إن فرنسا في نظرنا لا تشكل النموذج المناسب، ذلك أن أغلب الدول الأوروبية عملت على تدبير التعدد اللغوي بإقرارها على الأقل لغتين وطنيتين رسميتين: في أوروبا اليوم تكاد أغلب الدول تسير في اتجاه الاعتراف بتعدد اللغات والألسن، وبحق الجميع في تداول اللغة التي يشاء، والاعتراف الرسمي باللغات حسب المجموعات اللسنية السائدة، هذا فيما يتعلق بأوروبا. ولنا أمثلة أخرى عديدة في بلدان أخرى ككندا التي أقرت ثلاث لغات رسمية: الإنجليزية، الفرنسية، الإنكتكوت هذا ويمكن الحديث عن اللغات الجهوية، التي ينبغي أن يضمنها الدستور كما هو الحال بالنسبة لبلجيكا، لصيانة اللغات الوطنية - الأم (إن صح التعبير) فأين نحن من كل هذا؟ إن ضغط العولمة والوثيرة المتسارعة للهيمنة اللغوية تقتضي الاتجاه نحو إحياء اللغات الوطنية والجهوية التي تمتلك ثقافة وتراثا غنيا والدفع بها بدل تهميشها، فتطور وسائل التكنولوجيا وتسارع ثقافة السيبرنتيك يشكل بحق تهديدا ليس وفقط على اللغات الأم: الوطنية والجهوية، وإنما حتى على اللغات الأكثر تداولا عالميا، فوضع الفرنسية والإسبانية اليوم لا يساوي شيئا أمام زحف الانجليزية، فأي وضع ينتظر اللغة العربية؟ تشير أغلب الندوات العلمية والمؤتمرات التخصصية إلى أنه ينبغي دخول غمار التنافس اللغوي، بل «الحرب اللغوية» المعلنة مع صعود شبح العولمة، لكن لا ينبغي أن يتم ذلك على حساب اللغات التي تعايشت معها، بل يجب العمل على تطوير اللغة العربية لمسايرة الثورة التكنولوجية المعاصرة، وأن تغزو الفضاء السبيرنيتيكي إن شاءت أن تضمن بقاءها. وأمام هذا الوضع: ما موقع الأمازيغية من هذا التعدد؟ مكانة الأمازيغية من التعدد اللغوي بالمغرب: إن الحديث عن الأمازيغية في المغرب يقتضي إلقاء نظرة تا يخية عامة على اللغة الأمازيغية، فهي لغة توجد في الوقت الراهن في عدة بلدان: المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، النيجر، مالي، بوركينافاصو، موريتانيا... ويعتبر المغرب والجزائر أهم تلك البلدان من حيث الاهتمام بالمسألة الأمازيغية لغة وثقافة، وذلك لعدة اعتبارات أهمها: التواجد الكبير لعدد السكان الناطقين بالأمازيغية (الجزائر 25% والمغرب 40%)؛ الغنى الثقافي الموازي لذلك التواجد؛ قوة الحركة الأمازيغية الداعمة لثقافة الأمازيغ ولمطلب ترسيم اللغة الأمازيغية؛ قوة مؤسسات البحث والدراسة وإحياء التراث الثقافي الأمازيغي... لذلك فإن مشكل اللغة الأمازيغية وثقافتها لا يعني المغرب لوحده بقدر ما يتعلق بشعب موزع على منطقة: المغرب - الصحراء - الساحل... وهذا ما يقتضي التعامل مع الأمازيغية لغة وثقافة من منظور شمولي وكلي، لا كإشكال يتعلق بالمغرب وفقط، فالمسألة الأمازيغية تتجاوز مستوى الموقف السياسي والإرادة السياسية، إنها ورش مفتوح بحاجة إلى عمل متفان على جميع الأصعدة، يستدعي عدة منهجية وأدوات بحث دقيقة وتنظيمات علمية ومؤسساتية، فعبر التاريخ المغربي القديم تطور الأمازيغ وتعايشوا مع مختلف الحضارات التي تقاسموا معها ما تقاسموه وأخذوا منها بقدر ما وهبوها ما بمكنتهم. والأمازيغية لا تتجاوز المجتمع والدين والتاريخ والحضارة، بل إنها في صلبهما، فللأمازيغ حضارة عريقة كما لكل الشعوب حضارات، ولغتهم بقيت في حدود لغة التواصل ولم ترقى إلى لغة مكتوبة بسبب عوامل عدة، وثقافتهم متنوعة: أدبية، فنية، طقوسية، رمزية، دينية... ومؤسسات اجتماعية عريقة كانت موضع الدراسة والبحث وألهمت اهتمام السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين، كما ألهمت قريحة النخبة الفقهية في مراحل مختلفة: ابن