ظاهرة الخطاب الديني العنيف والمتشدد أصبحت أمرا معلوما، وحالة مرضية تحتاج بطبيعة الحال إلى المعالجة والإصلاح؛ لكن السؤال من أين تبدأ هذه المعالجة؛ هل بتصحيح مسار هذا الخطاب وترشيده ليساهم بدوره في بناء المجتمع؛ أو برفض الأصل الذي يصدر عنه، وهو الدين نفسه؟ هناك توجهات دينية عنيفة ومنغلقة؛ تكمن مشكلتها في أنها أوهمت نفسها، أو خُيّل لها أنها صاحبت الفهم الصحيح والوحيد للدين، بل لا ترى خطابها مجرد فهمٍ للدين، وإنما هو الدين نفسه؛ فليس لديها فاصل بين نصوص الوحي وبين ما تنتجه من رؤى وأفكار حول الدين؛ لذا فهي موغلة في الشعور بالأنا، ورفْض الآخر، واستعمال مختلف أساليب العنف اللفظي ضده، ما يجعل المرء يعتقد وبكل جزم أنه لو يصبح لهؤلاء قوة تنفيذية لما ترددوا في استعمال العنف المادي أيضا، لإزالة هذا الآخر وسحقه ومحوه من الوجود؛ والآخر هنا، هو كل مخالف للتصور الديني الذي تعبر عنه هذه التوجهات، فيشمل المسلم، والمواطن، والإنسان بصفة عامة..إلخ. وفي المقابل هناك مَن يرى أن المشكل هنا لا يتعلق بهذه التيارات وسوء فهمها للدين، وإنما يعود إلى المنبع الذي تصدر عنه، أي أن الخلل ليس في فهم الدين وتوظيفه جيدا، وإنما الخلل في الدين نفسه؛ ومن ثَمّ يرى هؤلاء وحسب تعبيرهم؛ أنه "آن الأوان لنسترجع ضمائرنا كاملة وسليمة، ونتخلص من مهزلة دموية يعود تاريخها إلى جدنا إبراهيم...!! هذان الخطابان معا؛ وإن اختلفا جذريا في التوجه الإديولوجي، بحيث إن أولهما لا يرى الناس إلا مؤمنين وفق رؤيته الدينية، وثانيهما يتصورهم لا دينيين قد قطعوا صلتهم بالله تعالى..إلخ؛ إلا أنهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة، مفادها رفض الآخر، وعدم القبول به، إلا على أساس التخلي عن قناعاته الفكرية والعقائدية ليتحول نسخة طبق الأصل للطرف الآخر؛ فالمجتمع وفق هاتين الرؤيتين المتضاربتين، إما أن يكون كله مؤمنا موحدا، وإما أن يكون لا دينيا قد قطع أي صلة له بالدين. كلا الخطابين يقوضان دعائم المجتمع المدني ومفهوم العيش المشترك من دون شك، إذ أن كلا منهما يحتوي على جرعة زائدة من إقصاء الآخر ورفضه. التّدين أمر فطري، والإيمان قيمة مضافة في الإنسان، الغاية منه بتعبير القرآن الكريم، تهييء الإنسان للاستخلاف في الأرض وإعمارها بالخير والصلاح؛ ومن ثَمّ فإن دعوة الناس إلى قطع صلتهم بدينهم وعقيدتهم، على أساس أن ذلك مهزلة مأساوية يجب إنهاؤها والتخلص منها..!! هي دعوة أبعد ما تكون عن رؤية عقلانية ونية صادقة في الإصلاح، إذ لايشك عاقل أن هذه الدعوة من قبيل ما يستحيل تنفيذه عادة، وبالتالي من العبث إرهاق الذهن في الدفاع عنها وإقناع الناس بها؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن غاية الدين قد تضيع طبعا إذا ما تمّت الدعوة لها من خلال الخطابات الدينية الرائجة اليوم، والتي أربكت الحقل الديني وخلطت أوراقه، وولدت في المجتمع تشنجات واحتقانات دينية وثقافية أنهكت الشعوب الإسلامية وساهمت في عرقلة مسيرتها.. إلخ. والبديل المطلوب، الذي يجب أن تتظافر من أجله الجهود، هو العمل على التأسيس لخطاب ديني رزين، يساهم بدوره في بناء مجتمع مدني يتساكن فيه الناس على أساس المواطنة والعيش المشترك، بغض النظر عن توجهاتهم، وقناعاتهم الفكرية وانتماءاتهم الدينية والمذهبية؛ الخطاب الذي يبُثّ في القلوب معانيَ الإيمان والإحسان ونَفْعِ عباد الله تعالى، عوض الخطاب الذي يربي الناس على الحقد والكراهية وبغض الآخرين؛ الخطاب الذي يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبين جمالية الإيمان، ويقِيمُ للعلاقات الإنسانية وزنها ..