قد تتعدد المداخل التي كانت مساهمة في نجاح النموذج التركي بقيادة حزب العدالة والتنمية ، فهناك المدخل الاقتصادي وهناك المدخل السياسي والمدخل الديمقراطي ، لكن ثمة مدخل مهم كانت له قوته في حسم النجاح الذي تحقق للنموذج التركي واعني به مدخل الإدارة الجيدة للحوار بين النخبة السياسية ذات الخلفية الإسلامية و النخبة العلمانية بتلويناته اليسارية والقومية ، فقد أحسن الطرفان فن التدافع بينهما وحسما المعركة في اتجاه توسيع هامش الحريات وإقرار دولة الحقوق ، وبناء الصرح الديمقراطي وخلق التنمية الاقتصادية ، والرقي بالبلد نحو مصاف الدول النموذجية اقتصاديا وسياسيا . وقطعا لم يكن هذا الحوار وليد اللحظة بل جاء نتيجة سيرورة من الاعتراف المتبادل والاشتغال المتبادل وكذا أيضا من اقتراب كل طرف نحو الآخر بدل قراءته عبر وسائط غير آمنة في تقديم كل طرف . في هذا المقال نحاول تسليط الضوء على مسار الحوار بين هذين التيارين ومكاسبه و نتائجه وامكانية استفادة النموذج المغربي منه -1- مرحلة الحوار بين التيار الإسلامي والتيار العلماني عقب تأسيس الجمهورية التركية واجهت النخبة الكمالية ثلاث اشكالات : + الإشكال الأول : إيجاد هوية وطنية مناسبة للتربة التركية ذات الجذور الإسلامية + الإشكال الثاني : تحديد بناء سياسي يتفق وينسجم مع الهوية المقترحة . + الإشكال الثالث : حل مسألة التحديث ، والمضي بتركيا نحو اللحاق بركب المنظومة الغربية. عملت النخبة الكمالية على إعادة تشكيل الهوية التركية على أن تكون مصاغة في قالب " تركيا الأناضولية" ، وتمت صياغة البناء السياسي على الأساس الجمهوري ، وتبنت أو التزمت عملية التحديث وجعلتها خيارا بالنسبة لعامة النخبة التي حسمت صراع الأقاليم لصالح المؤسسة العسكرية والبيقراطيين ، كما حسمت صراع الأقاليم في بعدها الهيكلي لصالح المركز وان كان ذلك بثمن باهض جدا تمثل في القمع الشديد لكل تطلع انفصالي خاصة في المناطق الكردية." لقد ورثت النخبة العسكرية والبيروقراطية الحاكمة نمطا من التسيير والتنظيم يرجع إلى الحقبة العثمانية غير أنها أعادت إنتاج هذا النمط في شكل أيديولوجي حديث ، ولعل ذلك ما جعل نخبة الدولة تميل نحو المفهوم "الرأس " للديمقراطية باعتبارها مسألة خاصة بالمسؤولية السياسية ، وليس بالضرورة تعنى بالمشاركة السياسية ، وكان هذا هو مفهوم الحكومات العسكرية الثلاث التي حكمت تركيا منذ الحرب العالمية الثانية عن الديمقراطية ، وفي كل حالة انحراف عن هذا المفهوم كان العسكر يتدخل لضبط الديمقراطية لتكون أكثر انسجاما مع مفهومها السالف التحديد ، ثم يعود سريعا الى التكنات . سيختلف الأمر مع إقرار نظام التعددية حيث سيحصل اصطدام بين "نخبة الدولة" وتوجهات "نخبة السياسة" التي ارتبطت بنوع من العلاقة مع الجماعات الاجتماعية ، فلاقت ترحيبا من لدن الفئات وبعض النخب والشرائح الاجتماعية . وقد اعتبرت نخبة السياسة والتي تألفت من النواب المنتخبين نفسها ممثلة للشعب ، وأكدت بصورة واضحة على المفهوم الأفقي للديمقراطية بوصفها مشاركة سياسية ، وهكذا أصبحنا أمام عنصرين حاسمين في البنية السياسية والدستورية للدولة التركية الحديثة : - العنصر الأول يتكون من المؤسسة