خلدون، السوسي... ما تبقى من الأمازيغية عبر التطور التاريخي هو اللغة: ذلك الرابط القوي الحامل لثقافة متنوعة وغنية، والذي جعل الأمازيغ يعيشون هوية واحدة تحسهم بقوة الانتماء العرقي، وهو رابط شفوي بالأساس يختلف من منطقة إلى أخرى حيث يمكن الحديث عن ثلاث مناطق لغوية أمازيغية بالمغرب: الريف؛ الأطلس المتوسط؛ منطقة سوس والأطلس الصغير والكبير. كما أن التعبيرات الفنية من موسيقى وفن الحياكة (الزرابي أساسا)، والرقص الشعبي (مختلف أنواع الفولكلور) والشعر... لازالت حاضرة وبقوة إلى اليوم، بل ازدادت وتقوت مع نمو «الحركة الثقافية الأمازيغية»، ومع تزايد الإحساس والوعي بالانتماء الثقافي والعرقي. أما ما يتصل بالعرف والتنظيم الاجتماعي فقد تعرض لتغييرات مستمرة، تفكك منها ما تفكك وبقي منه ما تبقى، لذا فالسؤال الرئيس هنا يتعلق بسؤال إشكالي يحتاج إلى فحص دقيق: ما الذي جعل الثقافة الأمازيغية (على الرغم من التعاقب الحضاري بالمغرب) تحافظ على نفسها؟ ما الذي جعلها ثقافة حية أمام ثقافات أخرى خارجية تعايشت معها في هذا البلد لمدة ليست بيسيرة؟ ما الذي ساهم في الحفاظ على اللغة الأمازيغية على الرغم من أنها ليست لغة مكتوبة؟ فالحضارة الإسلامية على سبيل المثال تعتبر أعرق الحضارات التي استوطنت المغرب مقارنة مع الفينيقيين والرومان والبيزنطيين... وعلى الرغم من قوتها من جميع الجوانب فإنها لم تستطع أن تسيطر وتهيمن ثقافيا، بل ظلت الثقافة الأمازيغية محافظة على ذاتها، فهل في هذه الثقافة قوة ممانعة وعناصر قوة مضادة؟ اللغة الأمازيغية: من التقليد الشفوي إلى حروف تيفيناغ ساهم الاستعمار الفرنسي في تعزيز الدراسات والأبحاث حول الأمازيغية، وقد ساعده على ذلك تواجده بالمغرب والجزائر ومصر قبلهما، فإليه يعود الفضل في ربط الأمازيغ بتاريخهم وبتراثهم اللغوي، حيث انكب على دراسة نحو اللغة الأمازيغية وبنيتها الصرفية وترك معطيات تشكل اليوم أساس الدراسات الجديدة التي دشنها الجيل الجديد من المثقفين الأمازيغ الذين درسوا بأوروبا (فرنسا تحديدا)، حيث أسسوا الأكاديمية البربرية سنة 1970، وبعدها الكونغريس العالمي الأمازيغي. لم تكن اللغة الأمازيغية لغة مكتوبة، دونت تراثها الثقافي، باستثناء مجهودات متأخرة بدأت مع تراث سوس الغنائي والفلكلوري، ولكن الحرف الأمازيغي ظل محافظا على نفسه في الرسومات الأمازيغية وفي فن الزخرفة والحياكة، كما في حلي التزيين والحناء... ويشكل المغرب حالة استثناء في تعزيز الحرف الأمازيغي، فبعد القرار التاريخي القاضي بضرورة دمج الأمازيغية في المنظومة التربوية، وتلقين الحرف الأمازيغي تم فتح صفحة جديدة في تاريخ اللغة الأمازيغية على الرغم من الصعوبات التي تعترض مسيرة التعيير، ففي ظل التجاهل المطلق لمطالب الحركة الثقافية الأمازيغية في الجزائر وليبيا والمغرب طوال عقود، يشكل تلقين الأمازيغية بالمغرب حدثا تاريخي لن يكتمل إلا بحسم المشكلات المرتبطة بهذه اللغة. إن تعزيز مكانة اللغة الأمازيغية لا يمكن أن يكتمل إلا بعد إقرارها دستوريا لغة وطنية ورسمية، وبعد أن تتملك تراثها الثقافي، فعملية التدوين تتطلب إمكانات هائلة بشرية ومادية وإرادة حقيقية. على الرغم من أن المسألة لا تتوقف هنا، فحاليا يعتبر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، المبادر والمحتكر لشؤون اللغة الأمازيغية مما يطرح مشكلة مصداقية القرارات التي يتخذها. فمثلا نحن أمام لغة أمازيغية فصحى تبتعد شيئا فشيئا عن اللهجات المحلية، لأنها تريد أن تكون لغة لكل الأمازيغيين في شمال إفريقيا الذي تتواجد فيه 11 