استضاف نادي التواصل السينمائي بمدينة برشيد المخرج حكيم بلعباس، إبن مدينة أبي الجعد الروحية، وذلك في إطار ندوة نقدية حول ((الفيلم الوثائقي بين الواقعي والجمالي: تجربة حكيم بلعباس نموذجا، من خلال فيلمه: أشلاء،2009 ومحاولة فاشلة لتعريف الحب2012)).وهي الندوة التي احتضنتها قاعة الاجتماعات بالمعهد العالي للإعلاميات والتجارة والتسيير، مساء يوم السبت 25 ماي 2013، وتابعها جمهور نوعي لايستهان به من عشاق الفن السابع. وقد استهلها الإعلامي التهامي حبشي، بورقة/أرضية للتفكير ركز فيها بالأساس على طرح ثلاثة أسئلة مركزية للنقاش في تيمة الفيلم الوثائقي.. وعلاقته بسينما حكيم بلعباس، وهي: لماذا الفيلم الوثائقي؟، لماذا الواقعي والجمالي؟، ثم لماذا تجربة حكيم بلعباس؟...معتبرا أن أقدمية الفيلم الوثائقي وتحولاته عبر الزمان والمكان، وطبيعته التي تجعله يغترف مادته من الواقع..، تجعله مهددا دوما بمنزلق الانحدار من جمالية الفن السينمائي، إلى ضحالة التقرير أو التحقيق الصحفي الجاف أو الروبورتاج التلفزي الاستطلاعي...، ذلك أن الفيلم الوثائقي هو مقاربة سينمائية، فنية وجمالية للواقع المعيش، دون السقوط في التقريرية الإخبارية أو البداهة النمطية التلفزيونية..والمخرج الوثائقي هو أولا مبدع سينمائي وليس مجرد صانع لأفلام توثيقية استهلاكية، إخبارية ومركنتيلية ليس إلا. وبعد أن لاحظ بأن المجتمع المغربي، لا زال في أمس الحاجة إلى هذا النوع الفيلمي المهمش في الساحة السينمائية المغربية، والمطمور في أفئدة ومخيلات وإبداعات جيل جديد من المخرجين السينمائيين المغاربة...، أكد على أن مشاهدة فيلم وثائقي تطرح دوما مفهوم الواقع ومفاهيم أخرى مجاورة له، كالواقعية والحقيقة، والموضوعية والصدقية والذاتية...، ذلك أن كل فيلم وثائقي هو أيضا وجهة نظر ذاتية، لأنه شكل سينيماتوغرافي يعالج الواقع انطلاقا من نظرة ومتخيل مخرج معين، بمعنى أن ما نتلقاه عن طريق الفيلم الوثائقي ليس هو الواقع ذاته وإنما هو خطاب حول الواقع، غالبا ما يكون موضوع تأويلات متعددة لاحقة بالواقع من طرف المتلقين له..ومن هنا تلك العلاقة المركبة والمتشابكة بين الواقع والمتخيل..والتي تخلق كيمياء سينمائية خاصة بهذا الجنس الفيلمي المزيج بين الواقعي والخيالي.. الذي يجعل من أي فصل بين الوثائقي والتخييلي، مجرد تمييز تعسفي أو فصل ميكانيكي قد يكون إجرائيا ليس إلا ، مستدلا في هذا الإطار بقولة لجون جاك كودار:((..دعونا نضع بعض النقط على الحروف..إن الأفلام الروائية الكبرى تميل نحو أفلام وثائقية، كما أن الأفلام الوثائقية الكبرى تميل حتما نحو الخيال. ومن اختار أحدهما بقوة يلتقي بالضرورة بالآخر في منتصف الطريق)). أما عن جمالية الفيلم الوثائقي، فقد ردها المتدخل إلى تلك الدراما الحية في الواقع التي تميز الوثائقي، والتي يمتحها المخرج من قوة التناقضات والصراعات الحادة، والمدارات والرهانات المذهلة المعاشة بشكل واضح وشفاف..