هناك كلام عن تراجع الإبداع و الجمال ، و ندرة في الانتاج الثقافي (نتحدث هنا عن الثقافة بمفهومها الانتربولوجي) الحامل لمعنى و جذور المجتمعات العربية . هذا وضع يطرح أكثر من علامة استفهام حول آفة سقوط المعاني و ماهيات الجمال في غياهب النسيان ، الشيء الذي يهدد مستقبل الإنسان العربي، و يعيق رهانات تواصله مع ذاته ، و الغير المختلف عنه في الملة و الدين و الثقافة و الحضارة. وانتشار الرداءة في مجالات الفنون يصيب النفوس بمرض السقوط، و الفشل في الارتقاء بالطبيعة الإنسانية إلى مستوى الكائن الثقافي و الشخصية الخلاقة. وما هو الإبداع و الخلق الجميل سوى حساسية و ذوق و معرفة و قواعد هادئة ، بل كما يقول الفيلسوف الألماني كانط : "الفن الجميل هو عبقرية" . إن الإبداع صورة بديعة تسعى لمحو المتاهات البشرية، و فعل يواجه القبح الطبيعي اليومي، و هو وسيلة كذلك للمقاومة ضد اختفاء الجمال. ولفهم الجمال لابد من اقتحام قارة الجماليات و الغوص في الكتابات التي نحتها و بناها الفلاسفة و المختصون طيلة التاريخ. النصوص الالمانية لها من الحضور ما يكفي لتستوقف القارئ في معانيها، و دلالاتها و تساؤلاتها في هذا الباب. 1/في مجال الذوق حين نتحدث عن الجمال لابد أن نستحضر مجال الذوق، فالجمال هو المظهر الحسي للكمال بين الماهية و المظهر. لكن الفيلسوف كانط يرى أن الالمان لوحدهم يستخدمون كلمة "الجمال" لتحديد ما يقول عنه الآخرون "نقذ الذوق" . حكم الذوق في رأيه ليس حكما معرفيا، و من ثم فهو بالضرورة ليس حكما منطقيا ، إنه حكم جمالي يتحدد في المقام الاول على نحو ذاتي، فهو يتم من خلال المعرفة، بل من خلال الخيال و الوجدان، و يرتبط بشكل جوهري بالشعور بالمتعة و الالم . كانط هو من واجه سؤال الذوق و الجمال و قال بالذاتية الكونية ، و معه صار الذوق مقولة جمالية بامتياز . لم يقصد كانط من كلامه "الذوق نفسه" بل "جدل الذوق " الذي هو ملكة تأملية في الحكم الجمالي. 2/هل فلسفة الجمال المانية ؟ إن لغة التميز الالماني في الكلام عن الجماليات بدأت عام 1635 مع الفيلسوف بومجارتن الذي أسس لمفهوم الجماليات بشكل فريد و خاص. هذا العبور لا ينفي فلسفات الجمال منذ ما قبل سقراط الى حدود منتصف القرن 17 . و لكنه نوع من التجاوز و القطيعة مع ثقافة وفكر الجماليات في الماضي. فلسفة الجمال ظلت مع ذلك أحد المباحث الفلسفية الخمسة الى جانب نظرية المعرفة و الاخلاق و الميتافيزيقا و المنطق . وبالرغم من أن الجمال أضحى تخصصا فلسفيا في القرن 18 إلا أن التفكير و التساؤل في مجاله بدأ مبكرا منذ ما قبل الفلسفة السقراطية . المعجم الالماني يميز بين الجماليات الذاتية التي تدرس علم الجمال، و شروط نشأته و مكانته و قيمته و الاحكام الذوقية و أثر الجميل على المشاهد و المتلقي ، و الجماليات الموضوعية التي تعالج التساؤل الجمالي الذي يهم موضوع الجمال وتعريف الخصائص التي تتضمن وظيفته . الجماليات الهيجيلية تقول بأن الجمال خطاب حول الفن ، و تشير