رغم وجود اختلاف في إعطاء تعريف محدد لمفهوم الدولة المدنية ، إلا انه من الناحية المبدئية هناك تعاريف أكاديمية عديدة ، نقترح من بينها التعريف التالي : " الدولة المدنية هي الدولة التي لا يحكمها لا رجال أو علماء دين ، ولا رجال جيش ، فهي المقابلة للحكومة الدينية التيوقراطية ، وهي دولة المواطنة ( كما حددها جان راولز ) ، و سيادة القانون . فلا يكون فيها التمييز بين المواطنين بسبب الدين ، اللغة ، او العرق ، اللون ، الاختلاف الاديولوجي او السياسي ، فهي الضامنة لحقوق الإنسان و الحريات ، و احترام التعددية ، و تكون فيها فصل للسلطات ..." باختصار هي دولة المؤسسات ... فالمتأمل في توالي الأحداث السياسية بعد اندلاع الانتفاضات العربية ، خاصة في حالتي تونس ومصر ، مع وجود خصوصية للحالة المغربية ، سيلاحظ أن ابرز التحديات المطروحة على الدولة المدنية تبلورت في خضم مرحلتين : مرحلة وصول الإسلاميين إلى السلطة الذي ترتب عنها ظهور مشروعين مجتمعين متناقضين ، مشروع إسلامي هوياتي / مشروع علماني حداتي . ومرحلة ما بعد حكم الإسلاميين ، و التي أفرزت بدورها تناقض بين مشروع العسكر ومصالحه الإستراتيجية ، وتصور القوى المضادة لطبيعة الدولة وهويتها . في أدبيات العلوم السياسية لا يوجد مصطلح اسمه " الدولة المدنية " ، فقط هناك مفهوم الدولة state » « ، التي تعني في الاصطلاح السياسي " مجموعة من الأفراد يقطنون بصفة دائمة إقليما معينا ، و يتمتعون بالشخصية المعنوية ، تحث نظام حكم ما له سيادة ". أما مفهوم "مدنية " فهو يدل على نمط الحياة في المدينة ، و التي تكون غالبا مرادفة للحضارة و العمران بالمعنى "الخلدوني" ، أي ضد البداوة ، و المناقضة تماما لمفاهيم : " الدينية ، العسكرية ، الطائفية ...". حسب المؤرخين تعود الجذور التاريخية لمفهوم الدولة المدنية إلى ما يعرف ب " صحيفة المدينة " ، وهي وثيقة أعدها النبي محمد بعد قدومه إلى المدينة ، و التي جاءت بمضامين : المساواة بين كل ساكني المدينة – الإقرار بالمسؤولية – تحقيق الأمن و الاستقرار – ضمان حرية المعتقد لغير المسلمين . وفي نفس سياق التقعيد النظري لهذا المفهوم ( الدولة المدنية ) ، أنتج الفكر السياسي الغربي مجموعة من الأطروحات النظرية التي وضعت أسس هذه الدولة : بدءا من " مكيافيلي " التي نزع المطلق التيولوجي عن الممارسة السياسية ، مرورا "ببودان و هوبز" اللذان بدورهما اخرجا منطق السلطة من قيود اللاهوت ، ووصولا بأبرز منظري الدولة المدنية "جون لوك " الذي قال في " رسالة التسامح " : " .... ينبغي التمييز بوضوح بين مهام الحكم المدني ، وبين الدين ، و تأسيس الحدود الفاصلة بينهما ..." فما هي الدولة المدنية ؟ وما هي شروط تأسيسها ؟ وما هي ابرز التحديات المطروحة عليها بعد الانتفاضات العربية ؟ رغم وجود اختلاف في إعطاء تعريف محدد لمفهوم الدولة المدنية ، هذا الاختلاف طبعا يعود إلى تناقض التموقعات الاديولوجية و السياسية لمختلف القوى السياسية و المجتمعية ، إلا انه من الناحية المبدئية هناك تعاريف أكاديمية تحاول نزع هذا الاختلاف مظهرة الحياد بين هذه الأطراف ، نقترح من بينها التعريف التالي : " الدولة المدنية هي الدولة التي لا يحكمها لا رجال أو علماء دين ، ولا رجال جيش ، فهي المقابلة للحكومة الدينية التيوقراطية ، وهي دولة المواطنة ( كما حددها جان راولز ) ، و سيادة القانون . فلا يكون فيها التمييز بين المواطنين بسبب الدين ، اللغة ، او العرق ، اللون ، الاختلاف الاديولوجي او السياسي ، فهي الضامنة لحقوق الإنسان و الحريات ، و احترام التعددية ، و تكون فيها فصل للسلطات ..." باختصار هي دولة الجميع . ولفهم الدولة المدنية و شروط تأسيسها ، و التحديات المطروحة عليها في سياق الانتفاضات العربية ، ينبغي الرجوع الى التطورات التي شهدتها الدولة العربية في مراحل - قبل و أثناء و بعد – ا لحملات الاستعمارية التي تعرضت لها هذه الأخيرة . ففي المرحلة الأولى كان الطابع الديني للدولة حاضرا بقوة ، رغم وجود بعض التقاطعات الايجابية بين الدولة الدينية و الدولة المدنية ، خصوصا فيما يتعلق بحقوق الإنسان و العدالة الاجتماعية ، و ضمان هامش من الحريات كحرية المعتقد للنصارى و اليهود...رغم وجود تعارض في مفاهيم أخرى كالديمقراطية و العلمانية . فهذا النمط من الدول العربية أفرزته دوافع سوسيولوجية لطبيعة تكون المجتمعات العربية تاريخيا . وبعد دخول القوى الاستعمارية لم تغير من ملامح الدولة العربية شيئا ، سوى أنها احتفظت و كرست " التقليدانية " و طوعتها كشرعية خدمت استراتيجيها الاستعمارية ، بل حاربت حتى التحديث والإصلاح الذي كان قد يفضي إلى التمهيد لوضع أسس الدولة المدنية . ففي هذه المرحلة كثر النقاش عن شكل الدولة العربية و محاولات تقويضها ، بل أكثر من ذلك تجاوز النقاش إلى ماهية هذه الدولة ، خصوصا بعد أن نجح "اتاتورك " بتأسيس أول نظام علماني من خلال الإصلاحات السياسية التي أقدم عليها سنة 1927. أما بعد موجة الاستقلالات ، و المخاض التي عاشته هذه الدول من خلال الانقلابات العسكرية تم تبني أنظمة حكم مدنية ، علمانية ، لكنها مخالفة تماما للإطار ألمفاهيمي و النظري الصحيح كما جاء به منظرو الدولة المدنية . وبالرغم من كل هذه التطورات ، لم يحسم النقاش حول طبيعة الدولة العربية ، إلا بعد اندلاع الانتفاضات العربية الأخيرة ، و التي أعادت إلى الساحة الأكاديمية و السياسية نقاش الدولة المدنية و تحدياتها ، بل تطورت الأمور بعد المخاض الذي عرفه هذا الحراك ، و انتقل هذا النقاش من نقاش يؤسس لطبيعة الدولة العربية و ماهيتها ووظيفتها الى الهوية التي ستقوم على أساسها ، خاصة بعد بدأ ظهور مؤشرات أبانت عن فوز القوى الإسلامية في الانتخابات ( تونس ومصر) . لتتبدد المخاوف القوى الأخرى ( ليبراليين- اشتراكيين -أقباط ) بعد الإعلان الرسمي لفوز حركات الإسلام السياسي ، بشأن استثارهم بالسلطة ومصادراتهم لمرتكزات الدولة المدنية خاصة في مجال الحريات . إن المتأمل في توالي الأحداث السياسية خاصة في حالتي تونس ومصر ، مع وجود خصوصية للحالة المغربية ، سيلاحظ أن ابرز التحديات المطروحة على الدولة المدنية تبلورت في خضم مرحلتين : مرحلة وصول الإسلاميين إلى السلطة الذي ترتب عنها ظهور مشروعين مجتمعين متناقضين ، مشروع إسلامي هوياتي / مشروع علماني حداتي . ومرحلة ما بعد الإسلاميين ، و التي أفرزت بدورها تناقض بين مشروع العسكر ومصالحه الإستراتيجية ، وتصور القوى المضادة لطبيعة الدولة وهويتها . - مرحلة حكم الإسلاميين : بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة حاولوا ملائمة مشروعهم السياسي بمرتكزات الدولة المدنية ، لتفادي الاصطدام بالحركات الاجتماعية ، خاصة النقابات العمالية التي تحمل المرجعية العلمانية . ففي الحالة التونسية أظهرت حركة النهضة توجهها المعتدل ، وذلك بموافقتها على عدم تنصيص الدستور على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع ، مع تحفظها على تبني الفلسفة العلمانية بحذافيرها على دولة تونس تحث مبرر الخصوصية . وفي نفس السياق أكد " الغنوشي " في المؤتمر الذي نظمه مركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات بالدوحة في 2011 ، تحث عنوان " الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي " : " أن حركة النهضة لا تسعى إلى قيام دولة إسلامية ، و أن حزبه لا يشكل خطرا على الدولة المدنية ..." لكن هذا الخطاب اعتبرته القوى العلمانية مجرد " تكتيك سياسي " في أفق توفر الشروط لرسم معالم دولة دينية ، و تقويض مساعي الدولة المدنية ، وقد زكت هذه القوى صحة فرضيتها ببعض المؤشرات : كتضمن مذكرة حركة النهضة بشأن تصوراتها للدستور عبارة " المرأة هي مكمل للرجل " وليست متساوية معه في الحقوق ، لتكون بذلك قد ضربت بعرض الحائط جميع المكتسبات التي حققتها الدولة التونسية في هذا المجال منذ الفترة " البورقيبية " .إضافة إلى تضارب الأنباء بشأن الاجتماع السري الذي عقده "الغنوشي" و قادة السلفيين ... ونفس الشيء لوحظ أيضا في مصر ، فبمجرد وصول الإخوان الى السلطة ، استأثروا بها و أقصوا باقي الفاعلين ، وبدأ ظهور مؤشرات تنم على عودة مقولة " الإسلام هو الحل " ، مما أثار مخاوف المكونات الأخرى خاصة الأقباط و الاشتراكين الذين اعتبروا أن هناك مساعي لتقويض الدولة المدنية في مصر . وقد اتضح هذا النهج " الاخواني " خاصة بعد رفضهم لمضمون الوثيقة التي أصدرها شيخ الأزهر بمعية مكونات أخرى ( ليبراليين – اشتراكين – أقباط ...) و المتعلقة بمستقبل نظام الحكم في مصر ، و التي جاء فيها : " الحكم في مصر نظام دستوري ديمقراطي تعددي ، و دين الدولة هو الإسلام ...وان نظام الحكم هو نظام مدني "، ليكون مبرر رفضهم ( الإخوان ) إقحام عبارة " نظام مدني " . أما في النموذج المغربي ، فيبدوا الوضع مختلفا تماما ، نظرا لطبيعة و استراتيجيات النظام السياسي المغربي ، فدستوريا يتحكم العاهل المغربي في اغلب دواليب ممارسة السلطة في المملكة ( السلطة التشريعية ، التنفيذية ، القضائية ....) . وحتى خارج الشرعية الدستورية ، والإطار القانوني بشكل عام ، يستفرد بالمرجعية الدينية من خلال " إمارة المؤمنين " ، هذه الشرعية الدينية التاريخية ، جعلت السلطة السياسية توقف حركات الإسلامي السياسي المعارضة ( العدل والإحسان ) التي يمكنها ان تناور و تعبئ الجماهير تحت غطاء الدين ، و لتجعل بعضها أيضا ( التوحيد و الإصلاح ) مما يعرف باعتدالها تستمر في ممارستها للعمل السياسي في النسق الرسمي ، و دون الخروج عن الإطار المرسوم ، و المحدد لها سلفا .اضافة الى نهجها استراتيجية " الاحتواء و الضم " للحركة السلفية ، والتي لوحظ ان مجموعة من قياديها التحقت الى أحزاب سياسية كحزب النهضة و الفضيلة . فهذا الوضع السياسي القائم المتجلي في تحكم أعلى سلطة في البلاد في اغلب الاستراتيجيات السياسية ، جعل احتمال تقويض الدولة المدنية ، و رسم معالم و أسس لدولة دينية مستبعدا جدا ... مرحلة ما بعد حكم الإسلاميين : بعد أن تضافرت عوامل داخلية و خارجية و أسقطت حكم الإسلاميين في العالم العربي ، وبعد أن زال خطر الإسلاميين الذين سعوا إلى تقويض الدولة المدنية ، وإحلال مشروعهم السياسي بتبنيهم تكتيكات متنوعة ، ظهر تحدي أخر لا يقل خطرا من حكم الإسلاميين على الدولة المدنية ، إنها " الجيوش العربية " . ففي مصر أقدم الجيش المصري على تنفيذ انقلاب عسكري على حكم الإخوان ، وفرض منطق ما يعرف في الدراسات العسكرية ب " العسكريتارية " على الوضع السياسي و المدني ، بعد أن تولى المجلس العسكري الحكم ، ونصب نفسه كبديل للشرعية الشعبية ، منطلقا من مسلمة يؤمن بها مفادها " انه هو المؤسس للدولة المصرية الحديثة ". وقد ساعده على هذا تغلغلة في البنية المجتمعية لمصر ، إضافة انه يعتبر طرف قوي في الاقتصاد ، يملك منشات و مصانع لا تخضع للمراقبة . فهذا التحكم للجيش ، وفرض أجنداته السياسية ، وقدرته على قلب موازين في أي لحطة ، هو ضرب في حد ذاته لمنطق تأسيس الدولة المدنية المناقضة تماما للدولة العسكرية. وفي تونس لم يكن وقع الجيش على التطورات السياسية بنفس درجة الحالة المصرية ، بحيث و رغم لعبه دورا مركزيا في الانتفاضة التونسية ، عاد الى ثكناته العسكرية ، و بقي بعيدا عن ممارسة السياسية ، مكتفيا بحماية الأراضي التونسية ، و مكافحة الإرهاب ... ليغيب بذلك اي مشروع سياسي ، او استراتيجيات "عسكسياسية "، يمكنها ضرب الدولة المدنية من هذا الجانب ( العسكري ) . أما في المغرب فهو يختلف أيضا في هذا الجانب على النموذجين التونسي و المصري ، فمنذ الانقلابين الذي عرفهما هذا البلد سنوات السبعينات ، تم إلغاء وزارة الدفاع ، و تعويضها بما سمي ب إدارة الدفاع الوطني ، لتصبح القيادة العسكرية للجيش منذ تلك الفترة للعاهل المغربي ، ليكون بذلك قد تم إغلاق كل المنافذ التي كان من المحتمل أن تؤدي الى تحكم بعض الجنرالات في السلطة ، و فرض منطق دولة العسكر . فصفوة القول أن خوض تحديات الدولة المدنية ، والسير قدما نحو وضع أرضية لتأسيسها ، رهين بتوافق كل الأطراف المعنية ( الجيش – الإسلاميين – العلمانيين ) عبر البحث عن نقاط الالتقاء و استثمارها ، ومحاولة تجاوز نقاط الاختلاف عبر قراءات نقدية مسئولة . *باحث في العلوم السياسية / جامعة محمد الخامس السويسي الرباط [email protected]