غير الخاضعة للترتيب أو التوضيب أو التقطيع القبلي المبالغ فيه، كما في سيناريوهات ومونتاجات الأفلام الروائية الدرامية الطويلة..إن دراما وجمالية الفيلم الوثائقي تكمن في ما يسميه ((جريرسون)) بذلك الأسلوب السمفوني المتناغم، الذي يتمكن فيه المخرج من بناء مشاهد ممتعة، تتألف من مجموعة من اللقطات المفردة والمتواليات الواقعية والعادية، على وتر إيقاع متغير بين السرعة والبطء، وفق تتابع وجداني خاص يكثف الإحساس بالحركة والزمن..وهذا ما يجذب اهتمام الأعين ويؤثر في الأذهان، بنفس الطريقة التي يؤثر فيها قرع الطبول أو الاستعراض العسكري...في الأفلام الروائية الكلاسيكية المبنية على السرد التعاقبي التقليدي...كما أن، الفيلم الوثائقي السينمائي طبعا، وإن كان يعتمد في الأداء على شخوص أو شهود المكان الذي يجري فيه، فإنه مع ذلك غالبا ما نجده يتجاوز عرض حالاته الشخصية والمحلية، إلى مستوى حالات وجودية شمولية، تمنحه السمة الإنسانية والكونية، كبعد أساسي في تلمس جمالية وجودة العمل الفني أو الإبداعي عموما. ذلك أن العالمي أو الكوني يبدأ من المحلي، ومن تلك التفاصيل أو الشذرات الصغيرة للمعيش اليومي في حياة الناس ووجودهم. وجوابا عن سؤال: لماذا سينما حكيم بلعباس؟. قال الأخ التهامي حبشي إن هذا المخرج المغربي الشاب مفرد بصيغة الجمع، إنه واحد من ثلة معدودة على رؤوس الأصابع، من المخرجين المغاربة الجدد الذين يلجون اليوم، وبصعوبة الساحة السينمائية الوطنية بمنتوجات فيلمية رائدة، عصية عن التصنيف وحتى القراءة الفيلمية.. من طينة: علي الصافي (صاحب فيلم ورزازات موفي)، وعلي بنكيران، ورشيد القاسمي، وفؤاد بلالي، ومراد بوسيف، ودليل الناضر، ودنيا النيوف (مخرجة فيلم الهورناتشيروس. وهي من مدينة برشيد)...جيل جديد من المخرجين السينمائيين يمتلكون تصورا نظريا وتقنيا، لمعالجة الواقع، وفق رؤية فنية مبدعة، دون ادعاء امتلاك الحقيقة، ودون التخنذق/ التصنيف في قالب معين، ودون التوجس من سؤال: أين يبدأ الواقع وأين ينتهي التخييل في الفيلم السينمائي؟...حيث أن الحقيقة تبدو مطروحة في ملتقى الطرق بين الوثائقي والروائي، بين الواقعي والخيالي، بين الحقيقة والوهم، بين الواقع والحلم..كما يقول إدغار موران في مؤلفه ((السينما أو الإنسان المخيالي))..وحيث أن الفيلم الوثائقي لا يمكنه الانفلات من قبضة الخيال ومن المزاوجة أو المراوحة بين الموضوعية والذاتية، كما يرى جيل دولوز في كتابه ((الصورة الزمن)). وأضاف حبشي أن الحديث عن الوثائقي، كجنس فيلمي مهمش ومنسي، هو حديث عن تجربة حكيم بلعباس صاحب سينما الهامش والمنسي أو اللامرئي والمطمور...إنه حديث عن أسئلة جيل مهووس بخلخلة الأنساق السينمائية الكلاسيكية (السيناريو، البناء الدرامي التصاعدي...)، جيل مهووس بخلخلة الأشياء والفضاءات، والترسبات على مستوى القيم والذوات، وعلى مستوى سجلات الذاكرة والهوية والتاريخ الفردي/الجماعي، الشخصي والشمولي، المحلي والكوني...إن أفلام بلعباس (وخاصة فيلميه أشلاء محاولة فاشلة لتعريف الحب) رحلات فنية أو أسفار للذات المبدعة، التي تريد أن توثق اللحظة الهاربة أو المنفلتة، وأن تؤرخ لعنف الحقيقة المعاشة، من خلال الوثائقي البيوغرافي الذي يتقاطع داخله الفردي بالجماعي والشخصي بالشمولي والكوني...من أجل صنع ((سينما الحقيقة))، أو سينما الاختلاف أو سينما اللامرئي..وبالجملة: خلق سينما عن طريق المطرقة والسندان، كما فعل الفيلسوف المتمرد فريديريك نيتشه في ثورته على الأنساق الفلسفية الكلاسيكية...إن بلعباس يلتقط أشلاءه وشظاياه من رحلته الوجودية من أجل الفن، مع مرض الأب وفقر الواقع وألم الذوات الهامشية...ليقول حكيم حكمه وشذراته السينمائية، وهو يتسلق الجبال بكاميراه المحمولة دوما على أكتافه..كما قال نيتشه شذرات فلسفته البليغة على لسان زرادشت...(اصعد الجبل وهناك شيد مدائنك على فوهة بركان)...وكما يفعل شعراء الهايكو الياباني، حين يطلقون ومضات وتوقيعات أشعارهم القصيرة جدا والمكثفة كثيرا بقليل من الكلمات والشذرات وكثير من الدلالات والإيحاءات. وخلص الإعلامي التهامي حبشي إلى طرح شبكة متداخلة من الأسئلة البؤرية لمقاربة التجربة السينمائية لحكيم بلعباس من أهمها: كيف يمكن أن تكون موضوعات محن الناس، وبؤس العالم، واغترابات الوجود، وترهل الإنسان وتحلل الجسد...موضوعات للوثائقي أو لهجنة الجنس الفيلمي، دون السقوط في النمطية الجافة أوالتبسيطية الجوفاء؟ كيف يمكن إخراج الحي من الميت، أي الجمال من الإهمال والابتذال؟ كيف يمكن إخراج الحسن من القبيح؟ واللطيف من العنيف؟ والعذب من العذاب؟ والأمل من الألم؟...كيف يمكن كل ذلك، من خلال الصورة والسينما، التي هي كتابة بالضوء على حد تعبير حكيم بلعباس؟. كيف يشتغل حكيم على الوثيقة وعلى الواقع؟ كيف ينطلق من الواقع نحو الواقعية، أي نحو بناء خطاب فني بصري، فوتوغرافي تشكيلي وسينمائي، عن الواقع؟ هل يمكن الحديث عن خصائص مميزة في البناء الدرامي لأفلام حكيم بلعباس؟...بناء درامي عادي وعميق يكثف اللقطة المقربة جدا، من أجل النفاذ إلى الذات المتلقية، ليحرك فينا سيرورات التماهي والإسقاط، والتعاطف الوجداني والتجاذب العاطفي، من خلال القدرة على دغدغة المشاعر أو العواطف على وتر المتناقضات:الموت/الحياة الفقر/الغنى القبيح،الجميل المترهل/اليانع القرح،الفرح الألم/الأمل...؟ أين يمكننا تلمس جماليات المهمل والمتلاشي، والتعبيرية الخلاقة للمونتاج، وبلاغة الأداء العفوي، والبساطة المخادعة المبنية على التعقيد العميق وعنف تفاصيل المعاش اليومي؟. ما هي حدود الواقعي والخيالي في أفلام حكيم بلعباس؟ كيف يدبر حكيم تلك ((اللعبة الماكرة)) التي تخلق ذاك التماس المتوتر بين الواقع والمتخيل، في أفلام ما فتئت تثير الجدل على صعيد التلقي والاستقبال النقدي؟ ماذا عن أهمية السيناريو أو السينوبسيس من عدمهما في الإعداد للفيلم الوثائقي؟ ماذا عن الشخوص الفعلية من الشخصيات الممثلة في أفلامه؟ ما هي خصائص الفضاء والزمن في لقطات وشذرات ومتواليات حكيم بلعباس؟..تلك أسئلة غيض من فيض، نريد أن نتقاسمها مع جمهور الفن السابع بالمدينة، بحضور المخرج حكيم بلعباس والناقدين السينمائيين حمادي كيروم وبوشتى فرقزايد، في هذا اللقاء الفريد بمدينة برشيد. الأستاذ الباحث بوشتى فرقزايد، الكاتب العام للجمعية المغرية لنقاد السينما، والأستاذ بجامعة مولاي سليمان ببني ملال، ركز في بداية مداخلته على عتبة العنوان كمفتاح لقراءة فيلم محاولة فاشلة لتعريف الحب 2012، معتبرا أن قوة العنوان توجد في شطره الثاني (تعريف الحب)، وإن تسبب شطره الأول (محاولة فاشلة) في إخراج عدد من المقاربات الفاشلة لمحاولة فاشلة..، ملاحظا في هذا الصدد أن أفلام حكيم بلعباس، هي دوما محاولات للبحث عن الأفضل والأجمل..ذلك الجميل الذي يكمن في المهمش في الثقافة الشعبية المغربية العميقة والمركبة.. فسينما بلعباس تشتغل على الذاكرة الجمعية والشعبية، والتي همشت من طرف الثقافة الرسمية والعالمة...مثلما نجد في محاولة فاشلة...حيث تحيلنا تيمة الحب على أساطير مغربية ضاربة في عمق التاريخ، كأسطورة (إيفري وإيطو) بمنطقة تازة و(إيسلي وتيسليت) بمنطقة إملشيل... إلا أن ما يميز تيمة العشق في أفلامه هو تلك الدرجة القصوى التي يصبح فيها الخطاب نفسه عاشقا، كما في مؤلف (شذرات خطاب عاشق) للناقد الفرنسي رولاند بارث..يبدو ذلك في فيلم بلعباس، من خلال تيمات التضحية الموعد المعاناة الانتظار..إنه فيلم ينطلق من المحلي نحو الكوني، عندما يلتقي مع أساطير كونية في العشق، كحكاية روميو وجوليت مثلا. وفي هذا الربط للسينما بالأسطورة، بحث عن الزمن الميثولوجي السرمدي، أي عن الحقيقة البدائية الغابرة والكامنة وراء بنيات وأساليب الحكاية أو الخرافة، كما تناولها الشكلانيون الروس، وعلى رأسهم فلاديمير بروب. لقد وظف بلعباس تقنياته الحديثة (السيارة، الكاميرا...) كركائز أساسية للسفر المضني، من أجل البحث عن أسطورة تيسلي وتيسليت... (ففي لقطة أولى من الفيلم، يبدو أن هناك تناصا بين حكيم بلعباس والمخرج الإيراني عباس كروستامي) في البحث عن هوية السينما نفسها كسحر أسطوري حديث، من خلال البحث عن الخفي أو اللامرئي، حيث تبدو السيارة في الإطار متحركة فوق الجبال والسينما حركة ومساحات الزجاج الأمامية تتناوب على إزالة الضباب أو الرذاذ (عوائق طبيعية ونفسية وفكرية)، من أجل توضيح الرؤية التي تبدو جد صعبة في توضيح الأفق: أفق المنطقة، والفكرة لكشف الحجاب عن المطمور الجغرافي والمعرفي في الحكاية...