العسكرية والتي لها منظور خاص في بناء الدولة والذي تكرس عبر أحكام قانونية . - العنصر الثاني : الدولاني ETATISM الذي يحول دون بروز أي نوع من التمايز الوظيفي داخل النظام السياسي بين الخاص والعام. وقد ثم حسم الصراع في البداية لصالح نخبة الدولة التي اعتبرت نفسها " الوصية" على التقاليد العلمانية. لكن الأمر سوف يأخذ مسار آخر ، ذلك أنه مع إقرار نظام التعددية ستشهد الساحة السياسية التركية انفتاحا سياسيا في اتجاه مختلف القوى داخل المجتمع ،ويتعلق الأمر بقوى اليسار الراديكالي وقوى التيار الإسلامي ، وبالنسبة لهذا الأخير الذي استفاد من هذا الإقرار سيعلو نجمه خصوصا مع نهاية الستينات وبداية السبعينات وستتبلور داخله نخبة سياسية إسلامية سوف لا تكتفي بالمطالبة بالحق في المشاركة في العملية السياسية بل تجاوزتها بالمطالبة بالحق في تقسيم السلطة ذاتها ، وهذا ما مكن من وجود تهديد حقيقي لنخبة الدولة التي عمدت الى حشد جل الوسائل لتقويض بنيان النخبة الجديدة من خلال سياسة تجفيف منابعها والتضييق عليها . وقد حصل في البداية تواطئ غير معلن بين نخبة الدولة ونخبة السياسة في مواجهة المكون الجديد، ولم تكن هذه المواجهة برغم ما صاحبها من سياسات تجفيف المنابع وحل الأحزاب و إعلان حالة الطورائ في البلاد أكثر من مرة سوى مؤشرا على رغبة طائفة من نخبة الدولة الإبقاء على المفهوم القديم للديمقراطية ، وهو المفهوم الذي لم يعد يجد سنده مع إقرار نظام التعددية السياسية.وقد رفضته الأطراف السياسية داخل التيار الاسلامي كما رفضته اطراف معتبرة داخل التيار العلماني . وكان هذا الرفض المشترك بين التيارين بداية الانفتاح والتقارب بين التيارين الإسلامي والعلماني داخل تركيا من خلال إجراء حوار ديمقراطي ، شكل منذ ذلك الحين بداية الاعتراف بشرعية كل طرف في الوجود العلني ثقافيا وسياسيا . ومع هذا الاعتراف حدثت عملية إعادة تكييف في البنية الايديولوجية والسياسية لكل خطاب تجاوزت مرحلة القطيعة مع مجمل الأساليب الاستئصالية ، وقد اتضحت تجليات هذا الاعتراف في الائتلافيات الحكومية التي أبرمها كل طرف مع الآخر من ذلك الائتلاف الحكومي الذي عقده حزب السلامة الوطني مع الحزب الديمقراطي في مرحلة السبعينات والذي توج بحكومة كانت حصة حزب السلامة الوطني بزعامة مهندسه نجم الدين أربكان رحمة الله عليه حوالي سبعة عشر وزارة ، ومن ذلك أيضا الائتلاف الحكومي لسنة 1996 الذي عقده حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان مع حزب الطريق القويم وهو حزب علماني يميني كانت ترأسه آنئذ تانتسو تشيلر، وأخيرا نموذج العدالة والتنمية الذي يضم نخبة من العلمانيين والقوميين تشرف على مؤسسات وإدارات جد حساسة داخل الدولة التركية . -2- مستويات في تغير خطاب التيار الإسلامي لقد وضعت مجموع التحالفات بين الأحزاب السياسية ذات الخلفية الإسلامية والأحزاب العلمانية والقومية واليسارية من خلال النماذج التي سبق ذكرها ليس فقط قيودا على البرامج الانتخابية للطرفين بل كذلك شكلت تمردا واضحا على مجموعة من المفاهيم التقليدية التي كانت تتبناها الغالبية الساحقة من أعضاء التيارين ، وقد جاءت تجربة حزب العدالة والتنمية الأخيرة