود، والبقاء، والتطور والنماء، والوحدة . 2 لنا عودة لهذا المفهوم لكي نثبت أن الأمازيغية هي لغات وليس لعة واحدة وأن ما يؤسس الآن في دهاليز المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية هو لغة افتراضية على حد تعبير الأستاذ محمد الأوراغي .