أثارت التصريحات الجديدة لمبعوث الأممالمتحدة كريستوفر روس، بشان قضية الصحراء، شكوكا جديدة حول إمكانية إخراج المفاوضات المباشرة بين المغرب والبوليساريو من المأزق وإيجاد حل لعقدة نزاع دام لأكثر من ثلاثة عقود. تصريحات سبقتها أخرى لمسؤولين جزائريين تعيد الكرة من جديد إلى مربع العمليات الأول بهدف إحراج المغرب وتذكيره بأن لاشيء قد تغير في موقفها إزاء هذا الملف وأن لا أهداف تحققت من مبادرة الحل السياسي الأخيرة. لكن، وعندما ندرك حقيقة ما يقدمه هذا المشكل من حلول للجزائر ولأطراف دولية أخرى، و التي تعتبر القضية سلاحا احتياطيا مهما في حرب المصالح المشتعلة، فلن نجد لأنفسنا مبررا للاستغراب أمام تصريحات كريستوفر روس وآخرين. فمالذي تخفيه هذه الخرجات الإعلامية في ثناياها و ماهي خارطة الطريق التي ترشد إلى صحراء بلا نزاع؟ خلفت حرب الرمال وراءها عقدة لدى الجزائريين لم يجد العسكر فكاكا منها طيلة السنين الماضية، فعقدة هزيمتهم لازالت تخنق نفس إرادة الشعبين في تطبيع العلاقة بين بلدين جارين و عقد مصالحة شاملة وكاملة تخلص الجميع من عبء ماض يعيق مسار العلاقات باتجاه مستقبل للديمقراطية والتنمية. فبين عقدة حرب الرمال وعقدة الملف رسمت الجزائر خيطا مهترئا علقت عليه أمل الخلاص من أزمة الداخل و تحقيق نصر عسكري مفتقد وكذا تسويقها لصورة الدولة الداعمة " للشعوب المستضعفة". هكذا اهتدى الجنرالات إلى فكرة استثمار القضية وتحويلها إلى مجال لتصفية حسابات بفوائد كبيرة وتعزيز رصيدهم المالي وحصد أرباحا سياسية هامة لدبلوماسيتهم النشطة. لهذا فالتعويل على تغيير محتمل لموقف الجزائر إزاء قضية الصحراء يعكس جهلا لاحدود له لطبيعة قضية توفر لها ورقة سياسية بين يديها تحرك الخيوط المؤثرة داخل شبكة العلاقات الدولية . لقد استطاع العسكر، الحاكم الفعلي في قصر المرادية، أن يكتسب شرعية ثورية عبر إضفائه الصبغة النضالية على نظامه الديكتاتوري من خلال دعمه المشروط للبوليساريو لتصبح "القضية الصحراوية" موضوعا متداولا للرأي العام ومركز اهتمام للإعلام والنخبة على حد سواء في بلد المليون شهيد. فعقدة العسكر، المتحكم في زمام الأمور منذ استقلال الجزائر عن فرنسا، تتمثل في الرغبة في تحقيق نصر عسكري تحت أي عنوان، وإن على حساب العلاقات بين شعوب المنطقة التواقة إلى سلم دائم، قد يضمن في حالة تحقيقه إعادة الحياة إلى جسد اتحاد المغرب العربي الذي شلت حركته خلافات أعضائه المستمرة . فالنزاع شكل جبهة أخرى للصراع بين البلدين ومجالا لتصفية حسابات بفائدة كبيرة على البعض وخسائر فادحة على الشعوب ، فالفاتورة الثقيلة التي تخصص للجيش المغربي والتي تقدر بعشر مليارات سنتيم يوميا تعكس حجم الاستنزاف الذي ينخر ميزانية دولة لازالت تنتمي إلى نادي الدول المتخلفة. حرب صامتة، إذن، هي التي نشهدها اليوم دائرة رحاها بين دولتين يمزقهما الفقر والتخلف رغم الموارد البشرية والمادية التي لم تتح لها الفرصة لتدفع بعجلة التنمية نحو مستقبل أفضل. فظل صراع القيادات لمدة طويلة يُوفر مشجبا عُلقت عليه المسؤولية عن وضع التخلف الذي يبدد أمال الشعوب في الوحدة والديمقراطية. وإذا كان الكثير يعتقد أن الجزائر وحدها تزعج الأصوات المنادية بحل