والحكاية التي اعتمدها بلعباس في ((..في تعريف الحب.))، حكاية بسيطة، اعتمدها سينمائيا كذريعة للكشف عن أشياء أخرى...من خلال تقنية الاستجواب المباشر: سؤال/جواب مع أهالي المنطقة...وتنضاف إلى هذه القراءة الشعبية، قراءة أخرى عالمة، نجدها داخل الفيلم من خلال الأستاذ الجامعي الذي يشرح جيولوجيا (علميا؟) كيف تشكلت بحيرتي إيسلي وتيسليت...وهكذا تتناسل وتتبادل البؤر الواقعية والخيالية، ليدخل بنا بلعباس في فيلمه الرئيس حول الأسطورة، إلى أفلام/تيمات حب أخرى محايثة ومتضمنة: قصة حمزة وزينب..وقصة محمد وعائشة..وقصة المرأة العجوز مع زوجها..كل هذا في إطار تصوير مهيمن على مشاهد من منطقة إملشيل الجبلية، من خلال شخوص وأماكن تدخل في إطار الإهمال والنسيان.كيف قدم بلعباس حكايته الفيلمية؟ يجيبنا الناقد فرقزايد: اعتمد حكيم تقنية الشذرة (هناك 27 شذرة في فيلم ...تعريف الحب) التي تأخذ شكل لقطات، أو بالأحرى متواليات مكثفة، كل متوالية يمكن قراءتها على حدة: (دموع الأجيال الخرق غضب لقاء ...) لقطات مكبرة جدا ، تجعلنا نطرح السؤال: هل المشهد يتدخل حقا في المخرج بشكل طبيعي وتلقائي؟. وهو ما يحيلنا على الميزة أو السمة الجمالية عند بلعباس..تلك السمة التي تكمن في قوة التقاطه للتفاصيل المهملة، وقدرته الخارقة على جعل المبتذل مهما والقبيح جميلا...حيث الاشتغال على الأشياء البسيطة والمتلاشية والمهمة (شطابة، إبريق، حذاء مهمل...) وتحويلها إلى أشياء ذات قيمة مضافة. كما أن ما يميز سينما بلعباس هو شعرية الفضاء والشخوص والأشياء..،حيث نجد التركيز على الفضاءات، من خلال لقطات في شكل لوحات تشكيلية حركية، موقعة بانسجام، بدون كلام ولا موسيقى ...لقطات تبتدأ وتنتهي وفق إيقاع زمني مناسب...مما يجعل سينما حكيم تتميز بمسحة جمالية رائقة، تمتح من الفن التشكيلي..أضف إلى ذلك اشتغال هذا المخرج على الشخوص، من خلال تقنية البورتريه، مما يضفي قيمة مضافة على الوجود الإنساني للكائنات البشرية في أفلامه...والملاحظ أيضا، هو اشتغاله على العناصر الكوسمولوجية المكونة للعالم (شعرية العناصرالأربعة للوجود عند غاستون باشلار): الماء والهواء والنار والتراب...حيث لماء المطر والبحيرة والعيون/الدموع..، وظيفة تطهيرية للشخوص المثخنة بالضيم والعشق (حمزة سيغطس سبع مرات في ماء البحيرة، وزينب ستغتسل بماء عين العزبات...، فيما سيتطهر محمد من خلال النار عندما سيحرق ملابسه احتجاجا على جفاء عائشة.. أما الناقد حمادي كيروم، عضو الجمعية المغربية لنقاد السينما والأستاذ الجامعي بكلية إبن مسيك بالدار البيضاء، فقد انطلق في قراءته للنضج الفني لحكيم بلعباس كما تبلور في أفلامه (عش في القيظ همسات أشلاء...) من خلال مقارنة أعماله بأعمال المخرج الروسي طاركوفسكي، وخاصة في فيلم الرائد ((المرآة)) التي تحضر أيضا في فيلم أشلاء في حوارالمخرج مع أبيه حول الهجرة والعمل والفقر والفن...، واعتبر كيروم أن تجربة بلعباس لا زالت في طور المحاولة والتأسيس، ناعتا عمله الفني بهذا (اللامكتمل الفني) الذي يبقى هو نبراس وغاية الأثر الفني الأزلي والأبدي..، .مشبها حكيم بقناص ماهر للصور واللقطات، إنه بمثابة ((لقاط)) بذلك المفهوم الشعبي الروحي الذي نجده في الثقافة الدينية التنسكية والصوفية، كما في تربية الزاوية (الشرقاوية)..حيث يقول الشرفاء الكرماء: إذا ما حصدت حقلا، فاترك بعضا من سنابله لأصحاب الحاجة ولعابري السبيل...إن بلعباس في فعله هذا ك(لقاط صور) ينطلق من فعل توجس أسطوري، من أجل حفظ كرامته: كرامة العيش كإنسان وكفنان..، وبالتالي نراه يتحرك، نفسيا وفنيا، بين نور النهار حيث شرعية الالتقاط، وغسق الليل حيث قد يتحول الالتقاط إلى فعل آخر.. قد يدخل في إطار القانون الجنائي...وقد لاحظ كيروم أن بلعباس يشتغل على ما يسمى ب ((البدائي)) كأصل وجودي لآدم وحواء..أي على زمن ما قبل الخطيئة الكبرى..وكأنه يرى بأن العالم قد اغتصب، فيسعى إلى رتق الجرح لإعادة البكارة أو العذرية لهذا العالم حتى نعيش فيه من جديد..وهو بذلك يريد أن يعيد للعالم نضارته من خلال الفن..ويريد أن يعيد للسينما المغربية عذريتها وبراءتها في الرؤية إلى العالم. وميز كيروم في سينما بلعباس، بين ما سماه بالصورة الاستعارية والصورة الطبائعية، حيث تبدو الأولى حاضرة في الفضاءات والأمكنة، للبحث عن العمق في الحياة والوجود كما في فيلم (همسات) مع الممثل محمد مجد والفرس...بينما تتجلى الصورة الثانية عندما يقترب المخرج من وجوه وملامح الناس، حيث يحضر العمق الإنساني بقوة...وهو ما يعني أن السينما هي فن الدواخل أو الأعماق، من خلال التركيز على بعد الزمن وعلاقته بالشخوص والأمكنة، التي يمكن اعتبارها أوعية حاملة للزمن ولسؤال الوجود: الموت/الحياة...وهذا ما يجعلنا، مع أفلام بلعباس، نتجاوز التصنيف القديم للوثائقي والتخييلي...حينما نعي مع الفيلسوفين برجسون ودولوز أهمية زمن السينما كزمن للديمومة...حيث تستغرق فينا اللقطة طويلا، نفسيا وفنيا..وهذا هو قمة الجمالي الذي يجعلنا نقف في الفراغ ونتأمل..في الأثر وفي الحياة، وفي الجمال، والحال والمآل..وفي هذا الزمن السينمائي يظهر الخطاب البصري الذي يحول صور الحقيقة العيانية إلى حقيقة بصرية تظهر ذلك اللامرئي، أي تخلق الشيء من اللاشيء...وهنا يضيف كيروم يتدخل المعنى، بحيث أن العلاقة بين البصري واللامرئي هي ما ينتج المعنى، بحيث نبتهج ونحس بأن الفيلم الذي أنجز في أبي الجعد أحبه الجميع، لأنه خلق ما يسمى بالتعاطف أو الانفعال، وهنا يغدو الجميل موحدا، فالجميل دوما لا يفرق بل يوحد الكون. ولاحظ كيروم أيضا، أن سينما بلعباس تركز على الشكل، بحيث يصبح الشكل هو المحتوى، عندما يفرغ المخرج الأشياء والشخوص من اعتياديتها، ليخلق فيها الحياة والحركة، وبالتالي فهو يخلق سينيماه انطلاقا من مبدأ الخرق أو الانزياح عن الواقع العادي..وهو ما يضفي على أعماله جمالية شاعرية خاصة شبيهة بجمالية شذرات شعر الهايكو الياباني..حيث الشعر خيانة للغة، مستشهدا بمقطع من شعر محمود درويش الذي أنشد : ((قال له انظر إلى القمر/فلم ير إلا أصبعه)). إن سينما بلعباس مهووسة بالرصد، كما يفعل طاركوفسكي في سينماه. وهو رصد يتقن التلاعب بالألوان، مع حضور قوي للون الأبيض (الفجر، المقابر، الأضرحة..) كدلالة على إيقاع الروح والتنسك...كإيقاع ديني إسلامي، يحيل عل الاستقامة والتقوى، التي تحفظ الإنسان من التدفق في هيولى الزمن الأبدي ...رصد للواقع من خلال صور متواترة مرتبة وإيحائية، تخلق التحاور لا التجاور..ومن خلال لقطات مشبعة بأشياء كثيرة مكثفة..وفي الكلية الشمولية للفيلم هناك سيولة فيلمية عارمة، من خلال مطرقة الإيقاع وفنية المونتاج، وكأن بلعباس يعيد تركيب أركيولوجيا الزمن، كما يفعل نيتشه في الفكر الفلسفي من خلال شذراته وحكمه القوية والصادمة..ففي لقطة المرآة مع أبيه، نجد حكيم يقوم بعملية تعرية وتغطية طوبوزمنية تتأسس وتقرأ بشكل عمودي، من خلال لعبة أو جدلية الغياب والحضور، فالصورة هنا شعرية واستعارية، تحليلنا على الماضي والحال والمآل/المستقبل..كما تحيلنا على وضعية قلقة وحائرة لجيل ثقافي وسياسي بأكمله (علاقة الأب بالمستقبل المهني لإبنه وعلاقة الأب/الشيخ بالمصير المجهول لإبنه السياسي..). ووصولا إلى الفرس لا مربط الفرس، تحدث المخرج حكيم بلعباس قليلا وعميقا، وبكثير من التواضع العارف، في هذه الندوة، طارحا سؤال عمق الصلة بين الأجيال، من خلال تساؤله عن الجدوى من صورأفلامه، وخاصة منها فيلمه ( أشلاء)...قائلا في هذا الصدد: إن ما يقوم مجرد ((خربقات)) مطروحة للمشاهدة والمناقشة ...إنها خربشات ناتجة عن حالات انخطاف روحية لإنسان ((ملبوس)) بفعل شيء ما يسعى إلى توليد أو إنتاج المعنى من خلال تفاعلية التلقي والمشاركة... مضيفا بأنه اعتاد على تلقي الصفعات ((الطرش)) تلو الصفعات، في كل اللقاءات والمنتديات والمهرجانات...تلك الصفعات الإيجابية من منظوره، لأنها توقظه من سبات البديهي والعادي، مما يدفعه دوما إلى مسائلة وخلخلة الجاهز والمألوف في ثقافته ومعرفته، وخاصة منها الثقافة السينمائية نفسها...مستغربا ومتسائلا في هذا الصدد: بأي حق يطلب مني أن ألقي درسا في السينما؟؟؟. معبرا عن رضاه عن تصنيفه كمجرد مخرج متعلم دوما...متمنيا لو كان نجارا يتقن حرفته ويضمن قوته في رضا عن الذات وعن الآخر/المجتمع...وهي كلها أسئلة حارقة ومواقف مؤرقة بخصوص وضعية الفنان/الفن عموما والفن السابع خصوصا في البلدان النامية... التهامي حبشي/نائب الكاتب العام والمكلف بالإعلام والاتصال بنادي التواصل السينمائي ببرشيد