لتؤكد بالملموس على نجاعة توسيع منظار الرؤية والإبصار في تنزيل بعض التصورات والمفاهيم بقدر من الواقعية وتجنب المثالية الحالمة. أضيف لهذا الأمر تغير على مستوى الخطاب ، ولعلنا نلمس هذا الأمر تحديدا في الشعارات التي كان يرفعها زعيم التجربة السياسية الإسلامية البروفوسور نجم الدين أربكان رحمه الله ، فقد كان الى وقت قريب يؤكد في حملاته الانتخابية على جملة من القضايا والمواقف من ذلك تأكيده على ضرورة تمزيق تركيا للاتفاق الجمركي مع أوروبا ، عدم اعترافه بتحالف بلاده مع إسرائيل ، معارضته الشديدة لأي تنازل للجبهة العلمانية سواء العسكرية أو المدنية .. مواقفه المتشددة اتجاه بعض القضايا ذات الحساسية الإسلامية كقضية الحجاب ..موقفه من طريقة معالجة الأزمة الاقتصادية.. عقب تجربة حزب الرفاه القصيرة في الحكومة الائتلافية مع حزب الطريق القويم سنة 1996 واجهاضها بعد أقل من سنة من تكونها عبر الانقلاب العسكري الأبيض - والذي لم يكن في نظري إلا نكوصا من نخبة الدولة على مسار التقارب والاعتراف الذي بدا بين التيار العلماني والتيار الإسلامي . وحينما أذكر نخبة الدولة فاني أقصد بذلك نخبة علمانية تمترست داخل مؤسسات مدنية وعسكرية - قلت عقب هذه الفترة بدأت مناقشات عميقة داخل التجربة السياسية ذات الخلفية الاسلامية اتجهت منحى ضرورة إعادة النظر في طريقة إدارة الصراع السياسي من خلال توسيع هامش الانفتاح على الأطراف الأخرى داخل الساحة السياسية ، ونحو إعادة ترتيب كثير من الأوليات ، ونحو التخفيف من حدة الخطاب السياسي ، ونحو إعادة جدولة المعارك داخل الساحة السياسية ، المهم حدث نقاش عميق داخل هذه التجربة السياسية وقد تزعم هذا النقاش جيل من الأطر الشابة توج مسيرته بتأسيس التجربة الجديدة وهي حزب "العدالة والتنمية". صحيح هناك مجموعة من الاكراهات والتضييقات اسهمت في بروز هذا التحول ، لكن في نفس الوقت أؤكد أن هناك شيئا آخر كان له حضوره البارز ، وهو التقارب الواضح الذي تزايد في المدة الأخيرة بين أطراف داخل التيار العلماني وأطراف مقابلة لها داخل التيار الإسلامي . و اعتبر أن هذا الأمر شكل طورا آخر من أطوار الاعتراف المتبادل بين التيارين تجسد في تجربة حزب العدالة والتنمية الحالي الذي بفضل ما حازته قياداته الحالية من مرونة سياسية معتبرة ، ومن حنكة سياسية مقدرة استطاع أن يمنح التجربة الديمقراطية التركية نفسا ديمقراطيا جديدا. والحزب بالرغم من كون غالبية أعضائه هم كوادر قديمة في التجربة السياسية ذات الخلفية الاسلامية فهو أيضا يضم في صفوفه حاليا أطر وكفاءات منتمية الى الصف العلماني وأخرى منتمية للتيار الليبرالي واخرى منتمية للتيار القومي. وهذا لعمري من الاسباب التي أدت الى نجاح النموذج الديمقراطي التركي الحالي . -3- مستويات في تغير خطاب التيار العلماني عبرت أصوات عدد غير قليل من المتشددين في التيار العلماني والقومي والليبرالي عن قلقها جراء النمو المطرد للتيار الإسلامي ووصوله الى سدة الحكم في ظل التجربتين: تجربة حزب الرفاه مع زعيمها نجم الدين أربكان الذي توج كأول زعيم إسلامي يصل الى سدة الحكم في دولة علمانية ، وتجربة حزب العدالة والتنمية التي ما تزال تقود