إلخ؛ عوض الخطاب الطائفي الذي يشتت المجتمع إلى فِرَق وشِيع متناحرة؛ ويُنصّب نفسه حاكما على الناس، يتلذّذ بإطلاق ألفاظ التّضليل والتّبْديع والتّفْسيق والتكفير عليهم ..إلخ. إصلاح خطابنا الديني وترشيده ليكون واحدا من دعامات المجتمع المدني، يتوقف طبعا على مجموعة من العوامل، من أهمها بيان تهافت بعض الصيحات التي تؤسس لنشر الكراهية بين أفراد المجتمع باسم الدين، وتوهِمُ الناس أن ذلك من المسلّمات التي يجب القبول بها، ولا يجوز رفضها. ولنقف مع بعض النماذج من هؤلاء، لندرك أن ما يحتجون به من نصوص دينية لنَفْثِ سمومهم في المجتمع؛ لا يمكن التسليم به إطلاقا؛ وهو مجرد خطاب وعظي يدغدغ العواطف ويشوش الذهن، غير أنه في الوقت نفسه لا يخدم الدين ولا يبني المجتمع. ذكر بعضهم في معرض تبرير سلاطة لسانه وتهجمه على غيره من أفراد المجتمع، أن ذلك مأذون به شرعا، وهو مما يتعبد الله تعالى به، وأنه كان من سنة العلماء المخلصين، وذكر منهم الإمامين أحمد بن حنبل وابن تيمية!! وساق في ذلك أدلة بطابع وعظي كان منها، أن الإمام أحمد سئل: "الرجل يصوم ويصلي ويعتكف. أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع"؟ فكانت إجابته: "إذا قام وصلى واعتكف، فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع، فإنما هو للمسلمين وهذا أفضل". ثم ذكر قول الله تعالى: " وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا". النساء /140 كأنه دليل قطعي لما اختاره الإمام أحمد وغيره في هذا المقام. وقفة قصيرة مع هذين الدليلين نكتشف من خلالهما القصور الفكري لدى هذا الخطاب، وأنه من السذاجة القبول بمثل هذه النصوص كأدلة لنشر الكراهية بين أفراد المجتمع باسم الدين. قول الإمام أحمد رحمه الله، مفاده أن الكلام في أهل البدع، أفضل من قيام الليل والاعتكاف..إلخ. فإذا ما أخضعنا هذا الكلام للميزان الشرعي، فسنقف على الأقل على الملاحظات التالية: أولا، أن هذا الكلام ليس وحيا، فلا هو قرآن ولا سنة، وبالتالي فإنه مجرد رأي لا قداسة له؛ وهنا نكون أمام مسألة التراث وكيفية التعامل معه، وهي قضية اشتغل عليها مجموعة من العلماء المعاصرين كان منهم عابد الجابري رحمه الله؛ ويجب مواصلة العمل عليها بُغْية الوصول إلى توظيف جيد لهذا التراث في حياتنا الثقافية والاجتماعية؛ ذلك لأن كثيرا من نصوص تراثنا الإسلامي قد قيلت في سياق زماني ومكاني مختلف عن وقتنا الحالي، فلا يمكن اجترارها عبر مراحل التاريخ كله ..إلخ؛ هذا فضلا عن أن هذه النصوص ليست من قبيل المقدسات كما أشرت. ثانيا، مفهوم البدعة أو أهل البدع؛ وهو مصطلح تغيرت دلالته والمراد منه من عالِم لآخر؛ ونتيجة لظروف زمانية ومكانية مختلفة؛ كما لا يخفى أن الإمام أحمد رحمه الله كان مغاليا في هذه الناحية؛ وصراعه مع الإمام الحارث المحاسبي، نموذج شاهد على هذه المسألة؛ فالتساهل في نقل مثل هذه النصوص واقتطاعها من سياقها التاريخي، يجعل مصطلح أهل البدع فضفاضا يمكن رفعه في وجه كل مخالف، وهو ما نشاهده اليوم بين كثير من التيارات الإسلامية، خاصة تلك التي تسِمُ نفسها بالسلفية، حيث التراشق بالبدعة والابتداع أصبح أمرا مألوفا لديها ..