لهذه القضية فان الحقيقة أن مزيجا غير متجانس أفرزته تفاعلات المعادلات الداخلية والخارجية ساهم بشكل كبير في جعل هذا الملف مصنفا في رفوف الملفات الأكثر تعقيدا في العالم. فشهية الجنرالات المفتوحة عن أخرها لخلق توتر على الأراضي المغربية تقتسمها معها أطراف أخرى بالداخل والتي منحها النزاع الممتد لعقود فرصة للاغتناء غير المشروع وتبذير لأموال الدولة دون حسيب ولا رقيب. إن الحقيقة التاريخية هنا لاتكفي وحدها لتجعل العالم يلتفت إلى المغرب باعتباره ضحية لمؤامرة، خصوصا إذا علمنا أن هذا العالم نفسه لايرى مصلحة في إيجاد حل لهذه القضية التي تعتبر بالنسبة إليه كذلك موردا سياسيا احتياطيا يمكن الرجوع إليه عند الضرورة للضغط على المغرب لدفعه يستجيب لدعوات ومبادرات مُحرجة. إضافة إلى ماسبق، فالجزائر تستثمر موقفها الداعم للبوليساريو لعقد صفقات الأسلحة الأكثر تطورا تحت مبرر تعزيز قوتها لمقاومة أي هجوم محتمل من الجار "العدو"، صفقات تدر عليها أرباحا طائلة وعلى الشركات المصنعة التي تربطها علاقة غير بريئة مع السياسيين. فبالرغم من أن كفة التفوق العسكري تميل لصالح الجزائر اليوم، فان الحكام في قصر المرادية مصممون على اقتناء المزيد من المعدات العسكرية المتطورة والإمعان في عقد المزيد من الصفقات مع كبريات الدول المصنعة. فقضية الصحراء، بالنسبة للجزائر، كما لدول غيرها، تشكل جبهة قوية في هذه الحرب غير المعلنة على المغرب لإفقاده التوازن الضروري للسير قدما إلى الأمام و ضمان أسهما وسندات للنظام الجزائري يحتاجها العسكر في معاملاتها الداخلية والخارجية. مقابل ذلك، وللأسف، فعوض أن تباشر الدولة المغربية ورشات الإصلاح الديمقراطي الحقيقي الذي يذيب بداخله كل نزعات الانفصال المحتملة ، فقد ساهمت في إضافة المزيد من العُقد داخل النسيج القبلي لتتشكل، نتيجة لذلك، لوبيات قوية لا ترى مصلحة في نهاية لهذا المشكل والذي يوفر دوامه أصلا تجاريا مهما وأوراقا ضاغطة تخدم مصالحها وتحصن مواقعها على الخريطة السياسية والاقتصادية. الآن وبعيدا عن موقف الجزائر المعروف، والذي تحركه دوافع لاعلاقة لها بالدفاع عن مبدأ تقرير المصير، وبعيدا عن موقف المنتظم الدولي الذي لا يستوعب إلا لغة المصالح، وبعيدا عن رغبة أقلية تنزع إلى انفصال، والتي ليست في جوهرها سوى تعبيرا عن غبن وانتقام من سياسات ظالمة، فإن الحل الأول والأخير يكمن في شق طريق المصالحة الذي يبدأ بإرساء العدالة كقاعدة لبناء الثقة المفقودة. إن الولادة الطبيعية والسليمة لأي حل نهائي لن تكون إلا في حضن الوطن، حيث يلزم أن يسبقها مخاض سياسي مكتمل. فلقد تبين أن الكثير من الخطط والمبادرات آلت إلى الفشل لأن مجال التجربة يطفح بما يكفي من أسباب الإجهاض. لهذا فلا طريق للمغرب إلا طريق واحد يضمن الوصول السليم إلى محطة الخلاص حيث يلتقي المغاربة جميعا حول تقرير المصير للوطن كله، فالديمقراطية ليست مجرد آلة أنتجت انتخابات نزيهة وفصلت بلا غموض في السلط، فهي بالأساس فضاء رحب يقتنع المرء مطمئنا بداخله أن لا قوات عمومية ستقتحم عليه بيته و أن لا مجرم سيفلت من العقاب و أنه سيتساوى مع الكل بلا استثناء تحت سلطة قانون يسري علي وعليك وعلى الصحراويين. [email protected]