الحكومة التركية الحالية برئاسة زعيم الحزب رجب طيب اردوغان. وترى النخبة العلمانية ومعها أيضا طائفة من اليسار المتشدد ان صعود التنظيم السياسي الإسلامي في الآونة الأخيرة هدد الأسس الديمقراطية والعلمانية التي يرتكز عليها النظام السياسي التركي، ولم تغفر هذه النخبة المتشددة من العلمانيين للتجربة السياسية ذات الخلفية الإسلامية سواء في حقبتها الأربكانية أو الأردوغانية التزامها الظاهر والعلني بقواعد اللعبة الديمقراطية وتأكيدها على تمسكها بالعلمانية التي اعتبروها الكفيلة بضمان الحرية الدينية ، فزعماء هذا الاتجاه يرون أن التزام التنظيم السياسي ذو الخلفية الإسلامية ورفعه لشعار الديمقراطية ما هي إلا تكتيكات سياسية فرضها عليه الوضع السياسي الراهن ، وهو سيتنصل من كل الالتزامات اذا ما أصبح له نفوذ أقوى وشعبية أكبر في النظام والمجتمع التركي . من هذا المنطلق تعتقد الفئة العلمانية المتشددة أن التيار الإسلامي بمختلف تلاوينه ينبغي أن يحاصر بكل الوسائل وإلا سيزداد راديكالية مع ازدياد شعبويته مستغلا الفضاء الديمقراطي وفضاء الحريات التي تكفلها الديمقراطية التركية . والحاصل أن كثيرا ما يحدث تناغم بين هذه الفئة ومثيلتها داخل المؤسسة العسكرية فتفرز في أحايين كثيرة موجة من التضييق لم يحد من استمرارها و تغولها إلا عاملين أساسيين : العامل الأول : وهو عامل خارجي ، ونقصد به ملاحظات المنتظم الدولي والجمعيات الحقوقية وبخاصة ملاحظات الاتحاد الأوروبي الذي كثيرا ما عابوا على الساسة الأتراك تجاوزاتهم في مجال الحريات وحقوق الإنسان . والعامل الثاني: وهو عامل داخلي وهو هام أيضا ونقصد به الرأي العام الداخلي من المجتمع التركي وجمعيات المجتمع المدني ، فداخل هذا الرأي ينتصب اتجاه من العلمانيين يتسم تصورهم بالاعتدال والاتزان ، ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن صعود نجم التيار الإسلامي بزعامة جناحه السياسي ، ونجاحه تجربته السياسية لا يعد بالضرورة تحديا للعلمانية ولا للديمقراطية في تركيا . ويرى هذا الاتجاه أيضا أن الديمقراطية والعلمانية بمفهومها الليبرالي الذي سمح بالتعددية والاختلاف داخل اطار متفق عليه قد توطدتا و ترسختا على مدى نصف قرن في المجتمع والنظام السياسي التركي ، فالديمقراطية أصبحت صيغة سياسية مقبولة من طرف جميع الفرقاء السياسيين اسلامييهم وعلمانييهم و يسارييهم ويمينييهم ، كما أن نصف قرن من العمل الديمقراطي قد أدى إلى نشوء ثقافة ديمقراطية داخل مجتمع مدني نشيط ، يعتنق ويدافع هو بنفسه عن الديمقراطية والحريات التي يكفلها له نظامه السياسي. من زاوية أخرى ترى هذه الفئة من المعتدلين العلمانيين ان النظام السياسي التركي قد نجح الى حد كبير في إدماج التيار الإسلامي في اللعبة الديمقراطية ، وفتح له قنوات العمل السياسي وحرية التعبير والترويج لبرنامجه عبر وسائل الإعلام المسموح بها ، وأدى إدماج الإسلام السياسي في العمل الديمقراطي وتواجده داخل دوائر الحكم وصنع القرار وتعرفه عن قرب على المشاكل والقضايا التي تواجه المجتمع التركي الى كبح وتهدئة منهجه وخطابه السياسي ، فازدادت التجربة السياسية لهذا التيار اعتدالا ، وأصبح بكل هدوء جزء من النسيج