لهجة: يعود تعدد لهجات الأمازيغية إلى التباعد الحاصل بين الأمازيغ في وقت من الأوقات، وعلى الرغم من التقارب الحاصل بين كل هذه الأنواع فإن محاولة اختزال الأمازيغية في لغة واحدة قد يطرح إشكالات عدة، حيث سنكون أمام لغة غير إبداعية، لغة بعيدة عن التداول الشعبي الذي صانها وحافظ عليها قرون من الزمن، هذا ناهيك عما يمكن أن يترتب عن تعميم اللغة الواحدة من صراعات جهوية ومحلية، ويمكن أن نختزل هذه العلاقة الممكنة بين الأمازيغية الكتابية، وبين اللهجات في نوع العلاقة القائمة بين العربية الفصحى والعربية العاميات، والتاريخ يشهد ببعد الفصحى عن التداول الشعبي وانحصارها في حدود مجال النخبة - إن لم نقل نخبة النخبة ألهما إن لم نقل أن الولادة الجديدة للغة ستفتح الآفاق أمام ظهور لغات محلية مستقلة تنهل من اللغة الأمازيغيةالواحدة، كما حصل في علاقة اللغات الأوروبية مع اللاثينية، شريطة أن عوامل تاريخية وسياسية ودينية وثقافية أدت إلى تكريس هذه التعددية اللغوية والثقافية بالموازاة مع تطور المجتمع الأوروبي. إذا كانت العربية والفرنسية لغات مكتوبة ومتداولة، فإن الأمازيغية كلغة متداولة شفهيا لدى الغالبية العظمى من المواطنين، فإنها بحاجة إلى ورش حقيقي لإنصافها. بحاجة إلى دعم خاص يتجه صوب تحقيق الحق في أن تكون لغة مكتوبة وأداة للإبداع والتفكير ولبناء الحضارة الأمازيغية، وهذا ما يستلزم مؤسسات علمية حديثة ومراكز أبحاث تخصصية في مجالات الفكر والعلوم الإنسانية والعلوم الحقة لنبش التراث وإعادة الاعتبار للحضارة الأمازيغية، وهذه المهمة لن تكتمل إلا باستعادة التراث المغربي (الذي يقدر ب 20 مليون مخطوط) الموجود في خزانات ومراكز الأرشيف بالدول الغربية، فالمسألة تتعلق قبل كل شيء بالاعتراف التاريخي بوجود تراث علمي وأدبي وفني، قادر على خدمة التعدد اللغوي والتنوع الثقافي. في الحاجة إلى مواصلة دعم الأمازيغية التداخل بين اللغات والثقافات وتعايشها في المغرب المعاصر هو حصيلة تاريخية، ولكن مبدأ التعدد والتنوع يقتضي أول ما يقتضي الاعتراف أولا بوجوده دستوريا، وثانيا بإقرار اللغات الثلاث: العربية، الأمازيغية، الفرنسية، لغات رسمية لكل المواطنين، وإصلاح المنظومة التعليمية والإدارية وكل المؤسسات وفق هذا التداول اللغوي المشروع، شريطة ضمان ألا يكون هذا التعدد أداة لتكريس الهيمنة والارتقاء والدفع بمجموعة على حساب مجموعات أخرى. وثالثا بإنصاف اللغة الأمازيغية ودعمها بشكل يسمح لها بتملك تراثها وتاريخها، بدل تهميشها. أهم المراجع والمصادر: salem chaker: langue et littérature berbères, التعدد اللغوي بالمغرب منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم، علي أزايكو، أحمد الحفصي، عبد الكريم غلاب، محمد حركات وآخرون، مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، 2002. التعدد اللغوي والثقافي بالمغرب وإشكالية التواصل الداخلي، أحمد عصيد، مجلة الشعلة العدد 8-7 سنة 2002. التعددية اللغوية بالمغرب ليست بلعنة، شمعون ليفي، تعريب بن المومن الحسين وبنسعيد بوشعيب، قضايا تربوية، العدد 9 سنة 19999. موقع اللغة الأمازيغية من التعدد اللغوي بالمغرب، محمد المدلاوي، مجلة آفاق العدد 71-70 سنة 2006. الهوية والتعدد اللغوي بالمغرب، دفاتر الشمال، العدد 3 سنة 1998. ملاحظات أولية حول الوضع اللغوي بالمغرب، عبد اللطيف شوطا، مجلة آفاق: مجلة اتحاد كتاب المغرب، العدد المزدوج 71-70 مارس 2006. الوضع اللغوي بالمغرب بين الطابع الوطني والرسمي والجهوي، محمد غنايم، مجلة آفاق العدد 71-70 مارس 2006.