معركة من أجل الهيمنة على الثقافة يظن المرء أن هناك صراعا في بعض البلاد العربية، لكن الأمر هو بالأحرى لعبة مستمرة من التحالفات، اتفاق ضمني بين ثلاث قوى لا تتساوى في قدراتها، فالأصوليون الذين سُمح لهم ببسط نفوذهم على المجتمع قد تغاضوا عن إدراج السيطرة على السلطة السياسية ضمن أولوياتهم، أما المثقفون العلمانيون الذين تحميهم السلطة من تهديد الأصوليين فقد صمتوا عن التجاوزات الشمولية للسلطة، وركزوا نضالهم حول قضايا غير خلافية، في حين تستمر الدولة السلطوية، التي يسايرها المثقفون ويقبلها المتدينون، وتدوم. خلال القرنين الماضيين، ظل العلماء يرتابون باستمرار من الأشكال العصرية للتعبير الثقافي، دافعهم إلى ذلك خوفهم من أن تسمح هذه الأشكال للناس بإدراك حياتهم والعالم من خلال آليات منفلتة من الدين. لكن، ورغم احتجاجاتهم غير المجدية، فإن أغلبية الممارسات الفنية والثقافية كانت تحظى بالقبول. وفي الحقيقة، فبعض الإنتاجات (الفن المعاصر على سبيل المثال)، كانت تحمل بصمة الغرب ولا تهم سوى «الأفندية» (البورجوازيون المستغربون). كان هذا التسامح الحذر يندرج في إطار فكر ديني (الكلام) لا يُختزل الدين في سياقه في مجرد الشريعة، بل يحتضن أيضاً نوعاً من التعددية. لقد كانت عدة ممارسات أدبية وفنية دنيوية إلى هذا الحد أو ذاك (الشعر، الخط، الفنون التشكيلية، الموسيقى) تُعتبر موافقة للدين، حتى وهي تزعزع المواضعات. وتشكل أعمال تتسم بتنوع رائع وإبداعية جد جريئة، جزءاً لا يتجزأ من تاريخنا. كانت عظمة الإسلام تتمثل بالضبط في قدرته على استيعاب عدد لا يحصى من التأثيرات الثقافية. وكان العالم الإسلامي يحمي، يدرس ويطور التقاليد الكبرى للأدب والفلسفة الكلاسيكيين. وبدل إحراق الكتب، كان (هذا العالم) حضنا لتشييد المكتبات للحفاظ عليها. كما ظل، على امتداد مدة طويلة، ملاذا للوثائق المؤسِّسة لما سيُسمى لاحقا الغرب. لقد استوعب العالم الإسلامي كون هذا الإرث يجسد التراث الفكري للإنسانية جمعاء. ومع بزوغ الحركات الأصولية، رأى معيار جديد النور، معيار يوسَم عادة ب «السلفي»، تعتمد مرجعية تسميته على الرؤية الضيقة للأرثوذكسية الدينية التي يقوم عليها. إن كون هذا المعيار إيديولوجية مضمرة، ذلك أنه نادراً ما يتم التنصيص عليه في القوانين أو من طرف الإدارة، معطى لا ينقص إطلاقاً من نفوذه، بل العكس هو الصحيح. هذا المعيار لا يمتح سطوته من السلطة السياسية، بل من المكانة المحورية التي أصبحت القراءة المتشددة للإسلام تحتلها في رحم الهوية العربية: وهو يجسد المقاومة ضد الاستغراب والاستعمار الجديد. قبل عشريات من الزمن، كان هذا النمط من التدين يصطدم بالقومية العربية الزاحفة. أما الآن، فحتى الأصوات العلمانية المعتدلة تتردد في نقده علانية: إنها تخشى، بفعل انزوائها داخل فخ الهوية، من أن تبدو كعدوة للأصالة العربية من وجهة نظر النظام والمحافظين، بل وحتى عموم الناس. ومن بين الأمثلة الواضحة في هذا السياق، ثمة تلك المجموعة من الشباب المغاربة التي أرادت، في صيف سنة 2009، إفطار رمضان علانية خلال نزهة في حديقة عمومية. فبالإضافة إلى النقمة المتوقعة من طرف رجال الدين، أثارت المبادرة غضب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أهم حزب اشتراكي ديمقراطي في البلاد ، الذي طالب بمعاقبة المفطرين. ولقد تم التعبير عن هذا «التدين» اليساري بلغة مستعارة من الوطنية، ذلك أن نزهة الإفطار اعتُبِرت شاتمة للثقافة المغربية وخطيرة على التوافق الهوياتي. وبموجب ذلك، قررت السلطات متابعة الشبان المعنيين بتهمة «المس بالنظام العام»، وهي تهمة نادراً ما يتم اللجوء إليها، بحيث وُظِّف القانون الوضعي، في هذه الواقعة، كحجاب لحماية النظام الديني. إنه لم يكن بمقدور الطبقة السياسية قبول أدنى خرق للتعاليم القرآنية، وذلك ما فعلته بإجماع مكوناتها. هكذا، فالفضاء العمومي يتعرض تدريجيا للتأطير من قبل معيار ثقافي صارم، مُكوَّن من واجبات ومحظورات منبثقة من قراءة ضيقة للنصوص الدينية. إن الدين ينزع، بعد أن أصبح عنصراً محورياً في الإيديولوجية السائدة، إلى أن يُختزل في قراءته السلفية، وإلى إقرار منطق تغدو في سياقه الثقافة كافرة بعد أن كانت تعتبر، إلى حدود الآن، دنيوية. لقد حلت محل التصور المنفتح للإسلام المقترن بالثقافة، حلت قراءة خاملة للشريعة تحظر الثقافة. ومن ثمة، فقد تعرضت نقط العبور بين الحقل الديني المقدس والفضاء الثقافي الدنيوي للانسداد. ثقافة معولمة دنيوية ومع ذلك، فديناميكية إقرار السلفية لا تمنع الناس من تذوق وفرة من الإنتاجات الثقافية المبثوثة عبر التلفزيون، الفيديو، أنترنيت أو الأدب الشعبي. ومن المغري جداً حصر هذا الجيشان في الغرب والعولمة، ومن ثمة تحقيره عبر اعتباره «أجنبيا»، لكن هذا الموقف ينم عن جهل للمهارة التي تملك العرب بواسطتها مجموع مكونات الإنتاج الثقافي المعاصر. إننا نعاين، على مستوى النخب، شغفاً متزايداً بالفن المعاصر، تشجعه منظومة الرعاية التي تساهم فيها مؤسسات غربية ومنظمات غير حكومية ومَلَكيات الخليج. ومن جهته، فالشعب ليس في مأمن من تدفق إنتاجات الشركات متعددة الجنسيات، العاملة في مجال الترفيه والإعلام. وينضاف إلى انتشار المنتوجات الأمريكية الشمالية المنمَّطة، التوزيعُ الجماهيري للإنتاجات الثقافية المحلية (سواء تعلق الأمر بالقناتين الإخباريتين الجزيرة والعربية، أوبالمسلسلات التلفزيونية والأدب الشعبي، وخاصة كتب الإرشادات العملية أو الحياة الغرامية)، مثلما ينضاف انفجار الإبداع الموسيقي والفني الذي أصبح ممكنا بفضل الأنترنيت، والذي تتابعه الشبيبات العربية بحماسة. ويُرافَق تلاقح من هذا القبيل ، حتما ، بصنف تجاري و«مهرجاني» من الثقافة العربية الحديثة، وهذه ظاهرة غير مقتصرة على العالم العربي بمفرده، بل هي على ذلك، علما أن مداها يَدِين بالكثير لرجال الأعمال والمنعشين والوسطاء المحليين. وتعدم أغلبية هذه الممارسات الثقافية كل مضمون ديني، كما أنها مشبعة حد التخمة بالتأثيرات المعولَمة (ليس فقط الغربية ، بل كذلك الهندية والأمريكية اللاتينية، الخ)، ولذا، فهي تنطوي على طابع دنيوي تماما. ورغم تنامي الإسلام السياسي، فإن محاولات أسلمة الفن والثقافة تظل غير مثمرة نسبيا، بيد أن الفنانين والمنتجين، بفعل خضوعهم، في ذات الآن لإكراهات الثقافة المعولَمة ولنقيضها المعيار الديني، بيد أنهم يضعون في الواجهة صفتهم ك «مسلمين» رغم أن أعمالهم لا تمت بصلة للدين، بل تساهم أحيانا في دَنْيَوة المجتمعات. إنهم يؤكدون إذن، وهم يُغَلبون هذا الانتماء، هويتهم وليس ممارستهم الدينية. ثمة شكل من انفصام الشخصية نفذ إلى المنطقة: الثقافة الدنيوية تُستهلك في الحياة الخاصة أو في فضاءات شبه عمومية مجزأة بحذر، أما في الحياة العمومية، فالناس ينشغلون بإبراز هويتهم المُسْلمة للعيان عن طريق عدم ارتياد قاعات السينما مثلا، وبالذهاب إلى المسجد، وترك اللحية تنمو أو وضع الحجاب. وتتطور هاتين القارتين المكونتين للحياة الثقافية بشكل متواز، لكن المعيار الديني يبقى مهيمنا في الفضاء العمومي. ومن الخطأ تفسير هذه الظاهرة بواسطة التقسيم الاجتماعي بين النخب والفئات الشعبية. في القرن الماضي، كان بإمكان البورجوازية المستغرِبة، بكل تأكيد ، التمتع بمجموع مكونات الثقافة الدنيوية، بينما تظل العامة سجينة ثقافة تقليدية يهيمن عليها الإسلام. ورغم أن هذه القطيعة لم تُقبربعد، فتطورات التربية ومحاربة الأمية التي عرفتها العشرون سنة الأخيرة، مرفوقة بالتزايد الهائل لوسائل الاتصال (وفي مقدمتها التلفزيون والأنترنيت)، قد غيرت الواقع. أما استعمال لغات أخرى والاغتراف من ثقافات مغايرة، فلم يعودا امتيازا للميسورين بمفردهم. لقد بزغت تشكيلة متنوعة أكثر فأكثرمن الممارسات الثقافية. الشباب يقرأون الروايات، يشاهدون الأفلام، يطلعون على الوثائق، ينصتون للموسيقى ويتصفحون المدونات، وهم كثيرا ما يستعملون، للقيام بهذا، لغات غير اللغة العربية. إنهم لا يستهلكون منتوجات فحسب، بل يُتقنون (وأحيانا ينشرون بنفسهم) ممارسات ثقافية موسومة جوهريا بتأثيرات الشرق، الغرب والجنوب، وبالطبع الشمال. لن يوَلّد تنوع الثقافة الجماهيرية، ميكانيكيا، مسلسلا للدنيوة والدمقرطة، فالأمر يتعلق بالأحرى بتفريق بين مقرونين. وبالفعل، فنفس الشخص سيقرأ اليوم رواية غرامية، وغدا منشورا دينيا. سيتناول وجبة الغذاء متابعا قناة "إقرأ" الفضائية المخصصة للإسلام، ثم ينهي عشاءه أمام أحد كليبات "روتانا". خطايا سرية في الحياة الخاصة السلفيون تأقلموا تماما مع هذه الوسائل الجديدة من قبيل الأنترنيت، وهم يعتقنون توظيفها لصالحهم. ومن جهة نظر المتدينين، فاستهلاك الإنتاجات الثقافية الدنيوية يجب أن يظل خطيئة سرية، أما بالنسبة للسلطات، فمن الواجب أن ينحصر هذا الاستهلاك في الترفيه، وألا تتمخض عنه تبعات اجتماعية أو سياسية. كما أنه من المفروض على كل فرد احترام المعيار السلفي، حتى إذا كان ينزاح عنه في حياته الخاصة. وبشكل مفارق، فالخرق اليومي والفردي للتعاليم القرآنية في إطار الترفيه داخل البيت، لا يؤدي إلا لتدعيم هيمنة الديني، ذلك أن الخرق شخصي، بينما المعيار السلفي عمومي. وينتج عن توفيق هذين المعطيين نمط من السلطة الريديولوجية «اللينة» التي هي أنجح من الرقابة البيروقراطية. اللغة من جهتها لا تفلت من انفصام الشخصية هذا، علما أنها تشكل مرتكز الثقافة. لقد بوأ العلماء دائما، وطوال التاريخ، النص المكتوب درجة التعبير الأسمى عن العقل الإنساني، والحال أن النصوص باللغة العربية تبقي جد هامشية كميا في مجال الأدب، ذلك أن المثقف العربي لا يكتب باللغة الشفوية لشعبه. وثمة اتفاق بين القوميين والأصوليين حول نقطة بعينها، إذ لا يعترفون جميعا بغير العربية الكلاسيكية، لغة القرآن (الفصحى)، كوسيلة للتعبير ثقافيا. إن الفصحى تلحم ، القومية العربية بالنسبة للأولين، وتجسد صلة وصل العالم الاسلامي (الأمة) بالنسبة للأخيرين،. ومن الجلي أن هذا التصور لا يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات العميقة بين العربية الفصحى، التي لا تُتداول إلا نادرا خارج المدارس القرآنية، وبين عربية الشارع، بل وحتى العربية "المنمطة" المستعملة في وسائل الإعلام، الخطب العمومية والإنتاجات التخييلية الشعبية. وبالنسبة للكتاب، فالمهمة تبدو شاقة بالأحرى، ويكمن السب في أن الرواية جنس أدبي مشبوه نظرا لكونه يسبر أغوار الأسئلة الوجودية بطريقة انتهاكية مزدوجة، وذلك بفعل تحررها من الدين وجعلها اللغة العربية تتجاوز حدود الفصحى، وهو ما يشكل قطيعة تنتصب حاجزا في وجه بزوغ تعبير شعبي. نفس الصعوبة نصادفها في المجال القانوني. تحدد كل دولة نظرتها الذاتية للشرعية و «التطابق مع الإسلام»، وذلك عن طريق إعتماد مبادئ قانونية عصرية ضمن تشريعها في كثير من الأحيان، مع استرار اعتبار الشريعة المصدر الأساس لهذا التشريع الوضعي . وإلى حدود الآن، فإن هذه الازدواجية تفرمل إمكانيات التطور السياسي. لكن فرض القاعدة الدينية، في هذا المجال أيضا، لا يحدد بالضرورة الممارسات الفعلية للمحاكم أو الإدارة. إن الدولة العربية المعاصرة، وهي توافق على إضفاء الطابع السلفي على حقل الأخلاق والسلوك (الضغط من أجل ارتداء الحجاب، إغلاق قاعات السينما، الخ)، إنها توطد بهذا سياستها القائمة على التحالف المضمر مع العلماء، هؤلاء الحراس الرسميين للإسلام الذين يحرصون على نيل إنعامات النظام أكثر مما يحرصون على إصلاح هذا الأخير. ولا تتردد الدولة في التلاؤم مع التيارات الإسلامية «المعتدلة» التي يقوم برنامجها أساسا، على تعبئة المُنظرين الدينيين (وليس الشرطة) من أجل فرض التقوى في أوساط الناس. أما مجال عمل الدولة، فإنه ينحصر في حظر أكثر أحكام الشريعة قسوة (رجم الزاني والزانية على سبيل المثال)، مما يسمح لها بتنصيب نفسها، أمام المعتدلين في الداخل والملاحظين الغربيين، سدا منيعا ضد الأسلمة التامة للمجتمع ، ومع ذلك فمسلكها لهذا المنحى يجعلها تُصدق على أولوية السلفية كمعيار اجتماعي. وفي الوقت نفسه، يبحث المثقفون المتشبثون بالإصلاحات الديمقراطية عن حماية الدولة لهم من العلماء أو الأصوليين. وبالمقابل، نراهم يوافقون، أحيانا، على مساندة قادة الأنظمة. إن الحكومة، من وجهة نظرهم، وحتى وهي جد سلطوية، تمثل شرا أقل ضررا من الإسلاموية، وذلك نظرا لصيانتها لبعض فضاءات الاستقلالية الثقافية، ومحافظتها على الأمل المبهم في اللبلرة مستقبلا . هكذا، وخلال سنوات 1990، ساند مثقفون علمانيون الدولة الجزائرية في مواجهتها مع الإسلاميين. وفي مصر، استفاد الكاتب سيد القِمني من حماية الدولة بعد تعرضه للتهديد بالقتل، بل إنه حصل على وسام في يونيو 2009. ورغم عدم استعداد أي واحد من الفاعلين المتواجهين المعنيين للإقرار بالأمر، فإن الدولة تتلاءم أحيانا مع قوى إسلامية تُعتبر أقل تهديدا من الإخوان المسلمين مثلا. بل إنها تذهب إلى حد ضمان أقلية مستقرة لهذه القوى في البرلمان بصفتها معارضة. ويسمح تفاهم من هذا القبيل للدولة بقمع الجهاديين، ومعهم، في الوقت نفسه، الإسلاميين الراغبين في قلب النظام السياسي من الداخل. إن التوازن الهش بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين يشرع للسلطة أبواب مواصلة سياستها القمعية، تلك السياسة المتميزة دائما بالعنف، لكن المحدِّدة بدقة أكبر للضحايا المستهدَفين اليوم، والتوازن هذا يساعد، أيضا، على فرض المعيار السلفي. خيانة المثقفين يستطيع هذا الوضع الكابث أن يولد، في أوساط المثقفين، أشكالا مختلفة من الاستسلام السياسي. هكذا، فنحن نعاين «فرار الأدمغة» الواقعي أو الافتراضي. العديد من الفنانين والكتاب استقروا في الخارج، أو أصبحت يوجهون إنتاجاتهم لجمهور بعيد عن بلدانهم. والواحد منهم يقدم نفسه على أساس أنه «عربي» أو «مسلم» وليس مصريا أو تونسيا، أو يعلن انتسابه لهوية عناصرها المؤسسة شبيهة بالعناصر المؤسسة للسلفية، مثلما تجده يكتب بالفصحى ويعتبر أن صفة «عربي» مرادفة لصفة « مسلم». إن هؤلاء جميعا أعضاء في شتات جغرافي أو إيديولوجي، ومن ثمة فتواصلهم مع بلدانهم وشعوبهم صار مفتقدا، خاصة وهم يفضلون تعريف أنفسهم بنعت «العرب» المرحي على النوع. والحال أن كل ما يمكنه إثارة مخاوف الحاكمين يتبدد لما يعتنق المثقون قضايا غير خلافية مثل فلسطين أو العراق، بدل من الانخراط في ساحة الحياة السياسية الوطنية. المثقفون في العالم العربي والإسلامي لا يبالون بالنزاعات الاجتماعية في بلدانهم، كما أنهم يفضلون الذوبان في رحم الوحدة المجردة للمجموعة الدولية، وهم يقدمون على الأمرين معا نظراً، بالأحرى، لكون الاقتصاديات المحلية لا تمثل سوى قسط يسير من الدعم اللازم للفنانين والكتاب. ومن جانبه، فغياب سياسة وطنية لدعم الإبداع يغذي الفردانية وعزوف المنتجين الثقافيين عن السياسة، بل يصبح هؤلاء يسعون خلف الشهرة في الخارج والحصول على الموارد المالية منه. وعلى مستوى آخر، فكثير من رعاة الأدب والفن يفضلون الحقل الثقافي «المعقم» قصد إصلاح المجتمع. وهذه هي حالة «مؤسسة فورد»، «مؤسسة سوروس» أو محسني الملَكيات البترولية. هكذا، تعرض الأروقة الفنية وواجهات المتاجر الفاخرة في الخليج عدداً لا يحصى من الأعمال التي يُفترض فيها تجسيد الثقافة العربية الإسلامية، غير أنها تظل أعمالا منفصلة عن المجتمع بفعل تمويلها الغربي. وفي حقل الأدب، تشجع عدة جوائز، تُنافس بعضها البعض، «أفضل» إنجازات الثقافة العربية، ومنها جائزة الماجدي بن ظاهر للأدب العربي التي تمنحها مؤسسة «بلو متروبوليس» (لبنان)، أو الجائزة الدولية للرواية العربية الممنوحة من طرف «مؤسسة جائزة بوكر» (لندن) بدعم من «مؤسسة الإمارات». ليس ثمة ما يستوجب اللوم جراء مشاركة فنانين من منطقتنا، بلا تحفظ، في اللعبة الثقافية العالمية، بل إنه أمر يمكن أن يمثل تطوراً. لكن الفنان «العربي»، حين يحظى عمله بالتثمين دوليا، يكون مهدداً بالانفصام عن شعب بلاده، وبالتالي بفقدان كل دور تحريري. لقد أفسحت الأنترنيت المجال واسعا، بكل تأكيد، أمام فضاءات جديدة لإنتاج واستهلاك الأعمال الثقافية. لكنه، وإذا كانت الشبكة العنكبوتية تُضفي النجاعة على الحركات الرافضة الموجودة قبليا، فإنها لا تخلق في حد ذاتها وعيا سياسياً. أجل، بإمكانها توسيع مدى تعبئة ما، مثلما حدث في مصر (انتفاضة فايس بوك ضد الرئيس مبارك في ربيع 2008)، غير أنها عاجزة عن الحلول محل العمل الميداني الدؤوب الذي يستلزمه تنظيم الصراع. الحاصل أن الجهاديين مبحرون جيدون ومبدعون في الأنترنيت، وهم لا يترددون في توظيف السخرية أو النشيد، مثلما لا يجدون حرجاً في اعتبار معتقداتهم الدينية متلائمة مع الاختراعات التكنولوجية، ربما بسبب التمييز الذي يقيمونه بين الصورة الجليلة للمفكر وصورة المثقف. ومن جهة أخرى، فالأنترنيت تساهم في التوحد والتجزئة. إن مستعمليها يكونون، عموماً، مجموعات صغيرة متروية، تتواصل حصريا وأحياناً دون الكشف عن هوايات أعضائها عبر شاشات وسيطة، في إطار إنبيق ذي حركة دورية مسترسلة. ويسمح عدم الكشف عن الهوية للغاضبين بعرض راديكاليتهم دون تعريض أنفسهم لأية مواجهة مفتوحة مع الخصم وللعواقب المترتبة عن ذلك. إن المرء يستطيع، بواسطة الأنترنيت، السخرية من السلطة والهروب من العالم الواقعي في نفس الوقت. عقب تنكرهم للدور الذي كانوا يضطلعون به (والذي لازالوا يضطلعون به بين الفينة والأخرى إلى حدود اليوم ، مثلما هو الحال في إيران وتركيا)، لم يبق الفنانون والمثقفون رأس حربة الحركات الاجتماعية، السياسية أو الثقافية. لقد صاروا يشبهون، أكثر فأكثر، فئة من جلساء الأمراء المعششين في حضن الدولة، أو في حضن عرابين أغنياء ونافذين. صورة الفنان المعارض تبخرت، تلك الصورة التي كان يجسدها، سابقا، الكاتب المصري صنع الله إبراهيم أو المجموعة الغنائية المغربية ناس الغيوان. ففي مصر مثلا، يتحمل الفنان التشكيلي الطلائعي فاروق حسني منصب وزير الثقافة الآن. وفي سوريا، عينت مترجمة جون جوني، حنان قصاب حسن، في سنة 2008، مندوبة عامة لتظاهرة «دمشق عاصمة للثقافة العربية»، وهي تظاهرة مدعمة من طرف اليونسكو. وكيفما كانت أهمية أفكارهم حول الثقافة أو المجتمع، فإن بعض الفنانين، ومن بينهم، على سبيل المثال وائل شوقي (الذي شارك في معرض الإسكندرية المقام كل سنتين) أو هالة القوسي (الحائزة على جائزة أبراج كابيتال للأعمال الفنية الممنوحة في دبي)، يظلون في منأى عن كل التزام سياسي. ومع ذلك، فمن المحتمل أن يحبل تحديث الحركات الثقافية في العالم العربي يمكنه أن يكون بالخصوبة. فالفنانون المساهمون في سياقه يمتلكون رأسمالا رمزيا بقدرتهم توظيفه للدفع بعجلة التغيير إلى الأمام في بلدانهم. وبما أن التبعية للنظام القائم ليست الحل، فإن سبر فضاءات جديدة للاستقلالية الثقافية والتجريب بمقدوره فسح المجال أمام إعادة إحياء معارضة السلطات الاستبدادية التي تحكم الجزء الأكبر من العالم العربي. ثمة معطى لا جدل حوله: لكي يشجع الفعل الفني والثقافي الدمقرطة السياسية والاجتماعية، فإنه من الأهمية بمكان معارضة المعيار السلفي في ميدانه، وذلك عن طريق اقتراح بديل يحظى بالمصداقية،. وبعيداً عن اعتماد نموذج جاهز مسبقاً، فإنه من المهم الاغتراف من التقاليد العربية والإسلامية التي عدَّدت، طوال قرون، فضاءات الاستقلالية الثقافية. وسيُمثل هذا المعيار العمومي الجديد، المُكيَّف مع العالم ومع تقاليدنا، أحد أعمدة كل مشروع أصيل للدمقرطة. وليس من الممكن تشييد هذا المعيار على أساس إنكار التحدي السلفي، ولا على أسس الخضوع لشروطه. *عن "لوموند ديبلوماتيك" عدد غشت 2010. -ترجمة : "الاتحاد الاشتراكي"