السياسي يعمل على تحقيق أهدافه داخل الإطار الديمقراطي التعددي . وهكذا نقول بأن تواجد التجربة السياسية ذات الخلفية الاسلامية داخل المعترك السياسي التركي ساهم حسب الفئة المعتدلة من التيار العلماني في تحقيق الانسياب الهادئ للتيار الإسلامي ومشاركته الطبيعية في الحياة السياسية ، وانطلاقا من هدفه المشروع كان له الحق بأن تكون لديه وجهات نظر في مجموعة من المبادئ والقضايا التي تعتمل داخل الساحة التركية من ذلك وجهة نظره في مبدأ العلمانية إذ يرى أصحاب هذه التجربة أن مفهوم العلمانية الذي صاغه كمال أتاتورك وما تزال فئة متعصبة من العلمانيين تتبناه لحد الساعة ينبغي أن يطاله قدر من التغيير ، فالعلمانية حسب هذه الفئة من العلمانيين تعني فصل الدين عن الدولة وإخضاع الدين ومؤسساته لسلطة الدولة بينما تحاول النخبة الإسلامية المؤطرة في التجربة السياسية أن تبتعد بالدين وتنأى به أن يكون تحت سيطرة الدولة وتكفل له استقلالا معينا ، وهذا ما يحقق تحولا في مفهوم العلمانية داخل تركيا من علمانية ديكتاتورية وقسرية يخضع فيها الدين لسلطان الدولة الى علمانية حقيقية تكفل مزاولة الدين والحريات الدينية للجميع. ويرى العلمانيون المعتدلون أن تواجد النخبة الاسلامية السياسية وجهودها لتغيير مفهوم العلمانية ، وتوسيع هامش الحريات الدينية قد أثرى بلا شك الحقل السياسي والحياة السياسية التركية ، كما مكن من جعل الديمقراطية التركية ديمقراطية ليبرالية حقة تسمح بالتباين والاختلاف في اطار تعددي حر ونزيه. وينظر هؤلاء أن تدخلات الجيش والمؤسسة العسكرية السابقة في الحياة السياسية التركية على أنها كانت تشكل اعتداءا صريحا وواضحا على مسار الديمقراطية ، وإضعافا لها. وطبقا للعلمانيين المعتدلين فان احتواء التيار الإسلامي وضمان التزامه بالمبادئ التي يرتكز عليها النظام السياسي التركي لا يتحقق بالأسلوب الذي كان ينهجه الجيش قبل أن يلزم حدوده في المدة الأخيرة ولا النخبة العلمانية المشددة ، فتلك السياسات حقا تقصي التيار الإسلامي لفترات عن العمل السياسي وتحجم من وجوده ، لكنه يعود بعد ذلك اكثر صلابة وقوة. ويعتبر العلمانيون المعتدلون أن المعسكر العلماني واليساري ينبغي أن يبلور أسلوبا جديدا لا يكمن في التآمر على النخبة السياسية ذات الخلفية الإسلامية ، بل يكمن في استرداد الكتلة الشعبية ، واستردادها يبتدئ بمراجعة عميقة ونقد ذاتي حقيقي ، و إعادة ترتيب للأوليات حسب مقتضيات المرحلة. -4- خلاصات واستنتاجات من حوار التيارين 1- تبين بالملموس للطرفين أو للتيارين الإسلامي والعلماني داخل المجتمع التركي بأن الصراع التاريخي الطويل حول مسالة الهوية هو صراع مستنزف لطاقات الطرفين ، ومقدرات الكيانين ، ومهما طال فلن يزيد الطرفان إلا انكسارا وضعفا . فالطرفان معا توصلا الى شبه اتفاق غير معلن أن معركة الهوية ليست بالمعركة التي تحسم إبان فترات معينة بقدر ما تحتاج سنوات بل حقبا ومن تم انصرفوا بمعركة الصراع نحو تأهيل مجتمعهم اقتصاديا واجتماعيا ، لا أعني بهذا الكلام أن معركة الهوية سواء في أوروبا أو في تركيا قد حسمت نهائيا بقدر ما أقول انه بعد أشواط من المعارك المستنزفة حول هذه المسالة تبين بالملموس أنها معركة يمكن الاستعاضة عنها بمعارك أخرى اكثر مردودية وإنتاجية. 