بالدرجة الاولى الى الدلالات و المضامين التي تحتوي عليها الاعمال الفنية . هيجل الذي يرى - منتقدا أرسطو و تصوره في محاكاة الفن الطبيعة - أن الفرح الذي يتأسس على المحاكاة هو نسبي للغاية، و الانسان يجب أن يخلق مثلا الفرح انطلاقا من ابداعاته الذاتية . المحاكاة هي تجريد الفن من حريته، و قدراته على التعبير بالجمال . بالمقابل، يركز كانط في حديثه على خصائص التجربة الجمالية الفريدة و المختلفة تماما عن التجارب الاخرى كالتجربة المعرفية . الفيلسوف الألماني و رائد مدرسة فرنكفورت تيودور أدورنو أصدر عام 1971 أحد أهم كتبه في مجال الفن و الجمال : "النظرية الجمالية "، والذي قدم فيه مفهوم الفن وناقش فيه العلاقة بين الفن والمجتمع. يقول أدورنو: "يعد العمل الفني انعكاسا ماديا للواقع الاجتماعي السائد، و لا يعبر عن طبقة ما، لأنه تعبير عن الكون الانساني. ملكة الفن هي التخيل، و لذلك لا يعبر الابداع عن طبقة في المجتمع، وإلا تخلى الفن عن التخيل ". و يتوخى أدورنو إنشاء حداثة إستطيقية دون سقوط العقل في براثن الميثولوجيا، و تواطئه مع همجية الثقافة الحديثة التي يسميها بالهمجية المنمقة. الجمال و الجماليات ليس لها قيمة إلا بالنسبة للإنسان. إننا ما أن ندرك أن إنسانا هو الذي يغرد على ذلك النحو، و ليس العندليب حتى نجد ذلك التغريد عبثا، و عديم المعنى، فنحن نرى فيه مجرد تصنع و تجرد. 3/كانط و الجماليات يعد إمانويل كانط (1724 - 1804) أحد أبرز الفلاسفة الألمان الذين تركوا بصماتهم الكبيرة في الثقافة الأوروبية الحديثة. كانط أبدع في نظرية المعرفة، وهو أحد أهم فلاسفة عصر التنوير ، و تقول عنه بعض المصادر أنه في حياته كلها لم يسافر أبدا، ولم يبتعد أكثر من مئة ميل عن مسقط رأسه مدينة كونغسبرغ (Königsberg) عاصمة بروسيا في ذلك الوقت ، كما تربي في وسط عائلي ديني محافظ، وتلقى تعليما صارما، و تربية قاسية وانضباطية . كانط لا يرى في مرحلة كتابته لنص "نقد العقل الخالص" مكانا للجمال في الفلسفة . كانط يرفض تعريف الجمال كما يقول عنه بومجارتن، واللذة الجمالية غير مرتبطة بالمصلحة الذاتية فكرية كانت أو أخلاقية ، إنها تعلو فوق كل المصالح . الجميل في رأيه رمز للخير، كما أنه يتصور النشاط الجمالي باعتباره نوع من اللعب الحر للخيال، و الفنان العبقري هو من يمتلك أربع ملكات : المخيلة و الفهم و الروح و الذوق . أما العبقرية عند كانط فهي الموهبة (ما تهبه الطبيعة ) التي تأسس للفن قواعده. و الموهبة مثلها مثل عمل الفنان الفطري . و يعبر كانط عن ذلك كما يلي : "العبقرية هي حالة الفطرة التي عبرها تقدم الطبيعة قواعد للفن ". يميز كانط بين الملكات الثلاث التي يتوفر عليها الفرد . ملكة المعرفة ، و ملكة الرغبة ، وملكة الشعور باللذة و الالم، وهي القوة التي تقوم عليها ملكة الحكم، و يحدد مجال فعاليتها في الفن و الجمال . فالجميل في تصوره هو تمثل ملكة الحكم لموضوع ما يثير لذة من دون الحاجة الى مصلحة . فمن طبيعة الجميل أن يوفر اللذة دون أن يحقق غاية أخرى سوى هذه اللذة نفسها. 4/في علاقة الفن بالجماليات لكل من الفن الجمال رابطة تعاطف و انفصام أو رابطة علاقة متبادلة مع الحقيقة و المنفعة و القدسية . فلا يمكن أن نتحدث عن الجمال دون استحضار مجال الفن، فالجمال هو الموضوع الخاص و الوحيد للفن حسب معجم Armand Cuvilier. الفن تركيب و تأليف، إنه التعريف الوحيد للفن . التركيب جمالي، و كل ما ليس مركبا ليس عملا فنيا حسب رأي جيل دولوز الذي يرى أن الفن و من خلال الجمال يشكل ثلاثي تفكير أساسي إلى جانب العلم و الفلسفة ، فهذه المجالات تتقاطع و تتشابك، و لكن دون تركيب و لا تماثل في ما بينها . الجماليات تخاطب الذات و الموضوع و العالم و الطبيعة، لكن في حضور الفن تصبح العلاقة مغايرة . فالطبيعة تكون جميلة عندما يكون لها مظهر الفن، و لا يسمى الفن جميلا إلا اذا كنا نعيه كفن حسب كانط . في حين يرى هيجل أن الجمال في الطبيعة هو انعكاس للجمال في الذهن ، و الجمال الفني يظل أسمى من الجمال الطبيعي لأنه نتاج للروح . فيلسوف الارادة و التمثل شوبنهاور، يرى أن الفن يحرر و يطهر العقل، فهو يسمو بنا إلى لحظة تعلو على قيود الرغبة، وتتجاوز حدود الإشباع. لكن في نفس الوقت، يشير إلى أن المتلقي ينبغي له أن يصغي أولا إلى الحكمة العميقة التي تبوح له بها الأعمال الفنية، فالاستمتاع الجمالي إذن حالة مشاركة وتفاعل بين العمل الفني والمتلقي. على سبيل الختام انتشار الجمال في المجتمعات الإنسانية، و تزايد الرغبة في بناء الشخصية الخلاقة يتيح فرص قوية للارتقاء بالشخصية ، و يسمح بالعبور أكثر نحو عالم أكثر انسانية . فمكانة العالم و الحياة مهمة في إبداعات الفن و الجمال. و على حد قول نيتشه، "من يبدع في الفن ليس الفنان، بل هو الحياة نفسها، ولكن ليس الحياة المنحطة المتقهقرة، بل الحياة القوية، وجوهرها إرادة القوة التي تخترق الفنان، فيتلبس بلبوسها، وينطق بلسانها". هوامش: *Immanuel Kant , Kritik der Urteilskraft ,Herausgegeben von Gerhard Lehmann , Philipp Reclam Jun. Stuttgart,1963,Stuttgart, Deutschland. *Schüller Duden, die Philosophie Herausgegeben von der Redaktion für Philosophie des Bibliographischen Instituts unter der Leitung von Gerhard Kwiatkowski, 1985, Dudenverlag, Mannheim-Leipzig- Wien- Zürich. * Carole Talon- Hugon, L' esthétique, Que sais-je ? PUF, 2 Edition, 2008, Paris, France. *Armand Cuvillier, nouveau vocabulaire philosophique, Armand Colin, 3 edition, 1967. *La philosophie, Collection Textes essentiels, Bertrand Vergely, Larousse, 1993. * التفضيل الجمالي، دراسة في سيكولوجية التذوق الفني، تأليف شاكر عبدالحميد ، عالم المعرفة، مارس 2001، الصفاة ، الكويت . *ماهي الفسلفة،جيل دولوز و فيلكس غتاري، منشورات مينوي ، ترجمة مصاع صفدي ، المركز الثقافي العربي ،1997. * كاتب و سينمائي مقيم في برلين.