إلخ. ثالثا، كلام الإمام أحمد يحتاج إلى إثباتٍ على مُستويَيْن، أولا، يجب إثبات أن الكلام في أهل البدع بهذا الإطلاق جائز شرعا؛ ثانيا، يجب إثباتُ كونِه أفضلَ من قيام الليل؛ وكلا الأمرين لم يتم، إضافة إلى أن فضل قيام الليل دلت عليه كثير من الأحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم "أفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةِ : صَلاَةُ اللَّيْلِ"؛ لذا فكون الإمام أحمد أو غيره من العلماء قال هذا الكلام لا يعني أنه مسلّم لهم. بناء على هذه الملاحظات؛ وإضافة إلى أن هذا النص من شأنه أن يؤدي إلى تسميم العلاقات الاجتماعية، خاصة لما تتلقّفه بعض العقول النزّاعة إلى بث الطائفية بين أفراد المجتمع، يصبح رد هذا النص وأمثاله أمرا واجبا..إلخ. وبالعودة إلى الآية وهي قوله تعالى: "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ .." إلخ؛ نجدها أبعد ما تكون عن كونها دليلا يبرر الهجوم على الآخر وإظهار الكراهية نحوه؛ بل هي على العكس من ذلك تماما تدل بمنطوقها ومفهومها على ضرورة احترام الآخر وعدم الاستهزاء بعقيدته وفكره. فالآية بمَنطوقها، تدعو المؤمن إلى عدم الجلوس مع أشخاص يتهكمون عليه ويستهزئون بعقيدته ودينه؛ وهذا موقف طبيعي يتخذه كل إنسان بسبب الدين أو اللغة أو الهوية بصفة عامة..إلخ؛ فإذا ما جاسلتَ مثلا شخصا، وأخذت تستهزئ بلغته أو عِرْقه..إلخ؛ لا شك أنه سيفارقك، هذا إذا لم يعنّفْك ..إلخ؛ والآية هنا حدّدت الموقف الذي يجب أن يتخذه المسلم في مثل هذه الحالة، وهو ترك هؤلاء دون معاملتهم بالمثل، أي من غير شتمهم أو الاستهزاء بعقائدهم ومذاهبهم؛ بل إن الآية لم تأمره بالانصراف إلا إذا أمْعَنَ هؤلاء في استهزائهم، ولم يتحولوا عن ذلك إلى كلام مسؤول يراعي مشاعر الآخرين، فقال تعالى: " حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ "؛ هذا منطوق الآية. أما مفهومها، أن هذا الآخر، الذي يدين بعقيدة أخرى، أو لا يدين بأي دين، إذا راعى بدوره الاحترام المتبادل، فلم يستهزئ بعقيدة المسلم، ولم يتهكم على إيمانه، فإن العلاقة لن تنقطع وستستمر؛ فالآية تدعو إلى احترام خصوصيات الأفراد الفكرية والعقائدية من أجل الحفاظ على العلاقات الإنسانية؛ ذلك لأن الإيمان بعقيدة ما، ينبني في جزء منه على الحب والعاطفة، فالاستهزاء بما يعتقده الإنسان، يعني بالضرورة مسّ أحاسيسه وجرح مشاعره؛ ولذا نجد القرآن الكريم ينهى المسلمين عن التعرض لمعتقدات الآخرين أو سبّها، مع أن القرآن يصرح بأن تلك العبادات غير صحيحة بمنظور الإسلام؛ فيقول تعالى: " وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" الأنعام/ 108. أخيرا أقول، إننا مطالبون بتصحيح مسار مثل هذا الخطاب الديني سواء بطابعه العنيف والمنغلق على نفسه، أم بطابعه الوعظي الذي ححب الرؤوية الحقيقة عن مفهوم الدين والإيمان، ليكون الإيمان بالله تعالى قيمة مضافة في المجتمع، ترسخ معاني الإنسانية والعيش المشترك. والله ولي التوفيق. *إمام/ألمانيا [email protected]