2-حدث تحول ملحوظ في التجربة الديمقراطية التركية ، وهكذا نجد أن طبعتها التسعيناتية وبداية الألفية الثالثة قد أفرزت أنواعا جيدة وأدوات جديدة في إدارة العمل السياسي السلمي قطعت مع أدوات طبعتها الستيناتية الانقلابية . ومع هذا التحول بدا من الصعب الآن استمرار الاقتراب من النموذج العلماني وفق النصوص النقية الأولى للجمهورية العلمانية التي أسسها ودعا إليها مصطفى كمال أتاتورك ، 3- لقد أفرزت التجربة الديمقراطية التركية انتقالا أكاد أقول نوعيا وفريدا في إصدار كل تيار أحكام إيديولوجية ضيقة اتجاه الخصم الآخر ، لقد استطاعت التجربة النجاح في إعادة صياغة الخطاب العلماني بطبعته الاتاتوركية ، والخطاب الإسلامي بطبعته السلفية الأولى . هذا الاستيعاب المتبادل بين الطرفين أثمر اعترافا متبادلا ساهم في النهاية من بناء تعايش مثمر للطرفين داخل الساحة التركية ، كما خلق قدرا من التفاهم على ركوب سفينة الديمقراطية ومحاولة الوصول بها إلى بر الأمان بشراكة متبادلة في قيادة دفتها. 4- بالرغم مما طبع وما يزال يطبع التجربة الديمقراطية التركية من سلبيات إلا أنها استطاعت أن تحتوي بشكل سلمي أكبر تقاطب سياسي إيديولوجي في العالم العربي والإسلامي ، وأشدهما حدة وقوة ، وهو الاستقطاب بين التيار العلماني والتيار الإسلامي ، وبصرف النظر عن المواجهة الديمقراطية أو شبه الديمقراطية التي واجه بها قطاع هام من النخبة العلمانية بتحالف مع فئة أخرى داخل المؤسسة العسكرية النجاح الباهر الذي حققته التجربة السياسية ذات الخلفية الإسلامية في حقبتها الأربكانية أو في حقبتها الأردوغانية ، في محاولة استبعاد هذه التجربة ديمقراطيا من ساحة الحكم ،إلا أن هذه النخبة بكل أجنحتها عادت لتعترف بقوة التيار الإسلامي وبخاصة فصيله السياسي الجديد حزب العدالة والتنمية وبقدرة هذا الفصيل على تبوئ تركيا المكانة المرموقة بسبب النجاحات التي حققها سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الدبلوماسي. -5- وختاما نقول: إن المتتبع للساحة الديمقراطية التركية يدرك تماما أن هناك قدرا معتبرا من حجم التطور والنجاح قد شهدتهما الساحة الديمقراطية التركية أدى إلى احتواء إحدى الإشكالات الكبرى بالمعنى الثقافي والسياسي داخل قيم وقواعد الديمقراطية والتعددية الحزبية ، واعتقد أن جزء من هذا الأمر قد يحصل في ظل التجربة الديمقراطية المغربية شرط أن يقوما الطرفين أو أطراف المعادلة بمراجعة حقيقة لمواقفهما ولخطابهما ولأدوات اشتغالهما . أذكر ويذكر معي كل متتبع للساحة الديمقراطية المغربية أنها ساحة مؤهلة لان تموقع التجربة الديمقراطية في مصاف التجارب الديمقراطية الرائدة ، وأنها ساحة في طور التخلق والتشكل ، وقد أمضت وقتا غير قصير ، وقطعت شوطا غير يسير وحققت قدرا غير قليل من النجاح ، فالمطلوب من كل الأطراف المعنية أن تحافظ على هذه المكاسب وتمضي قدما نحو تطويرها. إن كل الأطراف معنية أكثر من غيرها بالمساهمة في تحقيق قفزة أخرى في سبيل ترسيم دولة الحريات الحقيقية ، ودولة الدستور الحقيقي. *عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية