مناقشة في المفاهيم و المضامين تقديم : تعرف الشعوب العربية و المغاربية ثورات سياسية من أجل إسقاط الأنظمة الديكتاتورية الكارثية التي أدخلت شعوبنا في مسارات من التخلف و الرجعية و القمع و الإستغلال قل نظيره ، و استعملت في ذلك إيديولجيات خليطة و هجينة دنيوية و دينية ، و هندست لأليات السيطرة باسم " الوطنية " و مقاومة العدو الخارجي ، و باسم الدين الاسلامي الذي لا يقبل بالوافد من " الثقافات الغربية الفاسدة و مفاهيمها كالديمقراطية و حقوق الانسان و العلمانية و الاشتراكية و الشيوعية و المساواة بين الجنسين..." الغريبة عن أصالتنا !!! و باسم القومية الميتافيزيقية التي تقدم الوحدة على تحرير الإنسان و الاقتصاد و إقرار الديمقراطية و العدالة الاجتماعية ، فتم قمع المعارضين و تم تخوينهم بمسميات متعددة ، و تم ملأ السجون بألاف المعتقلين السياسيين و معتنقي الفكر و الرأي ، و تم منع تنظيمات المجتمع المدني و الحريات العامة أو في أحسن الأحوال حصارها بالقمع و المضايقة و لا يزال و تساوت في ذلك الملكيات و الجمهوريات ، و لما هبت الثورات العربية في تونس و مصر و اليمن و سوريا و ليبيا ، لاحظنا استعمالا مكثفا للدين في السياسة من طرف الأنظمة الديكتاتورية و رموزها التي فضحت الثورات كاريكاتوريتها المبكية و المحزنة و المضحكة في أن واحد و ذلك بهدف الحفاظ على الأوضاع القائمة بالتكفير و اتهام بالإرهاب و احتقار لا مثيل له للحق في الحياة و للكائن الانساني و استعمال منهجي للبلطجة فيك ل هذه الدول ، و في نفس الوقت تم استعمال فزاعة الاسلاميين للضغط على الغرب الرأسمالي لكي يتفهم القمع المسلط على الشعوب من جهة و لترهيب الشعوب من جهة اخرى . و رأينا إبان الثورة التونسية و المصرية و اليمنية و السورية و في المغرب جدلا من داخل الثورة و الثوار حول طبيعة الدولة المنشودة التي تطمح إليها الشعوب ، و نظرا للتركيبة السياسية و الإيديولوجية المتنوعة للثورات تم إستعمال مفهوم " الدولة المدنية " بدون تحديد أو تدقيق ملازم ، و لكن يفهم من طرح مفهوم " الدولة المدنية " و إبعاد مفهوم " الدولة الاسلامية " بإعتبارها دولة دينية ، و مفهوم " الدولة العلمانية " لضبابية المفهوم عند بعض الرأي العام و تجنبا للإلتباسات التي ألحقت به من طرف الخطاب الرجعي منذ سنين كاختيار توفيقي قد يحل المشكلة للحفاظ على وحدة مكونات الثورة و للسماح للنقاش السلس أن يحل الخلافات الجزئية . فما هي أوجه الاختلاف بين المفاهيم الثلاث ، و ما هي العناصر المكونة لكل مفهوم ، و كيف يمكن التأسيس لأحد هذه المفاهيم بارتباط مع تطلعات الشعوب الثورية نحو الديمقراطية و حقوق الانسان . 1- مفهوم الدولة الدينية : نقصد بالدولة الدينية - كل دولة تعتمد الدين في مرجعيتها التشريعية : فهي لا تقبل خارج الدين كمرجعية تشريعية للدولة ، و حتى في حالة أخذها و إقتباسها من القوانين و التشريعات الوضعية و العلمانية فإن هذا الاقتباس و الأخذ يأتي في المرتبة الثانية و عند الضرورات نظرا لغياب أو ضعف النصوص و القوانين الدينية التأسيسية أو عدم ملائمة اجتهادات فقهاء العصور الوسطى مع متطلبات التي فرضتها الأنظمة الحديثة و خاصة في ميدان الاقتصاد و العمران و العلم و غيره . أما في ميدان الحريات و الحقوق و الأحوال الشخصية الفردية و الجماعية فإن الدولة الدينية شأنها شأن كل دولة شمولية تميل إلى تنميط الناس من خلال فرض السلوك الديني و القوانين الدينية و اللباس الديني و العقوبات الدينية ، كما تركز هذه الأنظمة على قداسة السلطة سواء أكانت قداسة الحاكم الفرد " أمير المؤمنين " و ما يصاحب هذه القداسة من فروض الطاعة التي تجيد الاصوليات الدولتية في تبريرها بالنصوص الدينية " القطعية " من صحيح الدين ، أو قداسة المؤسسة الدينية و قراراتها و أحكامها : مؤسسة الفقهاء " أهل الحل و العقد " مؤسسة " الملالي " في إيران ، مؤسسات للفتوى " المجالس العليا للإفتاء " . - معاداتها للحقوق و الحريات الفردية و الجماعية و إعتبارها مصدر الفتنة . - تناقضها كليا أو جزئيا مع منظومة حقوق الانسان الكونية . - رفضها بل تجريمها لحرية المعتقد - رفضها المساواة بين الجنسين - دمجها بين الفضاء العام و الفضاء الخاص : مفهوم الحسبة و التدخل في حياة الناس الشخصية. و تستوي في هذا الإطار كل المرجعيات الدولتية الدينية الإسلامية في العصور الوسطى و في العصر الحديث و المسيحية في العصور الوسطى ، على عكس إدعاءات بعض الكتاب الأصوليين في اختلاف المرجعيتين : فالمرجعية واحدة و إن اختلفت التفاصيل . - غياب حياد الدولة اتجاه العقائد و الاديان و المذاهب... و الدولة الدينية بما هي كذلك فهي مرادفة للإستبداد و لمصادرة الحريات و نقيض للديمقراطية و المواطنة ، و يمكن التمييز في الدولة الدينية بين دولة دينية ثيوقراطية صلبة ( حكم طالبان والسعودية و إيران نموذجا ) و دولة دينية ثيوقراطية مرنة ( كالمغرب...) و لكن هذه الدول تجتمع في تحكيم الدين في الشأن السياسي " المغرب دولة إسلامية...إمارة المؤمنين... البيعة...الراعي و الرعية...قدسية الحاكم الصريحة أو الضمنية..." 2- مفهوم الدولة العلمانية أو الدولة اللائكية : رغم إختلاف التجارب التاريخية التي سعت إلى إعادة ترتيب السلط بين الدولة و المؤسسات الدينية لضمان الحريات بما فيها حرية المعتقد في البلدان الأوروبية و غير الاروبية فإن اختلاف هذه التجارب هو اختلاف في السياق التاريخي و شروط التأسيس و ليس إختلافا في المضامين ، فالدولة التي تنازلت فيها المؤسسة الدينية عن سلطتها الكلية أو الجزئية وفق منطق التوافق (concordat) و إعادة توزيع السلط ، عرفت ما نسميه بعلمانية مرنة ، و بين الدول التي لم تتنازل المؤسسة الدينية و السلطة الاقطاعية عن سلطتها إلا بالقوة وفق صراع تناحري مع الطبقة البورجوازية الصاعدة و التقدمية إنذاك فإن هذه الدول عرفت علمانية صلبة لا تسمح بتاتا للدين بالتدخل في المجال العمومي . كما أن هناك بعض العلمانيات التي فرضت من فرق من طرف الدولة كعملية يعقوبية للبناء الحداثي . و هكذا نجد التجربة الفرنسية تختلف في التفاصيل عن التجربة البريطانية أو الإسبانية أو التركية او الهندية او المكسيكية أو اليابانية أو الروسية ،،، لكنها كلها تقوم على نفس المبادئ المؤسسة للعلمانية : - فصل الدين عن الدولة و فصل الدين عن السياسية . - ضمان حرية المعتقد ، و إعلانه و ممارسته في العلانية سواء أكان أصحاب المعتقد أغلبية أم اقلية ، و القدرة على تغيير المعتقد بدون أن يجرم ذلك القانون أو الثقافة المتشبعة بالحقوق . - المواطنة الكاملة بما يعنيه من مساواة و حرية وفق المعايير الديمقراطية و الحقوقية المتعارف عليها كونيا. - تربية مجتمعية تقوم على التسامح العقدي و على قبول الأخر المختلف و احترام معتقداته و طقوسه ، و محاربة التستر و النفاق المجتمعي و السكيزوفرينيا التاريخية التي طبعت سلوك الاشخاص و الجماعات . - المساواة بين الجنسين في الحقوق بدون تحفظ إعمالا للمرجعية الحقوقية الكونية . - الفصل بين المجال / الفضاء العام المشترك ، والمجال/ الفضاء الخاص للأشخاص - تعليم عمومي علماني يدرس تاريخ الأديان و القيم بمناهج علمية بعيدا عن الشحن الإيديولوجي الذي يكرس الاستسلام و الخضوع و الطاعة ، و يثبط القدرة الابداعية للفرد و المجتمع . 3- مفهوم الدولة المدنية : لا وجود في علم السياسة أو في الفقه الدستوري لمفهوم الدولة المدنية ، كما لا يوجد مصطلح مقابل في هذا الباب في اللغات الغير العربية ، ويمكن أن نجد متقابلات للمفهوم كدولة الحق و القانون مثلاL'état de droit . و يستعمل الكتاب المسلمون مفهوم الدولة المدنية كبديل عن الدولة العلمانية لأنه يحتوي على تخفيف لفظي مقبول في الذهنية العامة العربية الاسلامية خصوصا و أن مصطلح العلمانية تعرض لإستثمار مالي و إيديولوجي عدائي من طرف أنظمة الطفرة النفطية و فقهاء الذهب الأسود ( الوهابية و مستنسخاتها) طيلة قرن من الزمن تقريبا كضربة استباقية لوضع سد أمام إمكانية جعلها على جدول أعمال النضالات الشعبية ، و كتابات مأجورة لمسخ المفهوم في الذهنية العربية الاسلامية و تحريمه و تجريمه حتى تسود الدولة الدينية و من خلالها تتأبد السيطرة على البلاد و المعادن و الطاقة من خلال السيطرة على أذهان الناس و ضمائرها و التحكم الإيديولوجي في حميميتهم ، و حتى يطمئن الناس لهذه السيطرة المقدمة على اساس أنها من الدين " طاعة أولي الأمر من طاعة الله...." فماذا تعني الدولة المدنية و ما هي اوجه الإختلاف بينها و بين مفهوم الدولة العلمانية : يرتكز مفهوم الدولة المدنية على ما يلي من الأسس و المعايير التي تسنده : - أن الدولة تعتمد على القوانين الوضعية التي يتعارف و يتعاقد المجتمع على انها في مصلحته . - تعتمد الدولة المدنية على المساوة التامة بين المواطنين و المواطنات بدون تمييز على أساس الدين أو المعتقد بما فيها ضمان حرية تغيير الدين و المعتقد و حرية إشهار و إعلان ممارسة المعتقدات في الفضاء العام . - تعتمد الدولة المدنية على المساواة بين الجنسين بدون تحفظ إعتمادا على مبادئ عدم التمييز الكونية المنصوص عليها في اتفاقية سيداو ( إتفاقية مناهضة كافة اشكال التمييز ضد المرأة) - الدولة المدنية تعتمد على دستور تأسيسي تعاقدي ، و على أجهزة حكم ديمقراطية مدنية منتخبة و ليست عسكرية . - لا تسمح الدولة المدنية بسلطة رجال الدين أو الفقهاء أو الملالي على المجال السياسي و هي تعتمد عادة مبدأ " الدين لله و الوطن للجميع ". إذن إذا أخدنا هذه المعايير التي لا يمكن تجزيئها سنتسائل لماذا يستعمل بعض الكتاب و بعض التيارات الاسلامية و القومية مصطلح الدولة المدنية بدل الدولة العلمانية ، و ما هو السر وراء هذا التخفي الإصطلاحي . يمكن تفسير ذلك إضافة إلى ما قلته أعلاه من كون مصطلح العلمانية تعرض لهجومات تشويهية كثيرة لمضامينه ،بأن بعض القوى الاسلامية أدركت على أن الشعوب و إن كانت متدينة فإنها ترفض الدولة الدينية و تقبل بالدولة المدنية ، و كرس هذه الرؤية العديد من المثقفين الاسلاميين التنويريين الذين دافعوا عن الدولة المدنية و عن حرية العقيدة ، لكن بعض التيارات الاسلامية و خصوصا في مصر لم تتبنى مصطلح الدولة المدنية إلا للتمويه و إفراغه من مضمونه الحقيقي المحدد في المعايير المذكورة سالفا ، بتخريجات و شطحات مفاهيمية و أفكار ملتبسة لا تأسيس نظري لها مثل القول بأن المدنية من المدينةالمنورة !!! أو أن الدولة المدنية يمكن أن تكون بمرجعية إسلامية ( دينية)!!! و هي من المفاهيم الغريبة الغير مأصلة و الغير العلمية. 4- إعادة تركيب : عود على بدء : تتميز الدولة المغربية بكونها دولة دينية غير ديمقراطية تعتمد على المقدس التاريخي و السلطوي و الديني لتابيد سيطرتها على الشعب . لكن المجتمع المغربي الذي قاوم المقدس السلطوي في العديد من المحطات أصبح أكثر عنفوانا منذ نشاة حركة 20 فبراير ، و بدأ المجتمع يتخلص من ضغوطات المقدس و يطلب الحريات و فتح لنفسه شعارات تحيل السلطة على الشعب ، و القدسية على الله ... و في المقابل استمرت القوى الأصولية الرسمية في تحريك أقلامها و فقهائها لتبرير استمرارية البيعة و طقوسها و قدسيتها و في الدفاع على الدستور الممنوح او في التهجم على حركة 20 فبراير ، كما لجأت السلطة إلى إخراج الزاوية البوتشيشية من خلوتها الصوفية إلى الحقل السياسي بالدعوة للتصويت بنعم على الدستور " البودشيشي يقول نعم للدستور " و ذلك رغم كون الدولة نفسها و وزارة الأوقاف كانت تشجع التصوف البوتشيشي بدعوى أنه تصوف " نقي" غير مسيس في محاربة التصوف المسيس ، كما وظفت الدولة المساجد بقوة خلال الاستفتاء على الدستور... أمام هذه الوقائع و غيرها كثير فإن المسألة الدينية و علاقة الدين بالدولة ستبقى مطروحة على قوى التغيير في المغرب كما طرحت في المشرق ، و سيبقى ما يجري في ميدان التحرير في مصر و في الساحة التونسية و المصرية و غيرها من نقاشات لموضوعة الدولة المدنية ما يفرض علينا ، و نحن في غمرة النضال الشعبي من أجل الديمقراطية و مواجهة الاستبداد و من اجل إقرار مجتمع الكرامة والديمقراطية و العدالة الأجتماعية أن نعطي لهذه المعاني المضامين الحقيقية التي تؤكد حملنا لمشروع مجتمعي له المناعة الكافية لعدم إعادة إنتاج الاستبداد : يد وحدة من أجل الدولة الديمقراطية المدنية ( أو الديمقراطية العلمانية إن شأت ) .