ولجت مؤخرا إحدى الصيدليات قصد اقتناء دواء قيل لي بأنه فعال ضد روماتيزم المفاصل. و قبل أداء ثمنه رغبت في معرفة ما إذا كان لاستعماله آثار جانبية فطلبت مقابلة الصيدلي شخصيا باعتباره قطب الرحى بصيدليته أو هكذا يفترض أن يكون و إيمانا مني بمحدودية المعلومات الطبية و الصيدلانية للمساعدين و التي لا تتجاوز في بعض الأحيان حدود أسماء الأدوية الأكثر تداولا و اقتناعا مني أيضا بأن مهمة هؤلاء يجب ألا تتعدى حدود بيع الأدوية الأكثر شعبية و جمع مكونات الوصفات الطبية التي يدلي بها المرضى مع استخلاص ثمنها ، إلا أن مخاطبي أجابني بسذاجة الأطفال و ربما بمكر الكبار أيضا بأن المبحوث عنه غائب و بأنه لا يأتي إلى مقر عمله إلا في المساء قبل ساعة الإقفال بقليل. و طبعا ، لا أعتقد عزيزي القارئ بأنك ستعجز عن فهم السر الكامن وراء هذا الحضور "المتميز" في هذا الوقت "المتميز". وقبل فترة سمعت عن مستخدم بدأ مشواره المهني مكلفا بتنظيف إحدى الصيدليات و فتح بابها و إغلاقه. و بعد سنوات قليلة من العمل بهذه الصفة رقاه مشغله إلى منصب بائع، بل إنه لا يتوانى اليوم عن إسداء النصح و تقديم الإرشادات و فك ألغاز الوصفات. وقد جاءت هاتان القصتان القصيرتان جدا و اللتان قد تدرجان في أماكن أخرى من أرض الله الواسعة ضمن قصص الخيال العلمي فقط لتؤكد لي و للمرة الألف الصورة الجديدة التي أصبحت عليها ممارسة مهنة الصيدلة بالمملكة و المتميزة بالغياب شبه التام لفئة عريضة من الصيادلة عن صيدلياتهم ، و هذا السلوك ليس له من تفسير غير الاستهتار بهذه المهنة الشريفة و الاستخفاف بصحة المواطنين. والآن وقد أصبح للصيدلة مفهوم جديد في أذهان الكثيرين لا يسعني إلا أن أقوم مقام المرضى و عموم المواطنين في طرح مجموعة من الأسئلة الملحة : أولا، ما الداعي إلى إحداث كليات الصيدلة و تجهيزها و تأطيرها و تنظيم مباريات ولوجها و امتحانات التخرج منها بما أن المعني بكل هذه المجهودات لا يمارس علمه على أرض الواقع بعد تخرجه في حالات عدة و يكتفي باستعمال شهادته مطية للحصول على رخصة الاستغلال التجاري للأدوية ؟ ثانيا، ما الداعي إلى حث الناس باستمرار و بشتى الوسائل على استشارة الصيدلي خاصة في غياب وصفة طبية قبل الإقدام على استهلاك الأدوية ما دام هذا الأخير قد قرر تفويض أمر تسيير صيدليته إداريا و تجاريا و حتى علميا لمساعديه الذين لا يتجاوز مستواهم الدراسي في بعض الحالات سقف الإعدادي ؟ ثالثا، ما الداعي إلى التشكيك في كفاءة خريجي كليات و معاهد الصيدلة بدول أوروبا الشرقية و تنظيم حملة شرسة ضدهم بهدف تعقيد شروط إدماجهم في هذا القطاع بما أن الوضع الجديد يستوي فيه الذين يعلمون و الذين لا يعلمون ؟ رابعا، لماذا لا يفتح المشرع المغربي مجال ممارسة هذه المهنة في وجه كل من يرغب في ذلك بما أن الصيدلة أصبحت محصورة في جانبها التجاري و بالتالي يكفي لولوج عالمها أن يتوفر المرشح لممارستها على "حانوت" و رأس مال و مساعد أو مساعدين؟ خامسا، هل يستحق المرضى هذا السلوك خاصة عندما نعلم أن مصدره يا حسرة أناس يشكلون واحدة من شرائح المجتمع المتنورة ؟ سادسا، أين هو دور المجلس الوطني و المجالس الجهوية للصيادلة في تنظيم هذه المهنة و تفعيل قانون ممارستها بالشكل المطلوب ؟ سابعا، أليست للحكومة بكل أجهزتها القدرة على تخليق هذا القطاع بإعادة الأمور إلى نصابها أم أن انشغالها بالترشح لاحتضان مونديال 2086 لكرة القدم سيجعلها دائما تعتبر إثارة هذه الظاهرة مجرد زوبعة في فنجان ؟ ومما يثير الاشمئزاز فعلا أنه تكاد لا تخلو صيدلية واحدة من ذكر اسم صاحبها مسبوقا بلقب "دكتور" إما على الواجهة أو على رف من الرفوف بل من الصيادلة من يعمدون أيضا إلى طبع أسمائهم و أسماء صيدلياتهم على حافظات المفاتيح و اليوميات التي يوزعونها "مجانا" إلى درجة أن العديد من الصيدليات أصبحت مرتبطة بأسماء أصحابها في أذهان الناس أكثر من ارتباطها بأسمائها التجارية، لكن عندما تجازف بالبحث عن الدكتور المحترم لا تجد له أثرا لا داخل حدود صيدليته و لا حتى داخل حدود قريته أو مدينته أو إقليمه أحيانا. حتى تلفزتنا لا تنتابها ذرة من الإحراج و هي تستجوب المساعدين الصيدلانيين في غياب الصيادلة عندما تتطرق في نشراتها الإخبارية إلى موضوع له صلة بالأدوية. قد يقول قائل إن من حق أي صيدلي أن يوسع نشاطه التجاري بإقامة مشاريع إضافية تعود عليه بمزيد من النفع خاصة أمام التراجع الذي تشهده أرقام معاملات مجموعة لا يستهان بها من الصيدليات، و من حقه أيضا ممارسة ما يشاء من الهوايات و هذا ما يفسر فعلا غيابه في العديد من الحالات.طبعا هذان أمران مشروعان ، لكن لا أظن بأن الأخلاق المهنية تسمح بتجاهل مصلحة المرضى و اعتبار الصيدلية مجرد آلة لسك النقود و التفرغ لمشاريع لا علاقة لها بالصيدلة و من الأجدر تفويض تسييرها لذوي الاختصاص، كما أن القيام بالواجبات يأتي منطقيا قبل التعاطي للهوايات. لا شيء إذن يبرر ابتعاد المحامي عن محكمته و الموثق عن ديوانه و المترجم عن مكتبه و الطبيب عن عيادته ... و الصيدلي عن صيدليته إلا الظروف القاهرة أو العطل الرسمية أو التقاعد بكل أنواعه. إن منطق الأشياء يفرض على كل منا احترام تخصصه خاصة عندما يهم هذا التخصص صحة الناس و أرواحهم. و كما أنه من غير المعقول استبدال طبيب بممرض و معلم بتلميذ نجيب و مهندس بعامل بسيط... فإنه من غير المستساغ كذلك اضطلاع المساعد بمهام الصيدلي و تقمص هذا الأخير لدور الفلاح مثلا، إذ هناك فرق كبير جدا بين تدبير الأدوية و زراعة الطماطم. إن الوضع الاعتباري للصيدلي يفرض عليه ترجمة علمه المكتسب إلى ممارسة فعلية وإدراك أهمية دوره في المجتمع ونبل مهمته و حجم مسؤولياته . فهو ضمن مهام أخرى مطالب بالإشراف شخصيا على مختبر صيدليته، و من واجبه أيضا العمل على تقويم الأخطاء غير المتعمدة التي قد تتسلل إلى بعض الوصفات الطبية بتنسيق مع الأطباء المعنيين بها، إضافة إلى تقديم الإرشادات للمرضى الذين يعانون من مشاكل صحية بسيطة ، و مراقبة تداول الأدوية خاصة الخطيرة منها. و الأكثر من هذا و ذاك ، على الصيدلي أن يضفي نوعا من الهيبة على صيدليته و هذا الأمر لا يتحقق بالزيارات المحدودة و المتقطعة أو بالمتابعة السلكية و اللاسلكية لحركية بضاعته و تطور المصاريف والمداخيل بل يتأتى بحضوره المنتظم و باستعداده الدائم لإقامة حوار حقيقي مع كل من أجبره المرض على طرق بابه. ختاما، تجدر الإشارة إلى أنه في بعض بلدان المعمور و المقصود هنا تلك البلدان التي ترفض رفضا قاطعا الفصل بين حقوق الإنسان و واجباته و لا تسمح بأي تداخل بين المسؤوليات و النزوات تشترط السلطات الطبية توفر صيدليين اثنين قبل الترخيص بفتح أية صيدلية لضمان تواجد أحدهما على الأقل بها إذا ما اضطرت الظروف تغيب الآخر لسبب من الأسباب . أما فتح الصيدلية في غيابهما معا فهذا أمر مستحيل، و حتى إذا ما قدر الله وقوعه فقد يكون ذلك سببا كافيا ليس لإغلاقها فحسب بل و لخروج حكومة و دخول أخرى أيضا إذا ما اتضح بأن الدوائر المسؤولة لم تتعامل مع النازلة بالصرامة التي تقتضيها المصلحة العامة. ولصيادلتنا و مشرعينا و جهازنا التنفيذي واسع النظر.