في شراكة جميلة ورائقة بين مجالين ظلا، إلى وقت قريب متقابلين، الحوار بينهما مرغوب فيه، وغير حاضر، حتى وإن كان كذلك، فإن حضور اللقاء سرعان ما يمحيه التقابل المدرسي بين الفلسفة والأدب إلا أن هذه القاعدة سيتم زعزعتها داخل الفضاء الجامعي ابن امسيك. هذا اللقاء /الحوار المثمر ترسخ بفعل الأستاذين عبد العالي معزوز وعبد اللطيف محفوظ. فالأول ينتمي إلى مجال الفلسفة، والثاني إلى الأدب، ولعل هذا الحوار الذي تم تدشينه رسميا في مشروع جمالي واسع، بين مركز الأبحاث الفنية والجمالية ومختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية. وبين-بين أقاما مجموعة من الندوات داخل وخارج كلية الآداب ابن امسيك وقد نقول - بدون مواربة- أنهما انفتحا على فضاءات ثقافية خارج أسوار الكلية كمكتبة آل سعود والمكتبة الوسائطية ،و هذا أمر وجب الوقوف عليه ليس من حيث الكليشيهات المعلقة على باب الكلية والمدرج، وطقوس الحوار الأكاديمي، وإنما إضاءة الجميل بأسئلة يتواشج فيها الفلسفي، بالجمالي، والأدبي والسيميائي، فلا مراد من أن نقول إن هذا الفعل التداولي في الجماليات هو ما أعطى زخم الأسئلة وتخصيب الحلم، وتجريب المقاربات، وتحريض الطلبة الباحثين للانخراط في تلك الأسئلة. نحن إذن أمام تجربة وجب سقيها حتى تثمر وتنضج في المناخ المغربي، صحيح أن مختبرين ليس لهما الإمكانيات المادية لتنظيم مثل هذه الملتقيات، لكن نضالية المنظمين لهذه الندوة يندفعان بقوة لتنظيم هذا اللقاء، وكأنهما يطلان علينا من جبهة الأمل في زمن مغربي صعب، نخر اليأس جميع أعضائه، نظم مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية، ومركز الأبحاث الفنية والجمالية بنمسيك بتعاون مع الجمعية المغربية لنقاد السينما يوم الجمعة 8 يناير 2016 بالمكتبة الوسائطية بمؤسسة مسجد الحسن الثاني الدارالبيضاء ندوة حاولت الإجابة عن أسئلة عديدة أولها كيف يمكن المواءمة بين وسيط معاصر والمتمثل في السينما ومبحث أقدم منه وسابق عليه أي الاستيتيقا في القرن 18؟ ما السبيل إلى تحيين مفهوم الجميل مثلما صاغه كانط ليناسب الوسيط السينمائي؟ وهل تحيين مفهوم الجميل ممكن؟ تنطوي هذه الأسئلة على تحدي كيف يمكن مقاربة السينما جماليا والحال أنها ليست فنا خالصا، وأنها مزج من الترفيه الجماهيري ومن الصناعة الثقافية ومن الإبداع؟ وما نوع الجميل السينمائي وما عسى أن تكون عناصره المكونة؟ ما نصيب الترفيه والصناعة والإبداع في الجميل السينمائي؟ لكن إذا سلمنا بإمكان مقاربة السينما جماليا فهل لها جمالياتها الخاصة مثل جماليات المسرح والرواية والتشكيل، أم يقتضي الأمر تطبيق جماليات عامة على السينما؟ وما معايير هذه الجماليات السينمائية؟ إن هذه الأسئلة المقلقة هي مجمع اختلاف النظر بين مهتم بالأدب والسيميائيات والآخر بفلسفة الجمال و الأخير ناقدا للسينما، إنها أسئلة ترمي إلى تحديد معركة الحوار ومجاله التداولي. إلا أن كل ذلك يبقى بلا معنى، ولكي نعطيه معناه اللائق على المنظمين نشر أعمال الندوة في كتاب حتى يظل مرجعا للعموم، وشاهدا على نضالية الأستاذين المشرفين عليها. انقسمت الندوة إلى جلستين صباحية ومسائية. في الجلسة الأولى التي ترأسها الروائي والناقد عبده جيران والتي استهلها بأهمية الموضوع المطروح في راهننا المغربي، مؤكدا أن طريق إعادة الحلم لكينونتها لن يكون إلا باحتفاء باذخ بالجميل. ولأن السينما فضاء موزع بين الاقتصادي، والحكائي، والجمالي، والصورة، والممثل، والمخرج، والمتلقي. كل هذه العوامل وضعت السينما موضوع بحث نقدي في المؤسسات الأكاديمية الغربية. حمادي كيروم: الجميل سؤال معقد. بهذه الصيغة تناول الأستاذ المتدخل مداخلته عبر رسم العوائق التي تعيق الباحث في السينما، وهي إشكالات وجب الوقوف عليها لإضاءة المخبوء فيها، ذلك أن السينما موضوعة مركبة ومعقدة لا يتعلق الأمر في تكوينها وتركيب معالمها، والتدرج وفق دقائق أمورها ،وإنما في استشكالها كموضوعة تروم تفكيك تعقد الجميل فيها كمعنى العمل الفني وسؤال المركزية واللغة.. الخ. وهذه بعض العناصر التي يحيل عليها حمادي كيروم إشكالية الجميل في السينما، من حيث هو إشكال معقد، ولأجرأة ذلك، قدم المتدخل نموذجا من تاريخ السينما. يتعلق الأمر بفيلم «القربان» لمخرجه اندري تاركوفسكي رغبة منه في مساءلة ومراجعة الجمال في السينما انطلاقا من مقدمة هذا الفيلم التي هي متتالية، حاول كيروم أن يؤكد فيها أن تاركوفسكي ثار ضد المونتاج في شكله الكلاسيكي. حيث إن هذه اللقطة المتتالية تتكون من حوار دام لمدة تتجاوز تسع دقائق تنتقل فيها الكاميرا بدون تقطيع للمشاهد مع أبطال الفيلم، الشيء الذي يستدعي صبرا لدى المشاهد وتحليلا دقيقا دون التسرع في منح معان جاهزة. هكذا يعتبر الناقد السينمائي أن هدف مخرج القربان لم يكن تظهير رموز، بقدر ما يعتبر أن الرموز تؤول إلى نظام دلالي تنتهي عندها الأحداث والمشاهد. ولأن الأمر كذلك فهي مساءلة مستمرة لكل ماهو بديهي وتماد أو صار تماديا بقوة الزمن في السينما. كما أكد المتدخل الأول أن السينما فن لا يسير بمنطق فصل الشكل عن المضمون، بل هي فن يسائل تعارفنا، وليس المهم هو الأقصوصة أو الحكاية، ولكن إثارة ومساءلة العين ومفهوم المرئي. رشيد نعيم: الجميل في التاريخ والسينما بسط المتدخل الثاني الجميل على التاريخ الإنساني منذ الحضارات القديمة الفرعونية والإغريقية إلى العصر الوسيط. وقد أخذ ليوناردو دافنشي أنموذجا لذلك واتخذ من جيرار جونيب مثالا للعصر المعاصر. إن المسيرة التي سار عليها الناقد السينمائي لتحديد مفهوم الجميل من خلال وضعه في سياقه التاريخي، وقد نظر الأوائل لمفهوم الجمال بمنظار رياضي حيث يحتل مفهوم التناسب كما فن المعمار والتجانس كما فن الرسم قاعدة إبداع الجميل. لكن هذا لا يعني أن مفهوم الجميل مفهوم ثابت لا يتغير بتغير الأزمنة والعصور، ولكنه يخضع أيضا لتأثيرات العصر والرؤية نحو العالم التي تختلف باختلاف الحضارات. وللتدقيق في ذلك أشار المتدخل إلى الكيفية التي يتم بمقتضاها تحديد الجميل في السينما عالميا، فالنقاد السينمائيون يرتبون الأفلام السينمائية في كل عقد من الزمن. وهذا الترتيب تكتنفه أمور تقترب وتبتعد من السينما كفن، وهذا يعني أن هناك قواعد ما خفية أو معلنة هي التي توجه تقييم وتفضيل النقاد،وبذلك تبني مبادئ معينة للجميل سيكون على الجمهور تتبعها. عبد العالي معزوز: الحاجة إلى الدرس الكانطي في الجميل هي المداخلة الأخيرة في صبيحة الجميل في السينما لعبد العالي معزوز أستاذ الجماليات والفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب ابن امسيك، والتي تناول فيها مفهوم الجميل فلسفيا من كانط إلى اليوم. فالسؤال الكانطي في الجميل يروم الفن كتذوق وتفضيل بمعنى أنه ليس سؤالا أخلاقيا ومعرفيا، ذلك أن رهانات فيلسوف القرن 18 تحيل على الفلسفة والكونية. فالعودة إليه مبررة هنا، الشيء الذي سيتم بمقتضاه تحيين علاقتنا بالجمال، خصوصا حينما يتعلق الأمر بفن يملك قيمة كبرى في حياتنا المعاصرة الذي هو السينما، ولبيان ذلك نبهنا الباحث إلى نوع العلاقة المرغوب فيها مع الأفلام السينمائية حيث اعتبر المقاربات الخلقية والإيديولوجية والسياسية لا فائدة منها. لكونها تبعد الجميل من دائرة اهتمامها، وبالتالي وجب قراءة السينما بعيون جمالية متعددة، أي في حدود الفن. إن هذا التنبيه يفترض قلب النظرة والقراءة، وهذا لن يتأتى إلا بتلك القراءات الإيديولوجية وبالمحصلة، يفيد هذا القول تطوير العين وتخصيب النظرة، إعادة الجمهور إلى الجميل في السينما، وليس إلى تقويم سياسي لها. إن هناك تعطشا حقيقيا لدى الفنان ولدى المشاهد للتعبير عما هو جميل في الوجود والحياة، لكن ذلك ينبغي تطعيمه ومتابعته بنقد فني وفلسفي يجعل الإبداع إبداعا واعيا. في الجلسة المسائية التي ترأسها الأستاذ أحمد الصادقي، والذي قام بتقديم أهم القضايا والإشكاليات التي طرحتها الجلسة الصباحية، كنوع من تنبيه المتدخلين الجدد والجمهور إلى كون موضوعة الجميل في السينما واحدة وإن اختلفت زوايا النظر إليها. واللافت أن الأستاذ الصادقي ظل مواظبا على هذه الندوات منذ بدايتها مشاركا تارة ومناقشا ومسيّرا تارة أخرى، ولأنه كذلك فقد أضاء الجلسة الثانية بتحديده للأسئلة وتلخيصه للمداخلات التي قام بتدبيرها. نور الدين محقق: أهمية الجميل لدى المبدع والمتلقي معا رسم الروائي والناقد نور الدين محقق طريقه عبر التوقف عند مفهوم الجميل فلسفيا، وبالضبط عند أهم فلاسفة القرن 18 ،كانط وهيغل ،مركزا بدوره على أهمية الجمالية سواء عند المبدع أو المتلقي، لقد اتخذ من فيلم taxi driver مثالا لضبط الجميل في السينما، هذا الشريط الجامع لمشاهد ذات صيغة جمالية وأيضا مشاهد مظلمة وعنيفة تجعلنا نتردد ونتعاطف مع سائق الطاكسي ونأخذ موقفا من الحياة ونتبنى وجهة نظره، إن السينما تدعو متلقيها لقراءتها بوعي نقدي مؤسس على معرفة فلسفية وجمالية ضدا على مشاهدة استهلاكية ترمي إلى تزجية الوقت، وبالمحصلة يحرض المتدخل المتلقي بذل الجهد في النظر والنقد، حتى يكون إمتاعه بالجميل ممكنا. سعيد لبيب: من الجميل إلى السامي في السينما انطلق الباحث - في مداخلته - من أرضية حدد حدودها بأسئلة فلسفية. مادام الجميل موضوعة استقطبت اهتمام الفكر الفلسفي. ولأن ايمانويل كانط نحث هذا المفهوم فلسفيا وكونيا. وغير مرتهن بمنفعة، فسبيل الذوق جسر لبلوغه. لكن ما الذي يدعو مساءلة الجميل بدعوة كانط؟ والأدهى من ذلك أن سؤال الجميل في السينما لا يستقيم زمنيا مع كانط. إلا أن الباحث وجد عند هذا الفيلسوف ما يبرر انخراطه في السينما. إلا أن هذا الأخير تحدث عن مبادئ عامة تصلح لأن تنطبق على تلك الفنون التي لا تخلط المتعة بالفائدة. إضافة إلى كون السينما مجمع الفنون الأخرى (المسرح، الموسيقي، التشكيل) أي أنها ولدت في حضن الفنون الأخرى، واللافت في الأمر أن السينما فن إبداعي. وليس نقلا للواقع كما يعتقد البعض، إنها تكوين إبداعي ينبني على الواقعي والتخييلي. الشيء الذي يضع هذا الفن موضوعا للمتعة الجمالية. سيتخذ الباحث شريط الحياة الجميلة لمخرجه روبرتو بنيني لإظهار البعد التخييلي والواقعي فيه. إن الحديث عن الجميل يفترض جدلا، الحديث عن نقيضه. ذلك أن الأول يلزم الثاني. فكانط تحدث عن هذا الأمر بعمق كبير، وهو لذلك يستدعي فيلما /أفلاما لأجرأة أسئلته التي حدد بها موضوعه الجميل في السينما. عبد اللطيف محفوظ: الجميل في الفيلم الوثائقي بذكاء رجل منشغل بالعلامات وتحليل الخطاب قام بتغيير وقلب زاوية نظر المشاهد والقارئ معا. ذلك أنه طيلة الاستماع إلى المداخلات السابقة، والتي انشغلت على الفيلم السينمائي.إلا أن الأستاذ محفوظ وضع الفيلم الوثائقي سؤالا جماليا. هذا التحوير والتحويل هو ما جعل المداخلة الأخيرة لافتة ومقلقة حتى وإن زمنها محدود، ربما لأن المتدخل لم يكن محظوظا هذه المرة. انطلق الأستاذ محفوظ من تحديد أولي في السينما، بين الفيلم السينمائي والوثائقي، هذا الأخير الذي لا يخلو من جمالية مدهشة، فمخرج الفيلم الوثائقي لا يعني أنه يبقى أمينا بشكل مطلق للحكاية الواقعية التي يسرد، وإنما يفضل زوايا نظر معينة على الموضوع يقترحها علينا كمشاهدين. إن المقارنة بين السينمائي و الوثائقي لا تعكس سوى اللهاث نحو التراتبية والأفضلية، وهذا أمر غير مستساغ عند الباحث، وكأن المقارنة ضياع المعنى والجميل معا، ذلك أن قيمة الفيلم الوثائقي تتمثل في بعده الجمالي وليس في بعده التوثيقي الذي يعلنه. يبدو هذا المنطلق مدخلا رئيسا لقراءة هذه الأفلام، وكذلك خلخلة المواضعات التي ربي بها المشاهد، ولبيان ذلك تناول الباحث السيميائي فيلم LE SEL DE LA TERRE بالتحليل، وخلص إلى أن الجميل ليس مجرد رضا خال من المنفعة كما يقول كانط، لكن هو بالأساس فكرة تتحول إلى محسوس بتعبير هيغل. هذا الجمع بين الجانب الفكري والنظري والمحسوس البصري هو ما يجعل السينما والأفلام الوثائقية فنا يستحق أن يكون محط متابعة نقدية وفكرية تغير وجهة النظر الاستهلاكية إلى وجهة نظر ذوقية وجمالية.